الجدار - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الجدار

قصة قصيرة

  نشر في 18 غشت 2021 .

[1]

طرقات على باب بيته وسمع الحاج ناصر ينادي عليه

-يا كرم .. ولد يا كرم,أنت يا فتى

وخرج إليه الفتى كرم الذي تجاوزت سنوات عمره الأربعين عاما إلا أنه يظل صبيا بالنسبة للشيخ العجوز ذو السنوات السبعين والذي يقف أمام داره بصحة جيدة.

دار بينهما حوار جعل كرم يذهب بعد انتهاء الإتفاق إلى بيت من بيوت الجيران,وطرقات مماثلة للآتية على بيته محملة برزق مرسل إليه من الحاج ناصر. وأخذ ينادي بمشهد متكرر من الكهل بعد الشيخ.

-يا رضا .. ولد يا رضا,أنت يا فتى

وخرج إليه الفتى رضا الذي ما زال فتيا لم يتجاوز العشرين عاما التي للتو بلغها,تتدفق الحيوية في جسده والنشاط في كلماته.

-الظاهر أنك آتي ومعك مصلحة يا عم كرم

-أيوا يا واد,قم بتغيير ملابسك وتعال معي

وركب الفتى خلفه على دراجة معلمه في الصنعة ليذهبا إلى العمل

*******

وقف الكهل والغلام على قطعة أرض تم تحديدها بمجموعة من الأحجار المتراشقة على خط سورها الذي لم يبنى بعد,والأرض واقعة في أرض أكبر خالية من أي شيء على امتداد البصر إلا من تراب وأحجار وأعشاب متناثرة هنا وهناك وخرائب متنوعة مكونة من كومات قمامة وملحقاتها ومجموعة من الكلاب والقطط الضالة. وفي وسط الأرض مصفوصة كبيرة من الطوب صنعت جدارا بعلو قامة إنسان معتدل الطول.

-هذه أرض ياسين يا عم كرم؟

-نعم هي

-يعني فيها فلوس

-يعني هو أنا جايبك ببلاش

-لا قصدي فيها فلوس كتير

-لا تخف سأرضيك بأكثر مما أعطيك في العادة

-حقا؟

-وهل أمزح معك!

أنزل الفتى حقيبة الأدوات من على كتفه وأخذ يساعد أستاذه في إخراج الإفطار من أكياس الطعام البلاستيكية. وهو أستاذه في الحرفة كونه أكثر صبي عمل معه وصار عجّانا -أي يصنع العجينة الإسمنتية (مونة)- ومساعدا على يديه,وبنّاءا قريبا تحت إشرافه.

وضع لقيمة الفول الأولى في فمه وأخرج لسانه السؤال الثاني

-والمطلوب نعمل إيه في الأرض هذه يا عم كرم؟

-تسويرها

-فقط,سنقوم ببناء سور حولها فقط؟

-يييه,أنت لازال أمامك عمل كثير,لا تستهين بهذا السور

غمزه بعينيه وسأله بخبث مرح

-طب وأخبارك مع خالتي صفا إيه؟

-انت عارف خالتك صفا وعمايلها مطلعا عينيا ومكرهاني في عيشتي والله

-بس هي قمر

-خدها واديني واحدة ترحم أمي وقفل ع السيرة بقى

بعد أن أنهيا الطعام قام كرم بسكب ما تبقى من فول وفتات على قوالب الطوب أثناء بناءه للجدار.

-إيه يا عم كرم اللي انت بتعمله ده,هترمي الأكل كله أمال هنتغدى إيه

-لا تخف سيأتي طعام غيره

-على الأقل اترك لي قطعة جبن وبعض الفول وطعمية واحدة,لدينا من الأكل الكثير,لقد اشتريت بزيادة أكثر من اللازم

-لك ذلك

[2]

كان العمل مجهدا على رضا حتى بلغه التعب فأسعفه قول الصنايعي كرم بأن يرتاحا قليلا وقد حان وقت الغداء ما بين العصيرة والظهيرة. أمسك الفتى بكيس الطعام يخرج ما تبقى فيه من وجبة الإفطار فأوقفه كرم.

-ماذا تفعل أسنأكل هذا الطعام بعد أن برد؟

-يمكننا أن نأكل الفول والجبن ونترك الطعمية.

-لا لا,حضر حطبا واشعل نارا أعد عليها لنا كوبين من الشاي والطعام على وصول.

-من سيأتي به؟

-ابن الحاج ناصر سوف يصل في أي لحظة الآن.

أنهى كرم رصف بضع قوالب طوب بعد أن فرد عليها بسكين البناء (مسطرين) الفول والجبن والطعمية والخبز وكل ما كان متبقي ويصلح للأكل من طعامهم متحسرا أنه لم يفعل ذلك منذ الصباح مع البقايا التي تخلص منها بين قوالب الطوب حتى لا يشعر بالذنب الذي يشعر به الآن طبقا لعادة الاستخسار التي لديه من زوجته,أو ربما هي لدى الجميع حسبما يحسب. وكان رضا قد أعد الشاي وهو ينظر إلى معلمه مستغربا,وقبل أن ينتهوا من احتساءه وصل الطعام مع حامله راكبا دراجته

-ماذا أتيت به معك يا محمود؟

-طبيخ الحاجة يا أسطى كرم

تناول منه كيس الطعام

-تعالى لتأكل معنا

-تعيش يا أسطى كرم,أنا كنت ذاهب أصلا للعمل

تناولا الطعام وأخذ الفتى يلقي أسئلته الكثيرة والسخيفة,ومن بينهم

-أي قدر من المال صرت تكنز يا أسطى كرم

-يعني ما لقيت سوى الفقير على باب الله لتسأله هذا السؤال

-عليا أنا هذا الكلام

-يلا يلا علشان نقوم

-لا بس عامل كام بأمانة

حدقه بنظرة جادة أخرسته,ثم رآه الأخير يفرغ الطعام كله على الطوب مكملا نفس السلوك الذي كان يفعله بطعام الإفطار

-انت بتعمل إيه يا أسطى كرم

لم يرد عليه

"الراجل شكله اتلط في نافوخه ولا إيه"

لاحظ نظراته الاستغرابية,فسأله

-ألم تشبع

-لا شبعت ولكن ألم يكن الأفضل أن آخذ هذا الطعام معي؟

-لا

-....!

مرت الساعات بسرعة على عكس ما كان يتوقع رضا وعلا أذان العصر الذي يؤذن بالرحيل أيضا عقب قضاء الصلاة. إلا أن الفتى لم يرحل ذلك اليوم ولن يرحل أبدا,على الأقل ليس وهو حي.

*******

لقد كانت مشاجرة بسيطة بينهما عقب الصلاة حيث أصر الأسطى كرم على استئناف العمل حتى غروب الشمس لإنهاء السور حول الأرض لتعيينها عن ما حولها,وهو سور قصير لا يستحق العمل لأجله أكثر من يوم بحسب حجته للاستمرار في العمل. وهو ما عارضه رضا موضحا ببساطة وجهة نظره أن ذلك يستلزم حساب يومين ووعده كرم في الطريق بإكرامية

-يا فتى لا تخف أنا سأعمل الواجب معك ولن أتركك ترحل إلا مرضيا

-لكن العمل يستحق يومين مع إكرامية

-ده لما تشتغل أصلا,هو انت اشتغلت ولا ساعدتني في حاجة

-لم يكن عليك أن تطرق بابي هذا الصباح إن كان لا يعجبك شغلي

لم تكن حجة الحرفي جيدة حيث أن الأمر ليس منوطا بعمل الفتى الذي كان متلكئا ومتكاسلا بالفعل وناعسا ومقصرا في العمل على غير العادة هذا اليوم. بل بكون كرم نفسه يريد أن ينهي العمل ببذل جهد كثير ودفع مال قليل. أخذ الإثنين يتحاوران ثم يتناقشان حول الأحقية بالعمل إلى حلول الليل أم ليوم تالي وتأثير ذلك على الحساب وهنا صار الكلام جدالا يكاد يتحول إلى مشادة خاصة بعد إعلان كرم أنه لن يدفع للفتى الشاب أجرته لهذا اليوم وله أن يرحل لو أراد.

استهزأ الفتى به وأهانه بقبيح الكلام وكان يبدوا واثقا من أخذه لماله وأخذ كرم يعنفه متسائلا عن كون تلك الإهانات موجهة إلى شخصه؟

وكانت الأزمة بمرور الفتاة الجميلة (ثريا) من المنطقة القبيحة (سرايا) كملاك الموت على الفتى الذي أخذ ينظر إليها متجاهلا كلمات معلمه الذي زادت نيران غضبه وتوقدت وتحطبت على دماء الفتى.

-انت مش معبرني وأنا بكلمك يا عاهر؟

وطفح كيله من استهزاء صبيه

صفعه أولا ورد الفتى الصفعة إليه

*******

بدأت بمشاجرة وانتهت بمقتل أحدهما,الطرف المقتول هو رضا الساقط جثة على الأرض تتدفق الدماء من جرح غائر في جانب رأسه. الطرف القاتل هو كرم الواقف فوق الجثة ممسكا أداة تقليب المعجون الأسمنتي (مسطرين) بعد أن غارت بحدها / نصلها في رأس غريمه.

*******

أكمل بناء الجدار فقط أمام أرض العقار ولم يسوره به,وقد جعله مبنيا من قوالب الطوب على مصفوفتين,أي جدارين متقابلين بينهما حوض مفتوح لصب الإسمنت أو التراب أو الحجارة أو أي شيء. في هذا التجويف وضع جثة الصبي وأكمل بناء السور حتى على عن إرتفاع رأسه هو.

[3]

-مالك يا كرم؟

-ماليش

-ما تقوليش ماليش أنت منذ / من ساعة ما قعدت / جلست على الأكل لم تذق لقيمة واحدة

-وأنت من ساعة ما جئت من الشغل لم تقولي كلمة واحدة عدلة توحد ربنا

-يعني أنا اللي سديت نفسك

-لا يا ستي أنا جاي قرفان لوحدي

-ويعني هطلع قرفك عليا أنا؟

-يا صفا ما تحلي عن دماغي شوية

-يعني مش طايق مني كلمة

-يلعن أم اصطباحتك ع الصبح,ما تتمسي يا صفا بقى على المسا

-ما تعدل كلامك معايا يا راجل / رجل

-يقطع أم العيشة على اللي عايشنها

-بقولك ما تكلم عدل معايا شويا يا راجل

-أنا سايبلك الأكل والكلام وقايم

-إلهي أنام أنا ما أوعى أصبح وألا شوفش صبح علشان أسيبلك أنا العيشة كلها

قام يجلس على التلفاز فسحبت عليه تلقفه ببضع كلمات سامة فألقى جهاز التحكم غاضبا وكاد أن يكسر التلفاز ثم ذهب إلى غرفته الأخرى لينام منعزلا عن زوجته. وأخذ طفلهم الصغير ذو الثمانية سنوات يتأملهما في خوف وصمت. ولقد زارت الكوابيس كرم في المنام فأتته صفا في اليقظة فاستيقظ فزعا على خبطات من يدها تنغز بها صدره وكتفه.

-إيه,عايزة إيه يا صفا

-يعني نمت بدري كده ليه

-تعبان شوية سيبيني أكمل نومي

-طب ما أتقوم تجيبلنا حاجة حلوة

-ما أنت معاك الفلوس يا صفا

-يعني أنت ما معاكش,دا أنت لسة جاي من مصلحة تبع الحاج ناصر

-طيب خدي المحفظة كلها أهه وسيبني أنا

-أنا مش قدرة أطلع دلوقت,قوم انت جيبلنا حاجة كده على ذوقك

-مفيش حاجة معينة في بالي

-يا راجل,عندك من الحلويات فاكهة ولا كنافة,ومن المشويات سمك ولا كفتة,ومن المسليات لبان أو لب,ومن العصائر كوكتيل أو كَنز (مشروبات غازية).

-طب ابعتي الواد

-لا مش بعتاه

-آآآه,يا أمي

-أنا نفسي آكل أكلة حلوة كده معاك ونترمي بعديها إحنا الإتنين ع السرير

-سيبني أترمي لوحدي الليلة دي بقولك تعبان

-يا راجل عيب عليك,بقولك عايزاك تقولي تعبان

-والله تعبان سيبيني أنام

-إما إنك رجل مش راجل صحيح

-حرام

-حرمت عليك عشتك وعيشة اللي جايبينك

-انت عايزة إيه يا بت

-إنت اللي عايز إيه يا كرم

-عايزك تروح تنامي في قوطك ولا في أي داهية ولا تلطعي لأمك أو تكلمي بنتك على التلفون,المهم تسيبني أنام

-لا من أنا عندي اقتراح أفضل,أنا أروح جايبالك رجل من ع الشارع ولا شاب صغير وعفي / قوي وأقوله معلش تعالى أصل جوزي مبقاش قادر

قام من على السرير منتفضا

-صفا علي الطلاق

-بلا تحلف بلا نيلة ما تخلنيش أوريك شمس الضهر في عز الليل

-الله يلعن ديـ...

بترت كلمته من انقطاع صوت زوجته وأنفاسه معا,انفجرت الدماء في وجهه ولم يتخيل أن هاتفه الذكي قد يفعل ذلك,ضربة واحدة في جبهتها في ذات الموضع الذي ضرب به رضا في مقتل.

[4]

وضع زوجته على السجادة ولفها حول جثته في أسطوانة قماشية أخفت الجسد.

جلس على السرير قليلا وأخذ يفكر في موقف أخيه منه,وفي تعابير وجه زوجته الأخيرة, وفي إبنته لو علمت بالأمر وهي للتو عادت من سفرها وقاطنة ببيتهم الآخر,وفي إبنهم الصغير الذي يلعب في الشارع الآن حاسبا أن أمه نائمة إلى جوار أبيه بعد مشاجرة أمس بافتراض أنها غلبته كالمعتاد. وفكر في الدماء التي لازالت على قدمه,وفي جليلة أخت المرحومة,وفي أم المرحومة بالأعلى,وفي كيفية تصريف الجثة وإخفاء الجريمة وتدبير حاله.

-أراك جننت وأنت في الأربعين من عمرك يا كرم

هكذا حدث نفسه ودموعه على خده,ثم أكمل نومه

*******

صار الجدار عاليا يحتاج إلى رافعة أو سقالة لإكماله صاعدا,وصار طويلا يتخطى عقار الحاج ناصر ويمتد في المنطقة الخالية من الطرفين شاقا إياها إلى نصفين. صار كرم يعمل بلا وعي,غير متسائل حتى عن مصدر قوالب الطوب التي لا تنتهي في يديه.

هذا الصباح طوى الجثة في السجادة ووضعها خلفه على دراجته النارية وكانت قد جفت دمائها,وخاطر بالذهاب من أمام الناس جميع إلى منطقة العمل,وآثار الدماء كانت مفضوحة إلا أن الجميع انتبه للسجادة ولم ينتبه لا للدماء ولا للجثة صاحبة الدماء.

*******

أصبح عدد الضحيا سبعة,كرم القتيل الأول ثم زوجته,ثم صفية أم زوجته صفا التي سألت عن إبنتها,ثم أم كرم التي سألت عن إبنها,ثم الحاج الذي كلفه بهذا العمل,ثم إبنه الذي جاء يسأل عنه,وهناك شخص سابع لا يتذكر أين قتله ولا كيف مرتمي مع الجثث المصوفة من الداخل على طول الجدار.

*******

كان هناك بيت وحيد في أرض الخرائب يحسب الناس أن لا أحد يسكن به,ثم صار فعلا لا أحد يسكن به,بعد أن خلت الدار من ناسها اللذين صاروا أمواتا وجثثا تغذي الجدار.

البيت في الخرابة هو البيت الوحيد المسكون في المنطقة الخالية المكونة منها والمسماة بها الخرابة,أو أرض الخرائب,أو الأرض السوداء كما يسمونها سكان حي السرايا,وهو الاسم الذي سيصير لصيقا بها لاحقا.

*******

الفتاة تمر من أمامه هي ثريا سبب كل ما هو فيه الآن,الجميلة,أو جميلة الحي حتى,ولا يدانيها في الجمال سوى ثلاث فتيات,ندا وقد ماتت,زوجته وقد كبرت ثم لحقت ندا,وابنته بسمة وقد سافرت.

*******

منذ بدأ في بناء الجدار وقد شعر أن الحائط لا يشبع,وهو لا يعرف ماذا يفعل أكثر مما يفعل وقد أدمى يديه وأرهق كتفيه ومزّق قدميه وهو يقلب كل حجر في فضاء الخراب المحيط بالمنطقة باحثا عن المزيد من المخلوقات الصغيرة. لقد أضاف ثريا إلى الجثث السبعة,ثم أضاف كلابا وقططا وفئرانا وحتى حيوانات إبن عرس,وحشرات متنوعة وطيورة عديدة وتقريبا كل ما يسير على أقدام ولا يعرف كيف أتته القدرة على تحقيق كل ذلك. ولا يعرف من أين تأتي قوالب الطوب اللانهائية,إلا أنه يحتاج إلى لوازم ومعدات الرفع. تسائل لماذا يتوفر لديه الطوب ومادة البناء ولا يتوفر له مرافع وسقالات.

[5]

لقد سئم من بكاء طفله سائلا وشاكيا غياب أمه,ولكنه فجع لمقتله,ولا يعرف كيف صارت الأدوات البسيطة في يده أسلحة سريعة للموت؟ كانت مجرد ملعقة يقلب بها بيضا يعده لطفله الصغير الجائع والشاكي من طريقة أبيه في الطبخ. الوغد يحسب أن أمه تصنع طعاما أفضل. الصدمة الأولى لما قتل إبنه ثم هدأ قليلا,ثم صُدم لما تيقن أن ولده قد مات. ضربة واحدة من الملعقة الخشبية الكبيرة في جبتهه بنفس الموضع التي تفجرت دماء منه دماء رضا وثريا وفي الأخير ابنه مصطفى.

لقد كان ينبض بالحياة فزالت عنه,كانت تنتظره أياما وأعواما فسلبها منه,كانت تتعاقب أنافسه فأخرج آخرها,كان يضج بالروح فذهبت لخالقها,كانت تراه عيناه,وكان دافئ جسده,وكان يحتضنه في صدره وآلان احتضنه الموت بدلا من أبيه.

*******

في اليوم الثالث ومع موت طفله قرر أن يعطي أقصى ما يمكن أن يعطيه,أو حتى يتخطى ذلك لو استطاع.

جمع كل ما يخبئه من ثروة,واستدعى بجزء وفير من المال مجموعتين من العمال؛المجموعة الأولى هم عمال الفراشة,والمجموعة الثانية هم عمال السقالة. ثم قرر أن يدعوا الجميع إلى فرح إبنته المفاجئ. وتعجب الجيران وسكان الحي من ذلك,خاصة وأن الفتاة تدرس في الخارج,وليس لها إلا زيارات قصيرة تزور خلالها العائلة في البيت الآخر بمنطقة مصر الجديدة. الفتاة لها سنوات لم تطأ حي السرايا بقدمها,ربما مرت على والديها بسيارتها الفارهة,لكنها قط لم تترجل منها.

أتى عمال السقالات,ونقدهم كرم مالا فوريا ووفيرا,فأنهوا عملهم خلال ساعة واحدة كما طلب,وهموا للرحيل سعيدون بالغنيمة التي اكتسبوها,ولكن لم يرحل أي منهم قط.

دعا الجميع,حتى أنه استأجر سائقي عربات (تكاتك جمع توك توك) لينادوا على من يريد الحضور,ليس من يريد هو,بل أي من يريد الحضور.

لقد جمع جميع أفراد عائلته (إبنته وأخوه) وأقاربه (الخلان والأعمام) وأصدقائه (حفنة من المقربين) وجيرانه (من بينهم الحاجة أمينة زوجة الحاج ناصر والجارة أم محمود التي لا تعي ما حولها) في فرح كبير. لم تأتي جليلة شقيقة زوجته لأنه قد سبق إليها في شقتها,وحين فتحت له الباب وضربها هذا المرة قاصدا ضربته بحجر بحجم قبضة اليد شق جبهتها في نفس الموقع الذي صارت يديه تذهب إليه من تلقاء نفسه.

[6]

بعد حدوث مجزرة أمس -والتي شملت ما تبقى من عائلته -ابنته- وأقاربه وجيرانه وأصدقائه وبعض أفرد الشرطة وقبلهم العمال وغيرهم من أشخاص لا يعرفهم- في الزفاف الكبير -تذكر الزفاف الدموي في مسلسل ما- صار كالمسعور يجمع الأشخاص والأشياء وكل ما يقابله في طريقه ليطعمه إلى الجدار,الحائط,الطوب,السور,لقد أسماه مسميات عديدة وأخذ يطعمه ملبيا نداء شيء اسمه السعير بن سعار. كيان مسعور آت من الجحيم ليأكل الأخضر واليابس. وتوالت المشاهد بشكل مأساوي.

إمرأة تمشي مع بضعة أطفال تقطع بسيرها أرض الخرائب مختصرة الطريق إلى مدارس أبناءها الثلاثة,ورابعهم على صدرها تحمله بين يديها.

طفل يلعب على دراجته هنا وهناك,يجوب الأراضي المستوية للخرائب وحيدا مبتعدا عن الخرائب المتعرجة. نظر للدراجة وتذكر سائقي الماكينات / الدراجات من نوع الريكشا الهندية (توك توك بالمصرية) واللذين سلموا من أذيته للأسف الشديد الذي يشعر به الآن.

بل وأغلق الجدار على فتى وهو حي لم يمت,وآخر كان قد قتله واتضح أنه لم يمت بعد. تخلص منه بين أحجار الجدار وأخذ يكمل بناء الجدار فاستيقظ ذلك الشخص مفزوعا قائما بجسده يحاول الخروج ولكن كانت أجزاء من جسمه قد تصلبت بفعل الإسمنت الخارق. صورة مروعة وهو يحاول الخروج متشبثا بحياته,عادت للحظة إليه إنسانيته لما تذكر صورة التى الذي أدرك أنه يُدفن حيا والجدار يبنا أمامه بفعل قوى ما تحرك ذلك المدعو كرم. صورة أخرى مروعة أتت في ذهنه لما تذكر مقتل إبنه وإبنته. استرجع صورة أخرى لإمرأة تحمل طفلها,قام بجرها من شعرها وهي محتضنة رضيعها يختلط صراخه بصراخها.

صار كرم كريما في وهبه الموت للناس,وكان أكرم في وهبه الناس للجدار.

لقد كان الجدار يأكل ويكبر.

[7]

قيل عن كرم أنه كان خارقا,ولم يقدر أحد على هزيمته,ولم يكن غالب له إلا جدار آخر مثل الذي كان يتبع أو يعبد. سلسلة من الأحداث الدامية التي استمرت بشكل يفوق وصف الرواة من الناس,مات فيها الكثير من الجند وتم محصارة الأرض السوداء (كما تسمت من الآن) من قبل قوات الشرطة التي كانت تخشى الدخول. وصُدم الناس وارتعبوا لزوال عائلة ياسين القوية التي تسكن على أطراف الخرائب في أول الهمار على يد رجل واحد. وحكيت الحكايات عن الأدوات الكثيرة التي استخدمها كرم في البطش بعائلة ياسين من بنادق آلية وخرطوش ومسدسا وقنابل مسامير ومولوتوف وحتى غازات مسيلة للدموع حصل عليها بطريقة ما. غير عارفين أنه تخلص منهم جميعا بقضيب حديد يضرب به في الجباه. وأخذوا يتحدثون عن العداء الدفين بين عائلة ياسين وبين عائلة كرم التي ذبحت في الزفاف الكبير على أيدي أفراد عائلة ياسين. أو هكذا حسب الناس,واستمرت الروايات عن جماعة مسلحة بقيادة كرم أحاطها الجيش بسور بني في ثلاثة أيام حول الأرض السوداء. غير عالمين أنه كان رجلا واحد يبني جدارا كبيرا.

*******

ومن القبور

.

.

.

.

.

.

.

في الجدار



  • رايفين فرجاني
    ناقد أدبي وسينمائي نشر عدد من المقالات على الشبكة,وكاتب روائي يعمل على عدد من الروايات والقصص القصيرة التي لم تنشر بعد.
   نشر في 18 غشت 2021 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا