في كل شبرٍ هنا ... لي ذكرى
و في كل ذكرى تركت جزءاً من روحي
واليوم ... ها أنا أجمعها
ظننت قرار عودتي سهلاً وأن جمع أشلائي سيكون غاية السهولة ...
أقف في منتصف الطريق ...
غيري لن يراه إلا طريقاً " محفراً " إن أتى بسيارته عليه ستحتاج صيانةً كاملةً
أما أنا أرى نفسي في كل ذكرى تناسيتها فيه .
تحترق الذكريات داخلي متزاحمة للخروج ، ذكريات ظننت أنني استطعت إماتتها ، حتى أنني أقمت عزاءها داخلي من سنين ، نصبت قبورها ولم أستذكر زيارتها حتى ، كي لا تأمل مني إحياءها ..
كيف لرائحة جوٍّ ، كيف لطريقٍ من بضعةِ حجارةٍ أن يعيد ما يعيده هذا الطريق لي ...
عن يميني أنا و صديقاتي و لعبة " فتّحِ يا وردة "
و عن يساري شجرةُ " الكرمنتينا " و إحدى ليالي الصيف حين تسلقتها خفية مع ابن خالي ، و قطفنا الكثير ، و حين تقشيره تركتُ ندبة في يدي إلى اليوم تُذكّرِني بفعلتي التي رأتها أمي شنيعة ؛ لتوبيخ جارتنا المستمر لنا ، و التي أراها أنا حياةً أخرى ...
كلما ضاقت عليّ جدرانُ الغربةِ تلمستها ، و عدتُ بي إلى ذلك اليوم
- و يكأني تركتها عمداً -
في منتصف هذا الطريق إلى الأمام قليلاً " حفرة " ، تعانق ماء المطر شتاءً محتفيةً بعودته إلى حِجرها ، مسببة ازدحام بسبب ابتعادنا عنها إلى جانبي الطريق
تلك الحفرة ... جديرةٌ بالأمانة أكثر مني
صانت طريقاً ... لم أستطع !
رداً لِدَين هذا الوطن عليها ؛ إذ سمح لها بمكانٍ متواضع في منتصف طريق ما داخله تزيلُ شوقها فيه كل شتاء .
فارقتُ أنا طريقي
و أصرّت هي على البقاء
في الشمال الشرقي أحاول النظر بخلسة ، فهناك يجلس شابٌ أوسم ما رأت عيني - حين كنت في بداية شبابي -
سأقول سرّي علناً و أتحرر منه ، ذاك الشاب هو حُبّي الأول
أما في الشمال الغربي فأراني و صديقتي على " البرندا " مع أحاديث الفتيات المُريبة و الغبية بعض الشيء .!
اليوم ، أنا و هي لا يُنقذنا من غربتنا سوى اتصال هاتفيّ على أحد برامج " السوشال ميديا " لنُذهب بعض الشوق ، و ندفن مزيداً من الذكريات ، برؤية و سماع بعضينا .
كُلُّنِي في هذه الذكريات ، أتيتُني طعناً
و في كلّ طعنةٍ استعدت جزءَ روحي الذي فيها ...
في الغربة ، نظنّ أن " الشوارع " حفظتنا و حمتنا و ستحمينا
لكننا مهما حدث لسنا أبناءها و يوم التخلي يقترب
في سنواتِ الغربة الستة ظننت أنني حيةّ
أنني كنت قوية للمُضي في حياتي
أنني اجتزت كل امتحانات المغتربين التي سمعت عنها ؛ باجتيازي أوقاتاً وحده الله يعلمُ كيف نجوت باختباره لي فيها .
لكنني اليوم بعودتي لطريقي و حجارتي ، لذكرياتي و روحي
خاب ظني حين أدركت أنني ما كنت إلا شخصاً ميتاً حيّ
و ما كان يجب عليّ أن أكونه هو شخصٌ حيٌ حي .
غسان كنفاني يقول : " لا تُصدق أن الإنسان ينمو ، لا إنه يولد فجأة ، في لحظةٍ ينشقّ صدره عن نبضٍ جديد ، مشهدٌ واحدٌ يطوح به من سقف الطفولة إلى وعر الطريق "!
آمنت جداً بمقولته
لكنني صُدمت بولادتي الثانية ، ليس كوني شاهدةً عليها بل لأنها كانت من الشنائع التي ما رغبت يوماً بها
أما اليوم ، هو يوم ولادتي الثالثة ، يوم عودتي لنفسي ، أمنياتي أن يكون يوم ولادتي الجديدة الوحيدة !
أخطو أولى خطواتي ... بعد هذا الكم الهائل مما استذكرت و لم أستذكر
يا الله !!!
و كأنني طفل استصعب تعلّم السَيرِ بعدَ حَبوٍ لسنين ، و ليس أشهر
أتعلم المشيَ للمرة الثانية
و أول ما سِرْتُ له ... لي .