الفسيفسائية التعبيرية في " متى يكون الموت هامشا" - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الفسيفسائية التعبيرية في " متى يكون الموت هامشا"

  نشر في 15 مارس 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .


لقد بات واضحا و في ضوء الفهم الواسع لحقيقة اللغة و النص ان هناك العديد من الغايات التأليفية و الكتابية و القرائية التي تؤثر في تكوّن النص و تمظهره و أهم تلك الغايات في نظري هي الغايات النصيّة للنص و يقابلها الغايات الفكرية للمؤلف حيث ان هناك علاقة عكسية بين الغايتين و المؤلف يحاول دائما ان يوازن بينهما. تسعى الغايات الفكرية الى ان تتجلى بأقوى و اوسع ما يكون غير ملتفة الى الاقتصار و الاختزال اللغوي بينما الغايات النصية تسعى الى اكبر قدر من الاختزال و الاختصار لأجل ايصال الفكرة. و المؤلف هنا اما ان ينحاز الى الغايات الفكرية التأليفية ( نسبة الى التأليف اي المؤلف) فيظهر النص بشيء من الترهل و التكرار او انه ينحاز الى غايات النص فيظهر النص بشيء من التقليلية و الاختزال. و لكن هناك حالة ثالثة ابتدعتها القدرة الابداعية الانسانية و التي تحافظ على الغايتين و هذا يعتبر مثاليا الا وهي الكتابة الفسيفسائية التي يجتمع فيها التجلي الاكبر للفكرة مع التجلي الاكبر للنص.

في الكتابة الفسيفسائية تظهر الفكرة والعوامل التعبيرية ( التي تمثل البنية العميقة للنص و الاوسع من الافكار طبعا) باثواب نصية مختلفة اي معادلات تعبيرية مختلفة (وهي المظاهر النصية السطحية)؛ التي تكون مختلفة كليا من حيث الكيانات و الوحدات و الشخصيات الشعرية ( في ما يقابل الشخصية القصصية) و الزمانيات و المكانيات الا انّ تلك المقاطع – اي المعادلات التعبيرية- تنبع و تصدر و تحكي فكرة محورية واحدة و قضية واحدة و عاملا تعبيريا واحدا، فتكون العبارات او الجمل مرايا لبعضها؛ الواحدة تعكس روح الاخرى؛ انها مرايا روحية و ليست شكلية و صورية لذلك اسمينا هذا النظام بلغة المرايا. و هنا تظهر اجزاء النص كقطع الفسيفساء المتناظرة و المتقابلة و المتناغم و المتنافرة في آن واحد.

ان الكتابة الفسيفسائية تظهر بشكلين؛ الاول الفسيفسائية الداخلية وهي الاكثر شيوعا حيث يكون جزء من النص متكونا من عبارة او جملة او جمل هي مرآة و عاكس لجزء اخر، و قد يكون في النص اكثر من كتلتين فسيفسائيتين. الشكل الثاني هو الفسيفسائية الخارجية حيث يكون النص مرآة لنص اخر وهذا عادة ما يظهر في المجموعة الشعرية الواحدة التي كتبت لاجل قضية و رسالة واحدة. كما ان الفسيفسائية كما تكون معنوية دلالية فانها ايض تكون تعبيرية شعورية بل حتى تجريدية.

هنا سنتناول تجليات الفسيفسائية بشكليها الداخلي و الخارجي و الدلالي و التعبيري في مجموعة " متى يكون الموت هامشا؟" للشاعر العراقي انمار مردان وفق منهجنا النقدي الكمي الاستقرائي المتتبع للعناصر موضوع البحث و تكتلاتها و تجلياتها. و انمار مردان شاعر يتميز بالتعبيرية العالية و الرمزية المحلقة بسرعة الاسناد الشعري – اي الانزياح الاسنادي المتطرف- و تحليق الصورة مجاز و خيالا. وانمار شاعر عراقي من مواليد مدينة بابل سنة 1983 ؛ ظهر اسمه في العديد من المجلات الادبية و نال جوائز عدة.

في مجموعته " متى يكون الموت هامشا؟" التي تقع في تسعين صفحة من القطع المتوسط و اصدار مطبعة الفرات في بابل و المشتملة على ثلاثة و عشرين نصا طويلا نسبيا ( بمعدل ثلاث او اربع صفحات للنص الواحد) مقارنة بالنص المعاصر الذي صار لا يتجاوز الصفحة عادة. و طبيعة و طول النصوص يكشف عن احد الملازمات النصية للكتابة الفسيفسائية حيث ان الكتلة الكتابية الكبيرة مطلوبة احيانا للنص الفسيفسائي و ان كان بالامكان اداؤه بلغة تقليلية ايضا. كما ان عنوان المجموعة " متى يكون الموت هامشا؟" ينبئ عن الطبيعة التعبيرية للمؤلف و السرع الاسنادية العالية ( التي تتناسب مع رجة الانزياح) و الصورة الشعرية المحلقة ( التي تتناسب مع خيالية وغنائية العبارة)؛ و التعبيرية الفردية التي تصل حد التجريد التي يجدها القارئ مستفيضة و متكثرة في الديوان، و بهذا فان الكاتب ينتمي الى جيل الحداثة بامتياز. و لهذا فان على القارئ ان يستحضر ادوات تعبيرية شعورية و توصيلية ورمزية لاجل قراءة نصوص المجموعة، و لاجل ذلك كانت قراءتنا هنا تعبيرية تستحضر الشعور و التأثير و ليس دلالية فقط تعتمد الفكرة و المعنى.

في هذه المجموعة نجد تجليات نموذجية للكتابة الفسيفسائية بشكليها الداخلي و الخارجي. ففي قصيدة " الحرب عند رمق الثلج " نجد ان النص يتقسّم الى اربعة مقاطع كتابية؛ معدل طول كل مقطع بين سبعة الى ثمانية اسط مشطّرة؛ كل سطر يتراوح طوله بين ثلاث الى اربع كلمات. و نجد ان كل مقطع ( او كتلة ) من المقاطع هو في واقعه مرآة تحاكي و تناغم المقاطع الاخرى و ان كانت الصورة مختلفة و الوحدات التكوينية مختلفة ففي المقطع رقم (1) يقول المؤلف ( الحرب صديقتي العاهرة \هي العطش الوحيد الذي لا مقاس له\كل نفس ذائقة النوم في سلالم العصيان\ الحرب تنجب بافراط متسع \ تترجل تحو الذنوب الساطعة ببياض افواههم\ الحرب قزم اصلع \ كلما يأكل يزداد كرشه) هنا نجد فسيفسائية داخلية واضحة حيث ذات الفكرة تتجلى في ثلاث صورة مختلفة ؛ الاولى ( هي العطس الذي لا مقاس له ) و الثنية ( الحرب تنجب بافراط ) و الثالثة (كلما يأكل يزداد كرشه). نحن نلاحظ و بوضوح الضغط الذي تمارسه الفكرة على المؤلف و دعوتها له الى مزيد من التجلي حتى انها تتشكل بصور مختلفة اي بمعادلات تعبيرية مختلفة. ان هذه المعادلات التعبيرية السطحية تنبع و تحكي و تقصد عاملا تعبيريا عميقا واحدا كما هو واضح. في المقطع (4) يقول الشاعر ( بعد موت حرب قديمة \ ساصطحب الخوف\ فهناك \ خدود سيتشوه لحمها امامي \ و الارض غير المطمئنة بخطوتها \ تعلن حدادها على فقرها \ و المطر ببدلته العتيقة يتكور هنا\ لا عليكم فالفكرة كلها \ اني ساترجم معركة ذلك النهر في تلك البركة ).

ان في هذا النص عبارة مهمة للغاية وهي عبارة ( لا عليكم فالفكرة كلها ) وهي تشير الى التجلي اللاوعي للفكرة في النص و تظهر حقيقة الغايات الفكرية و انعزالها و انفصالها عن المؤلف و النص و انها تسعى بنفسها للتتجسد، و من جهة اخرى هذه العبارة تكشف عن الطبيعة الفسيفسائية للنص و ان الفكرة – او العامل التعبيري- يحاول ان يتجلى و يتمظهر باكثر من صورة اي باكثر من معادل تعبيري. و من الواضح ان العبارات موغلة في التعبيرية حد التجريد و ان القراءة الجمالية هنا شعورية حيث الزخم الشعوري المتناغم و المتقارب بين وحدات تعبيرية مثل (حرب قديمة \ المطر ببدلته العتيقة ) و المجال الشعوري ( خدود سيتشوه لحمها امامي\ الارض - تعلن حدادها على فقرها\ المطر- يتكور ) .

و نلاحظ ان عوامل التناغم و التحاكي بين المقطعين تظهر في جانبين توصيلي في رسالة الدمار و المأساة و الويلات التي تخلفها الحرب و تجريدية في القاموس اللفظي المليء بالالفاظ التي تقع في مجال الخواء و العدم و العجز. وهذ كله من الفسيفسائية الداخلية. و نجد فسيفسائية خارجية واضحة ومحاكاة و مرآتية واضحة بين نص عنوانه " متى يكون الموت هامشا؟" الذي عنونة المجموعة به و نص اخر عنوانه " متى احمل صراطي المستقيم؟" بل و باقي نصوص المجموعة فان قاموسها الدلالي و الشعوري؛ و بوحها التوصيلي و الرمزي تتجه نحو مجالات فكرية و معنوية موحدة مليئة بالاعتراض و التساؤل و الخواء.

ان الشاعر و رغم تعبيريته العالية و رمزيته المحلقة الا انه استطاع ان يوصل رسالة و قضية بمعادلات تعبيرية توصيلية و تجريدية تحكي و تقصد عوامل تعبيرية موحدة، و بهذا النظام الكتابي حقق النص الكتابة الفسيفسائية و كانت العبارات و الكتل النصية مرايا لبعضها. 


  • 2

   نشر في 15 مارس 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا