كعادتها كل ليلة ترنوا الى رُكنها الذي تعيرهُ كل اهتمامها ، طوال اليوم يظل مهجوراً حتى إن آتى الليل، ركنت إليه وأشعلت الشموع المُهترئة ، ثم تفتح كراسة الرسم المُمزقة وتنثر تلك الالوان المُبعثرة ، لم تكن رسامة بل كانت تفيض بما في داخلها ، ومن ثم تُصلح كوب كاكاو دافيء ، وتختبىء تحت لحاف أحلامها، وتحتضن أحد الكُتب ، كانت تسافر وتلف العالم كلما بدأت تقرأ ، تستغرق فالقراءة حتى يداعبُ النوم عينيها ، حتى يسقط الكتاب ارضاً ، لتعلن استسلامها ، كان هو روتينها للهروب من كل العالم ، هروب لطيف مُريح لقلبها ..
كانت تلك الفتاة تعيش في منزل سيدتها ، تنظف ، تمسح ، تهتم بالاطفال ، وفي الفترة الأخيرة تعلمهم ، كانت كُل شيء في ذلك المنزل ، غير انها ليست سيدته ، بل خادمته ، ابتسامتها لاتغيب ، وعينيها دائماً ماتشع بالأمل ، وإن شعرت بالبكاء اختبأت خلف الابواب ، لتهطل بكل مافي داخلها وتخرج لهم بروح عالية وابتسامة لاتذبل ، الصغار يحبونها وربما اكثر من والدتهم ، يستيقظون على صوتها ، ويتناولون الافطار معاً ، ومن ثم تودعهم عند باب المنزل ،ملوحين لها بكل سعادة ، لتبدأ قصة تنظيف المنزل ، تتنفس بعمق ، حتى تستجمع قواها لبث الحماس فيها ، لجعلهِ انيقاً مرتباً نظيفاً ..
وفي أوج انشغالها يطرق الباب شخص ما ، تفتح الباب لتجدهُ ساعِ البريد ، يعطيها الطرد ، وتوقع فقد كانت البرقية لها ، تفتحها لتجد بأنها جواب عن سؤال بعثته لمسابقة الرسم ، وقد أثنوا على رسمتها وطلبوا منها المجيء ، فرحت وحزنت في آن واحد ، فرحت لقبولها واعجابهم برسوماتها ، وحزنت ان وافقت ستفارق عصافيرها ، فراق صغارها الذين منذُ ولادتهم وهم معها ، هي لم تلدهم ولكن كانت هي كل حياتهم ، هي من تعيش تفاصيلهم ، فرحهم وحزنهم وشقاوتهم ولحظة هدوءهم ، تهذي مع نفسها : كيف لي ان اذهب واتركهم ، كيف لي ! قلبي سيتقطع عن كل خطوة تبعدني عنهم ، ولكن ليس لي حيلة ، يجب ان اذهب ، فالفرصة بين يدي ولن أضيعها ، فقررت فجاءه ان ترتب حقيبتها وتذهب مُسرعةً قبل ان يأتوا أصدقائها الصغار ، فقد كان الوداع ماتفكر به منذ قررت الذهاب ، تاركةً رسالة مكتوب فيها : الوداع ياعصافيري اللطيفة ، أراكم على خير 💕.
ذهبت بخطوات ترجف ، لاتعلم مابها ، لكنها أكملت ، وقت الانتظار فالمطار كان مشمئزٌ بالنسبةِ لها ، بعد ساعات هاقد اعلنوا وقت ركوب الطائرة ، وذهبت بخطوات مُتكاسلة فالنوم بدا يجرفها نحوه ، اسندت جسدها في مكانها الذي أخبرتها عنه المضيفة ، وقد كانت النافذة بجانبها ، فرحت كثيراً انها ستنظر للسماء من هنا ، هاقد بدأت تسير لمسارها استعداداً للانطلاق ، وهي لاتعرف تغمض عينيها ام تتأمل تلك اللحظة المُشوقة ، أغمضت عينيها بشدة ، لتفتحها فجاءة والطائرة وقتها تخترق السُحب بشغفٍ مهيب ، كانت تشعر وانها في ُحلم قائلةً : حتى فالاحلام لاأرى هكذا ، كانت تتأمل وتتأمل وروحها تطير بين السحب وليس الطائرة من تطير ، شعرت وان اخيراً خُلق لها أجنحة وباتت تطيرُ وهي تبتسم بضحكات تتخللها الدموع ، حتى غرقت فالنوم .. التقت بأحبتها الصغار ، حادثتهم وضحكت معهم واحتضنتهم .. بعد ان كانوا بجانبها أصبحوا بعيدين عنها ..
هاقد توقفت الطائرة ، لم تشعر بذلك حتى ان الحزام ظل مقفلاً منذ الاقلاع ، استيقظت من حلمها الجميل وعينيها قد امتلأت بالدموع قائلة : كيف سأتحمل بعدهم عني ؟
نزلت من على السُلم وقد فتحت ذراعيها وكانها تحتضن هواء تلك المدينة :أهلاً بمدينة الأحلام ..
حينما وصلت لمقر سكنها المؤقت ، هرولت الى أقرب مقر اتصال ، لتحادث صغارها ، يرن وقلبها يرن أكثر ، لتَرُد عليها سيدتها : مرحباً
: أهلاً ، هل الاطفال هنا ؟
: كلا ، نائمين لقد بكوا كثيرا ً حينما لم يجدوك ..
خنقت الحشرجة حنجرتها ،
لتكمل : حينما يستيقظون اخبريهم اني اتصلت .
:الى اللقاء .
: الى اللقاء .
لتُقفل من هنا وتبكي من هنا ..
الزبائن ينتظرون دورهم وهي لم تتمالك نفسها ، نظرت لكل اولئك ، الجميع مُشتاقون ، الجميع قلوبهم تؤلمهم ، الجميع يريدُ الاجتماع ، الجميع يطبطب على نفسه حتى تمضي الحياة ..
بعد اسبوعان ، رسالة تصل الى منزل سيدتها ، مكتُوب عليه : الى أصدقائي الأبطال ..
لم يرتح فضول سيدتها لتفتح الرسالة قبل عودة صغارها ، لتجدها مليئة بالبقع الجافة ، لتقول : ماهذه الرسالة المهترئة ، لم تعلم بأنها كتبتها بدموع قلبها ..
أصحابي الابطال :
كيف حالكم ، هل أنتم بخير ، ان كنت تريدون أخباري فقد أصبحتُ في جمعية الرساميين الكبار ، أصبحتُ مدرسة هناك ، فقد جعلوا مني شيئاً كبيراً وأجني المال الكثير ايضاً ، اني بخير فقد تحقق حلمي ، وانتم كذلك ستكبرون وتحققون أحلامكم ، لاتنسوا المنزل الذي اتفقنا ان نبنيه حينما يكون لدينا المال على ذلك ، كونوا بخير ، ولاتقلقوا خادمتكم الجديدة ، واعلموا أني احببتكم أكثر شيء فالحياة ، ولكن الأقدار تفرض علينا اشياء لانحبها وتجعلنا دائمُ البكاء والحنين ، ولكن لابد ان نظل أقوياء فالحياة ليست للضعفاء .. سنجتمعُ قريباً وقد حققنا كُل أحلامنا ..
صغاري ..
لاأعلم متى ساأراكم ، ولكن سنلتقي كثيراً فالاحلام ..
الى لقاء قريب .. أراكم على خير .
بعد سنين طويلة ، كبر أبطالها الصغار ليصبحوا كباراً ، كانوا ينتظرون اللحظة التي يرونها فيها ، قرروا يوماً معاً ان يذهبوا اليها ، حجزوا تذاكر الطيران ، فرحيين أعينهم تكاد تطير الى هناك قبل أجسادهم ، منذ فترة لم تأتيهم رسائل وحينما سألوا مقر عملها أخبروهم ان هنالك عطل وسيصلحونه قريباً ..
لذلك لم يخططوا للزمان ولا المكان ، كل واحد منهم قد ابتاع لها هدية ، هاقد توقفت الطائرة في مدينة أحلامها ، لديهم كل العناوين التي ممكن ان تكون فيها ، من وصولهم ذهبوا الى منزلها ، لم يجدوها ، فقد كان هنالك اناسٌ آخرين .. دُهشوا فهي لم تخبرهم بأنها انتقلت ، فقرروا ان يذهبوا للفندق حتى صباح الغد ، فقد آتى منتصفُ الليل ، والمطر يهطل بغزارة ، فلامجال للذهاب لمكان آخر ..
في صباح يومٍ مُشرقٍ ، بعد يوم ماطر وكأن الارض بكت فرحاً لمجيئهم ، ذهبوا الى مقر عملها ، بناء أنيق راقي ، الرسومات هنا وهناك ، سألوا الاستقبال عن اسمها ولديهم صورة لها ..
موضف الاستقبال نظر إليهم وكأنه يعرفهم، قائلاًً : أنتم ؟
قالوا : كيف ، لم نفهم ؟
ظل واقفاً ، يتمتم بكلمات غير مفهومه ، ومن ثم قال لهم الدور الثالث تجدونها ..
ركبوا المصعد والهدايا بين ايدهم ، ذلك يُرتب هندامهُ ، والآخر يُسرح شعره ، وجميعهم متشوقون للحظة اللقاء المنتظرة ..
فُتح الباب ، فُتح المكان الذي عاشت فيه ولازالت تعيش ، رسوماتهم ، لقد كان ترسمهم دائماً ، هنا يضحك وهنا يحتضن أخاه وهنا يركض ، جميع الجدران تحمل لحظاتهم ، ذُهلوا لما رأوا ، أكملوا سير اللوحات ، ليجدوا لوحة تذكارية فيها صورتها ، وقد كتبوا بجانبها الوداع الأبدي !!!
تعقدت حواجبهُم ، ماذا ؟؟ كيف ؟؟ من المُتوفي ؟؟
أخبروهم وقتها انها قد توفيت منذُ شهرين بسبب مرضٍ ألم بها ، لم يكن البريد معطل ، بل هي من تعطلت حياتها للأبد ، كان الخبرُ مُفجع غير متوقع ، هداياهم سقطت من بين ايدهم ، هذا يصرخ وهذا يبكي بصمت وتلك تحتضن لوحتها وتذرف الدموع الحارة ..
جميعُ الموظفين تأثروا ، فقد كانوا يعرفونهم ، ملأت اركان المكان برسوماتها لهم ..
حتى أتت تلك الرسالة من الاستقبال : هذه منها ، أوصتني أن اعطيها لكم .. ثم سكت قليلاً وقال : لقد كانت تحبكم كثيراً .
صغاري الأبطال ..
أعلم بأنكم تكرهوني الآن ، لكن لم يكن لدي حيلة .. فالقدر كان خارج إرادتي حاولت ان أكون بخير لكن كان أكبر مني ، فقد حُكم علي بالرحيل ، لن أكتب مزيداً من الحزن ..
قد خبأت لكم رسوماتي حتى تأخذوها معكم ، هدية مني لتتذكروني مهما طال الوقت ، وحال عليكم النسيان ، وقد أيدعتُ بعضاً من المال ، حتى تحققوا حُلمنا في بناء ذلك الكوخ الذي خططنا له ، انتم أقوياء وستمضون أقوياء كما عهدتكم ..
كونوا بخير دائماً
أحبكم ❤️
ليقفل الرسالة أكبرهم ، قائلاً والدموع تخالج فؤادهُ : ولم تكن تعلم بأننا قد بنيناهُ وجعلناهُ مفاجأةٌ لها .
بقلم :وعد عبدالله .
-
وعد عبدالله .بذرة الله في أرضه .. ترجو رحمةَ ربّها ، لتصير شجرةً طيبةً فالارضِ وإلى عُمق السمَاء