الانترنت دمرت صناعة الأخبار و تستطيع إصلاحها أيضا
جيمى واليس و اوريت كوبيل – فورين بوليسى – ترجمة / محمد احمد حسن
نشر في 25 ديسمبر 2020 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
حينما تسأل استطلاعات الرأي المواطنين الأمريكيين حول ما إذا كانوا يثقون في الأخبار التي يقرأونها و يسمعونها و يشاهدونها فإن الإجابة تأتى سلبية إلى حد كبير . هذا الرأي في الحقيقة أصبح شائعا في جميع أنحاء العالم . و قد جعلت المعدلات المتنامية للدخول على الانترنت في العالم عددا لا يحصى من مصادر المعلومات متاحة بسهولة و يسر ، و لكن بدقة و توازن اقل و تفاوت كبير في مستويات المصداقية .
الإقبال غير المسبوق على جميع وسائل الإعلام لم يؤد فقط إلى تزايد المنافسة بين مقدمي الأخبار ، و لكنه قاد أيضا إلى انتشار شديد للجودة المنخفضة ، و حتى مصادر المعلومات ذات المظهر المقبول جعلت ذلك الأمر ميسورا للاعبين السياسيين لكي يقوموا بالتلاعب بالرأي العام في حين يتم تشويه سمعة المؤسسات الإخبارية البارزة .
خلقت بيئة الإعلام العالمية الرقمية الجديدة شديدة التنافس مشاكل جوهرية في نماذج الأعمال التي تعتمد عليها الصحافة . المطبوعات شارفت على نهايتها . جمهور التلفزيون انخفض إلى أدنى معدلاته . الإعلان حول الإخبار لم يعد جاذبا ، حينما وفر عمالقة الانترنت مثل جوجل و فيس بوك و امازون طرقا أكثر فعالية لاستهداف المستهلكين . هذه الحقائق دفعت العديد من المؤسسات الإخبارية إلى تبنى أساليب إشكالية من أجل البقاء مثل إعطاء الأولوية للكم على حساب الكيف ، و تبنى الروابط التي تستخدم عناوين كاذبة و مضللة بهدف جذب القراء و الإثارة و التي تسمى (( صيادة النقرات Click bait headlines )) . كل هذه التطورات ترافقت مع نقص الشفافية في المؤسسات الإخبارية ، و الاستعمال المتزايد لمواقع التواصل الاجتماعي غير الخاضعة للفلترة كمصادر إخبارية ، و هو الأمر الذي يساهم في مزيد من الانخفاض في معدلات الثقة في وسائل الإعلام .
و يبدو أن تدهور المؤسسات الإخبارية لن يتوقف . و لكن و بينما دمرت الانترنت الإعلام التقليدي ، فإنها أيضا تقدم عدة طرق لإصلاحها . فوسائل التواصل الاجتماعي ( السوشيال ميديا ) بإمكانها أن تعيد المجتمعات المحلية إلى الصحافة ، و أن تعزز الشفافية و المسئولية و الدقة و الجودة . إن توظيف الدخول على الانترنت يمكن أن يساعد في القضاء على التحيز في صناعة الأخبار ، و إصلاح المشاكل المتعلقة بنقص التمثيل و التنوع . و يستطيع مقدمو المعلومات أن ينجزوا هذه التحسينات بطريقة قابلة للنمو اقتصاديا من خلال جعل القراء أصحاب مصلحة و شركاء مباشرين . و مع ذلك فإنه لكي يتم فعل ذلك فإنه يجب على الصحافة أن تتكيف مع حقبة الاتصالات و المعلومات .
يستطيع مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي أن يصلوا إلى المعلومات ببضع نقرات على الهاتف الذكي ، و لكن في بعض الحالات فإنهم يفتقرون إلى الوقت و المهارات التي تجعلهم يقيمون دقة هذه المعلومات بصورة صحيحة .
مكنت المنصات المستجدة هواة نشر الأخبار و رجال الدعاية من التنافس مع الصحفيين المحترمين على قدم المساواة . و ما يجعل تقريرا إخباريا ناجحا على هذه المنصات هو مستوى الانتشار و سرعته ، إذ أن المقالات و مقاطع الفيديو الأكثر شعبية هي تلك التي تجذب أكثر ردود الفعل عاطفية بشكل فوري و جذري ، حتى و لو كانت تحتوى على أخطاء واقعية . إن نموذج الأعمال الحالي القائم على الإعلانات فقط يعتمد على هذه الحقيقة من اجل البقاء من خلال تفضيل المحتوى الجذاب و الأكثر مشاركة على المحتوى الموثوق و المهم .
و مع أن لكل هذه المنصات عيوبها ، فإن منصات التواصل الاجتماعي تحتوى على حلول هامة لتدنى مستويات الثقة في صناعة الإخبار . و قد وسع الإعلام الجديد من نطاق الجمهور العالمي من مستهلكي الأخبار ، و ينبغي على مقدمي المعلومات أن ينظروا إلى الأمر ليس كمشكلة و إنما كفرصة . و إذا تم توظيف المجتمع الرقمي العالمي بشكل صحيح فمن الممكن أن يساهم ذلك الأمر بارتفاع معدل المسئولية في المؤسسات الإخبارية من خلال تعريف التحيزات و تحسين الحيادية في التقارير الإخبارية ، حيث أن وجود رقابة على عدد لا يحصى من مستخدمي الانترنت يمكن أن يكون مفيدا .
إن الشفافية هي حجر الأساس في استعادة ثقة الجماهير في الإعلام حيث أن دفع اكبر عدد من المستهلكين للمشاركة و الانخراط في هذا الأمر سوف يقود سوف يقود بشكل طبيعي إلى تزايد الطلب على شفافية وسائل الإعلام من ناحية مصادر التمويل و تدخل المعلنين و الضغط السياسي .
فوراء الدور الاشرافى خطوة هامة سوف تأخذ في الاعتبار مجتمع الانترنت كشريك فاعل في عملية إنتاج الأخبار . و إذا ما أعطيت الفرصة فإن مستخدمي الانترنت يستطيعون أن يلعبوا دورا حاسما في تجميع و تقييم دقة المعلومات . إن المفتاح هو النظر إلى مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي على أنهم مجتمع ضخم من مدققى الحقائق و منتجي الأخبار بدلا من النظر إليهم كمتلقين سلبيين للأخبار غير الموثوقة .
نظرية تحويل القراء إلى موارد نشطة ليست نظرية افتراضية تماما . إنه المفهوم الذي تبنيناه في عام 2017 حينما أسسنا موقع ويكى ترييبون wiki tribune كمنصة إخبارية مدعومة من صحفيين محترفين و لكن تدار من قبل مجتمع الانترنت . و لأن المؤسسة خالية من أي تسلسل هرمي فهي تشجع أعلى مستويات الحيادية و الشفافية . و سوف يمتلك متطوعو ويكى تريبيون و الصحفيون المحترفون نفس الحق في التحرير . كل شخص منهم يستطيع أن يشرع في كتابة أو تحرير أي مقالة على المنصة . و يتم اختيار المشرفين من داخل المجتمع بشكل طبيعي .
إن جعل القراء مشاركين نشطين في إنتاج الأخبار يمكن أن يساعد المؤسسات في توفير المال . حيث يمكن أن توكل مهام تدقيق الحقائق و التحرير على سبيل المثال إلى مجتمعات من المتطوعين الذين يستخدمون قاعدة بيانات الانترنت الضخمة . محررو الأخبار التقليديون قد يجدون أن هذا الأمر خيالي و من الصعب قبوله ، و لكن هذا المفهوم يبدو طبيعيا للأشخاص الذين كبروا و هم يستخدمون الانترنت . إن الاستهلاك السلبي لم يعد ملمحا مسيطرا في الأخبار ، فنحن جميعا صناع للمحتوى ، و ينبغي أن تكون للجميع الفرصة للمشاركة في كيفية نشر المعلومات .
و يعرف نمط الويكى بأنه اى موقع يسمح بالتحرير التعاوني ، و يقدم أيضا حلا فعالا للتحيز في الكتابة الصحفية . و إذا حاز كل شخص على نفس الفرصة فإنه لا احد يستطيع أن يتحكم في السردية . و ينبع التحيز دائما من نموذج التسلسل الهرمي للأخبار ، و الذي يستطيع فيه المحررون الرئيسيون أن يضعوا الأخبار في قالب بما يلائم وجهة نظرهم أو وجهة نظر ناشريهم أو داعميهم الاقتصاديين . إن منصات التحرير التعاوني تشجع و تسمح بحوار مفتوح حول كل مقالة من قبل طائفة متنوعة من المشاركين من خلفيات مختلفة . و اى نزاع حول السرديات المتعارضة يتم حله بشكل بناء من قبل المجتمع ، و تجنب مشاكل الصحافة التقليدية .
المنتج الاخبارى الذي صاغه المجتمع ليس مقيدا باللغة الانجليزية ، فأكثر مستخدمي الانترنت يقرأون باللغات الهندية و العربية و الصينية ، حيث أن ويكيبديا على سبيل المثال تسمح للمستخدمين من اى لغة بتوثيق أخبارهم و أحداثهم على موسوعتها الالكترونية ، و تفعل ذلك أيضا بالرغم من القيود الحكومية على الصحافة الأمر الذي يؤدى إلى معركة عالمية ضد الرقابة .
من المؤكد أن النماذج التعاونية ليست خالية من المشاكل . فمن الصعوبة بمكان تكوين مجتمع متنوع و رصين مكرس لهدف إنتاج أخبار بجودة عالية . اللاعبون السيئون مثل المتصيدين الالكترونيين troll و المشاركين بدوافع سياسية هم أخطار تتطلب نظاما واضحا للهوية و التحديث و الإزالة . و ينبغي بذل جهود مستمرة من اجل تضمين المزيد من التنوع الثقافي و العرقي و الديني و الجنسي و الجغرافي و الميول السياسية لمنع التحيز . إن خلق معايير و ممارسات يستغرق وقتا ، و لكن نجاح مجتمع ويكيبديا العالمي الذي واجه تحديات مشابهة يثبت أن نماذج المجتمع تستطيع أن تمد الجمهور العام بأقصى درجات الثقة و الارتباط .
إن الأولوية لأي وسيلة إعلامية هي انه يجب أن يتمتع عملها الصحفي بالمصداقية و الجودة . هذه الوسائل التي تعتمد على النموذج المعتمد على الإعلان فقط ربما تجد أنه من الصعب تحمل مثل هذا الأمر : و في النهاية فإن الدفع في اتجاه المزيد من الزيارات الالكترونية traffic و الأرباح سوف يتصادم مع مهمة انجاز صحافة موثوقة و ذات جودة عالية .
أطلقت ويكى تريبيون نموذج أعمال سيتم قيادته من قبل مشتركين متطوعين لتجنب الحاجة إلى أرباح الإعلانات و مصالح الشركات المشبوهة . و سيرحب المشتركون الذين يجدون محتوى تلك الوسائل مهما و ذا معنى بدعم المشروع إما بالمساهمة لمرة واحدة أو الاشتراك الشهري . و قد . و قد كشفت حملة جمع التبرعات أن الجمهور متعطش لأنماط جديدة من الصحافة . ( و قد قيدت ويكى تريبيون الصحفيين المحترفين بالدور الداعم في تشكيل الأخبار و ليس قيادتها . أما مجتمع المتطوعين فإنه يتولى مهمة التحرير بشكل اساسى باستخدام خبرة الصحفيين المحترفين في سد الفجوات في تغطيتهم الصحفية ) .
إن نموذج الأعمال القائم على الدعم المالي المباشر من الجمهور يمثل أكثر الاستراتيجيات صمودا بالنسبة للإعلام العالمي .
ويكيبديا مرة ثانية مدعومة بالكامل من ملايين المستخدمين الذين يقدرون القيمة المضافة التي أضافتها الموسوعة الالكترونية إلى حياتهم كل يوم . فدعم الجمهور لا يقتصر فقط على المال و لكنه أيضا يمتد إلى الوقت الذي يقضيه المتطوعون في المساهمة بالمحتوى و إصلاح الأخطاء .
بعض وسائل الإعلام التقليدية بدأت تبتعد بشكل نشط عن الاستراتيجيات القائمة على عدد الزيارات الالكترونية و الإعلان . في المملكة المتحدة على سبيل المثال نجحت صحيفة الجارديان Guardian في الانتقال إلى نموذج الأعمال القائم على المساهمات المالية من القراء . ففي عام 2016 و بعد معاناة من جراء خسارة عشرة ملايين دولار وجهت الجارديان نداؤها مباشرة إلى قراؤها طالبة الدعم بدلا من الدعوة إلى اشتراكات تجارية تتضمن طلب الرعاية و المشاركة . هذه مذلة ، و قد شجعت إستراتيجية الانتقال القراء على دعم الجارديان من اجل الإبقاء على الصحافة عالية الجودة بدلا من التعامل مع مساهماتهم الشهرية على أنها خطوة منفصلة نحو المحتوى المدفوع . و بحلول مايو 2019 سجلت الجارديان ربحا تشغيليا يقدر بنحو أكثر من مليون دولار . و من المحتمل أن يكون نجاحها مستداما . و منذ تلك اللحظة فإن الجريدة لديها حاليا أكثر من 655000 داعما منتظما بشكل شهري . الانتقال من نموذج الأعمال القائم على العضوية إلى ذلك القائم على الدعم التطوعي يمثل محاكاة لنموذج ويكيبديا حيث يختار المستخدمون دعم المشروع ليس ضروريا بسبب المحتوى الذي يستخدمونه بشكل شخصي و لكن من اجل فائدتها الكبرى للعالم .
المطبوعة الهولندية دى كورسبوندنت De Correspondent تقدم نموذجا آخرا للصحافة الممولة من قبل القراء . فقد تم إصدار الصحيفة في امستردام عام 2013 بعد أن جمع مؤسسوها 1.7 مليون من 19000داعم من داعمي الجريدة ، و قد سعت دى كورسبوندنت إلى تقديم صحافة أخلاقية دون الاعتماد على الإعلان حيث وجهت نداء إلى الناس الذين يرغبون في دعم أكثر نماذج الأعمال الخاصة بالأخبار شفافية . اليوم تتمتع المطبوعة بدعم أكثر من 60000 شخص . و هناك المزيد من الأدلة في الحقيقة على رغبة الجمهور في دعم مصادر المعلومات عالية الجودة .
و تعتبر نماذج التمويل الجديدة بالغة الأهمية لكي يتم الحفاظ على الصحافة قوية و مستقلة و صامدة .
ليست كل المؤسسات الإخبارية قد تكون قادرة أو مستعدة لتبنى نموذج الرعاية . و مع ذلك فإن أكثر النماذج التي تنجح هي تلك التي تحتوى على فرص اكبر بأن الصحافة سوف تبقى مستقلة . إن نماذج الاشتراكات كنقيض للمساهمات التطوعية قد تكون أكثر ملائمة للمطبوعات المتخصصة سواء اقتصادية أو متخصصة في مجالات أخرى مثل ول ستريت جورنال Wall Street Journal أو ذا انفورماشن the Information ، و ذلك لأنها تقدم المزيد من الخدمات التجارية من خلال الوصول إلى أخبار اقتصادية شديدة الحساسية . هذه الخدمات التي تتاح حسب الطلب متاحة فقط للأشخاص المستعدين لأن يدفعوا رسوما إضافية من اجل الفائدة الاقتصادية . و مع ذلك فإن خدمات الأخبار العامة تعد متاحة بشكل واسع و من ثم يتعذر عليها أن تتبنى بوضوح نماذج تجارية قابلة للربح ( باستثناء الذين أقاموا صحفا كبرى مثل النيويورك تايمز New York Times ) . إن نموذج التمويل التطوعي يستطيع أن ينجح ، بسبب أن الناس الجادين يقيمون الصحافة ليس من الزاوية الضيقة بخصوص الفائدة الشخصية ، و لكن من اجل تأثيرها على المجتمع كركيزة أساسية من ركائز الديمقراطية .
إن البنى التحريرية لنمط الويكى و النماذج المالية المعتمدة على الدعم التطوعي هي باعتراف الجميع استراتيجيات ثورية ، و ليس كل المنصات الإخبارية سوف تخاطر بتبنيها . و لكن بالرغم من ذلك فإن هناك دروسا أساسية يمكن تعملها من تجربة ويكى تريبيون للمساعدة في استعادة ثقة الجمهور في الصحافة . الدرس الأكثر أهمية من تلك الدروس هو الحاجة إلى الشفافية . و كلما شعر المزيد من القراء بأنهم شركاء فاعلون في عملية الصحافة كلما سيثقون في المنتج النهائي . و خصوصا في المجتمعات الصغيرة ، حيث إذا شارك المواطنون في تقييم المعلومات فإنهم سوف يقللون تكلفة الإنتاج و بالتالي السماح بإنقاذ وسائل الإعلام المحلية التي تكافح من اجل البقاء .
إن الصحافة القوية و المستقلة هي قلب اى ديمقراطية صحية و كفؤة . فهي حارسة البوابة ضد الفساد و تلعب دورا في إيصال الحقائق التي تسمح للناس باتخاذ قرارات عن بينة بشأن حياتهم . إن بيانات السياسيين تنزع الشرعية من الأصداء الإعلامية للجمهور فقط إذا كان الجمهور أصلا يشك في صحتها . إن الصحافة الجيدة التي تشرك مجتمعات الأخبار في عملية إنتاجها تخلق عملية شفافة تستطيع أن تحوز ثقة الجمهور . هذا النوع من الأعلام التعاوني سريع الاستجابة لديه فرصة كبيرة في جذب مباشر من الناس الذين يعتقدون بأهمية بقاء مثل هذا الإعلام . و لكي تحمى الصحافة نفسها فإنها تحتاج الآن إلى أن تعود إلى صفوف الجماهير .
الرابط الاصلى للمقال
https://foreignpolicy.com/2019/10/19/internet-broke-journalism-fake-news/