فصول من الفكر الإسلامي المعاصر - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

فصول من الفكر الإسلامي المعاصر

  نشر في 21 أكتوبر 2017  وآخر تعديل بتاريخ 09 نونبر 2022 .

  

   "الإنحدار" ، تعبير ربما يُصوِّر بشكل دراماتيكي "سيرورة الإستمرار" أو ما تعيشه الأمة العربية و الإسلامية من تراجع و إنكفاء ثقافي و فكري و علمي و سياسي و ربما حتى أخلاقي ، في مرحلة عصيبة قد تستقيم تسميتها بــ"مرحلة ضياع المرجعيات" ، حيث أصول النظر و الإعتقاد متباعدة حد التناقض ، و بواعث السلوك و التصرف مبهمة المناهل و متعددة المنابع ، مختلفة الأشكال و متضاربة المعاني و الدلالات ، لعل ذلك ما استشعره بعمق الأستاذ "محمد ابن المختار الشنقيطي" ، كي يعود إلى التاريخ القريب و يرجع معه بعض أفكار تعود لمن أسماهم "خيرة العقول المسلمة" ، عسى أن تعيد له و للقارئ الثقة في الحاضر المتقهقر ، الناضح بكل القرائن الدالة على أننا لسنا في طور الثورة أو الإنتقال من موقع حضاري إلى آخر ، و إنما نحن في طور "الإنقراض" .

  لذلك يستحسن إعمال النظر و القراءة في مثل هذه الكتب ، التي تفصح عن طبيعة فكر المسلمين و مستوياته و كذا انقطاعاته و تقاطعاته و استمراريات أفكاره الناظمة الكبرى .

عودة إلى الكتاب ، نعلن بأنه كما شبهه صاحبه "خفيف القراءة كثيف المضامين" ، حيث كَثَّف فيه أهم أفكار سبعة مفكرين إسلاميين معاصرين ، من محمد إقبال إلى محمد حميد الله مرورا بمالك ابن نبي و عزت بيغوفيتش و محمد أسد والفاروقي و عبد الله دراز ، الذين اختلف انتمائهم من مشارق إلى مغارب الرقعة الجغرافية المسلمة ، لكن جمعهم فكر يشكل الدين الأساس الذي تقوم عليه عناصره ، عموما إذا أردنا أن نُجمل أطروحة الكتاب في أسطر يسيرة أمكن القول :" بأنه تأريخ لبديع أفكار طليعة المفكرين المسلمين في القرن العشرين الذين عاشوا في سياق تاريخي ملئته الصعاب و الأزمات ، ما دفعهم إلى التفكير في مخرجات لإنسدادهم التاريخي هذا ، فنظروا لذلك في ما هو ثقافي و سياسي و حقوقي و غيره ، في بوثقة روحانية لم تخرج عن التوجيهات الكبرى للإسلام " .

   في الإنتقال إلى التفاصيل ، يستهل الشنقيطي -أستاذ الأخلاق السياسية في الجامعة القطرية- حديثه عن "محمد إقبال" الذي يصفه بــ"الأعجمي صاحب اللحن الحجازي" ، عموما فقد ولد إقبار في البنغال الهندية سنة 1877 ، و تحصل على باكالوريوس و ماجستير في الفلسفة في موطنه الأصلي ، ليكون لقائه مع شهادة التبريز في إنكلترا في نفس التخصص ، غير أن لإقبال فسيح موقع للإبداع حيث ضم للفلسفة تضلعا في الشعر و الأدب و التاريخ ، كما جمع من الألسن الأردي و العربي و الإنجليزي ، ما يظهر بأنه شخص وفَّر في نفسه معظم شروط الإرتقاء إلى مستوى المفكر الرصين .

  في ما يخص فكره نسجل أولا بأنه أول من دعى إلى تأسيس دولة خاصة بالمسلمين و مستقلة عن الهند ، تكفل للمسلمين حقوقهم و تحفظ لهم ثراثهم ، و هي ما سيتحقق فيما بعد عبر دولة "باكستان" ، أما من ناحية الشعر فقد ألف إقبال 9 دواوين شعرية مترجمة للغات مختلفة ، من ناحية أخرى خطت يداه باكورة كتب كان أبرزها "إعادة بناء الفكر الإسلامي" و "تطور الميتافيزيقا في بلاد فارس" ، و فيهما الخطوط العريضة لإتجاهه الفكري الذي جعل "لإتباث الذات" ركنه الأساسي ، و هو تعبير عن نقص في الشعور بالإعتزاز بالذات التي زلزلت منذ أواخر القرن 18م و بدايات القرن 19م ، أي حينما أدرك المسلمين ضعفهم و تخلفهم أمام الآخر الأوربي ، الذي كان المسلمون لوقت قريب يحتلون أطراف معقله الجغرافي و يغزون ساحته فكرا و ثقافة ، و بمقابل ذلك دعى إقبال إلى "نفي الذات" أيضا ، أي تعليم الذات التواضع و إسقاط رغائبها إذا تعارضت مع مصالح الأمة أو اختلفت مع مراد الشرع ، ما يعني أن الجمع بين نفي و إثبات الذات يعد خط عريضا للإحيائية الحضارية التي تمتح من معين الروح/الدين ، دون تفريط أو تبخيس للإجتهاد في توفير الجوانب المادية للحياة ، ذلك حيث يعد أفق الدين و بساط الرفاهية الدينيوية هما الناظمان العمليان للحضارة -المرتقبة- في فكر محمد إقبال .

   يعرج الشنقيطي بعد إقبال إلى "محمد عبد الله دراز" ، عاشق قرآن كريم حسب تشبيه الكاتب ،إذ ولد دراز في مصر لعائلة اشتهرت بتعليم و تعلم العلوم الشرعية ، حيث كان أبوه من أساتذة الأزهر و شارحا لأهم كتب الفقه و أعينها ككتاب "الموافقات" للشاطبي ، إذ هضم عبد الله علوم الشرع في الأزهر ، بعذ ذلك سنحت له فرصة الدراسة في أهم معاقل العلم الوضعي في أوربا ، حيث استفاد من منحة للدراسة في السوربون ، ما كان ثمرتها إلا أخد معرفة وافية عن الثقافة و الفكر الأوربي ، توَّجها دراز بحصوله على دكتوراه حول أطروحة اختار لها عنوان "أخلاق القرآن morale du coran" ، التي ينقل الشنقيطي أنها أعجبت كبير المستشرقين "ليوي ماسينيون" و غيره من أساتذة السوربون.

  أما عن فكره ، فقد كان كتابيه "النبأ العظيم" و "مدخل إلى القرآن الكريم" ، و هما كتابان يصبان في ما عرف بتجديد الدراسات القرآنية ، الذي كان موضة أواسط القرن العشرين ، حيث كتب في هذا الإتجاه مجموعة من المفكرين من بينهم صديقه مالك ابن نبي ، الذي قدم دراز لكتابه "الظاهرة القرآنية" مقدمة توضح تواشج فكر الرجلين ، فيما يتعلق بإنتاج معرفة جديدة حول الكتاب المقدس المحمدي (القرآن) ، و كما إقبال فلم يستكن دراز إلى الثراث الموروث و لا إلى الفكر المتدفق الغربي ، بل حوَّرهما إلى غاية تستقيم مع أحوال أمته الحضارية ، ذلك من أجل فهم عميق قد يسعف في تجاوز الكبوة الإسلامية .

من بُعد آخر اشتهر عن دراز كما أرخ ذلك تلميذه "يوسف القرضاوي" أنه كان شديد التعلق بالقرآن ، ذلك ما هندس تصوراته -بمعية فكر فلسفي أوربي شديد الإنفتاح- حول مسائل خلافية في الفكر الإسلامي ، كالجبر - الإختيار ، سنة - بدعة ، حكمة - شريعة ، العقل النقل ... بطريقة تنئا عن التخندق مذهبيا أو آيديولوجيا ، كلها تعرض لها دراز و درسها بمنهج بعيد عن الميل إلى اتجاه دون الآخر ، و إلى موقف معتدل لامتطرف يمينا و لا شمالا ، و للقارئ مثال ذلك حول مسألة : "تقبيح القبيح و تجميل الجميل و الحكم على الأشياء إن هي خير أو شر" ، حيث تطرف جزء من السلف في اعتبار الشرع هو الحاكم النهائي لذلك دون غيره ، كما اعتبرت فرق إسلامية أخرى أن "العقل" فقط كالمعتزلة و في غنى عن الشرع يمكن أن يحكم على الأشياء و الظواهر ، إن هي على جهة القبح أو جهة الجمال ، الخير أو الشر ، لكن دراز اختار لنفسه موقفا وسطا حيث اعتبر للعقل صفة الحكم و منح للشرع صفة التأكيد ، و هو موقف معتدل يقبل به أي عاقل متنور لا دوغمائي متطرف . كما تجسدت فرادة الرجل في دراسته للقرآن بمنهج غير منهج الأقدمين ، الذي كان بابه اللغة و البلاغة ، حيث حاد دراز عن هذا المنهج و انقطع إلى دراسة منهجها التحليل الرسالي الذي يستنبط بالضرورة أخلاقيات لا قوانين .

   ينتقل بعد ذلك الكاتب للتعريف بمفكر اشتهر بتنظيره للحضارة ، و هو الجزائري "مالك ابن نبي" الذي ولد في قسنطينة سنة 1905 ، حيث حصل أولى دراسته في موطنه من مدارس إسلامية ، لينتقل إلى باريس لاستكال الدراسة ، و هو ما كان بتخرجه مهندسا سنة 1935 ، عرفت حياته عدة تقلبات كان عنوانها المكابدة و الصبر و الإجتهاد ، حيث هاجرت أسرته إلى تونس و الجزائر هربا من الإضطهاد الإستعماري ، ثم في ما بعد هاجر إلى مصر التي بينما هو في رحاب جامعاتها و حواضرها اندلعت الثورة الجزائية ، و بعد أن انطفئ أوارها و سكنت فتنتها عاد إلى بلده حيث شغل عدة مناصب مرموقة ، كرئيس للجامعة الجزائية و مستشار للتعليم العالي ، غير أنه اعتزل الوظائف التسييرية لكي ينقط للوظيفة الفكرية ، ذلك ما كان إلى أن انتقل إلى متواه الأخير .

أما عن فكره ، فتبقى أسماء مثل "الظاهرة القرآنية" و "شروط النهضة" و "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" كلها كتب طبعت الفكر الإسلامي بشكل إيجابي ، فمن الملاحظ أن اجتهاداته لم تخرج عن إطارين هما : "تجديد الدراسات القرانية و البحث عن أفضل السبل للنهوض و التحضر" ، ففي المجال الأول و كصديقه محمد عبد الله دراز ، استكف عن الدراسة البيانية اللغوية للنص القرآني ، بل آثر النظر إليه تحليليا و تاريخانيا (التاريخانية ليس بمعناها كما هي عند مفكرين يساريين/حداثيين كعبد الله العروي ، و إنما المقصود بالتاريخانية النظر فيما حكاه القرآن تاريخيا بما يستبط مُثُلا و قيما لا نهوجا أو قوانين) ، أما في الجانب الآخر أي مجال فكر الحضارة الذي كرس له بن نبي معظم كتبه ، فقد قدم عدة مفاهيم جديدة كـ"القابلية للإستعمار" ، أي الشعب الذي يستهلك و لا ينتج لا صناعة و لا فكرا و لا ثقافة تساير حركة التاريخ ، يكون شعبا ضعيفا و بذلك يصبح مؤهلا للإستعمار و الإستعباد ، عكس الشعوب المنتجة التي بإنتاجها للفكر و الصناعة تنتج القوة و القدرة كذلك . تحدث مالك أيضا عن "الأفكار الميتة" و "الأفكار المميتة" ، حيث يعتبر الأولى من تجاوزها التاريخ ، أما الثانية فهي التي تجاوزها التاريخ لكن أهلها لا زالوا يستحفون بها تشبتا و دفاعا ، ما يحدوا بهم إلى التخلف و الإنحطاط ، و هذا مثال ما الأمة الإسلامية عليه من وضع و مكانة .

  صاغ مالك ابن نبي كذلك نمذجة تفسيرية محترمة للحضارة تذكرنا بابن خلدون ، حيث اقترح أن الحضارة تبدأ بطور "الروح/الصعود" بعد ذلك تنتقل إلى طور "العقل/الإمتداد" ، ثم تنتهي إلى طور "الغريزة/الإنحطاط" ، و من ذلك سعى إلى ما سماه "الفكر الفني الذي يعجل بحركة التاريخ" ، و هو المبدأ المتلخص في ضرورة التخفيف من الحديث عن العقائد المجردة دون ازدرائها أو التخلي عنها ، و إنها العمل الجبار فهو الذي يتغى استحداث أوضاع المجتمعات على الكيف المادي و السياسي ، وفق تأطير غير منفلت من قيم الروح و القداسة ، حيث يستنكر مالك أن نستمسك بالدين دون اهتمام بالدنيا و العكس صحيح ، حيث يقول :"لم يتخلى المسلمون عن عقيدتهم ، و لكن عقيدتهم تجردت من فاعليتها ، لأنها فقدت إشعاعها الإجتماعي" ، أي لم يتخلى المسلمون عن وظيفتهم الروحية لكنهم نسوا جانبها العلي فأضحى تدينهم فج مفترغ من طاقاته التغييرية ، الشيء الذي إنحدر بهم إلى الإنحطاب .

  يصل بعد ذلك الشنقيطي إلى "اسماعيل الفاروقي" ، الذي ولد يافا الفلسطينية سنة 1921 ، حيت تعلم ابتدائيا في مساجد و مدارس يافا ، لينتقل بعد ذلك إلى لبنان فيتحصل على باكالوريوس فلسفي ، ثم يهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث حصل هناك على شهادتين في الماجستير و ثالثة في سلك الدوكتراه في تخصص المفكرين الفلسفة ، عاد بعذ ذلك إلى مصر ليقضي 4 سنوات في طلب العلوم الشرعية ، جمع كذلك لسان الشرق و الغرب العربي و الفرنسي و الإنجليزي ، كما تخم بالثقافة العربية الإسلامية في موطنه و كذا اغترف من الثقافة الغربية الكثير في غربته ، ساح في مختلف أسقاع الأرض سائحا أو أستاذا ، مرة في كندا و أخرى في مصر و أمريكا ، كل ذلك يؤكد أن الفاروقي كان من خيرة المسلمين في زمانه فكرا و ثقافة .

  في فكره ، فقد خلف 25 كتاب و أكثر من 100 دراسة و مقال أكاديمي ، حيث يعد كتابه "أخلاق المسيحية: تحليل تاريخي منهجي لأفكارها" من أشهر الدراسات النقدية للمسيحية في زمانه حيث كان متخصصا في تاريخ الأديان ، و هو الكتاب الذي تسبب له في مشاكل مع قساوسة شعبة اللاهوت في جامعة ماكغيل في كندا ، من كتبه المترجمة كذلك "أطلس الحضارة الإسلامية" الذي كتبه بمعية زوجته -الذي لقيا معا للأسف مصيرا فاجعا كما سنوضح بعد قليل- و هو بترجمته شكل إضافة نوعية للمكتبة العربية في مجال التأريخ للحضارة الإسلامية بمنهج علمي معاصر لا سلطاني متقادم ، كما يعد من أهم كتب زمانه ذلك الذي اختار له اسم "أطلس تاريخ ديانات العالم" ، و هو تحقيق و تأريخ رصين لمختلف عقائد و أديان العالم المشهورة ، أما في ما يخص إضافاته في الفكر الإسلامي ، فإن كتابه "التوحيد و مقتضياته في الفكر و الحياة" يشكل الخط العريض لذلك ، حيث اقترح على هدي مالك ابن نبي أن لا يكون الدين مجرد طقوس و إنما رافدا و باعثا من بواعث القيام و النهوض الحضري .

  من المسائل الخلافية التي كان سباقا الفاروقي إلى إثارتها هي مسألة "أسلمة المعرفة" ، حيث دعى إلى تعليم و تعلم المعرفة العلمية و الفلسفية الجديدة في قالب إسلامي بحث ، لأن هذه المعرفة الوافدة تختلف مع الإسلام في كثير قضايا ، ذلك و تجنبا و خيفة من انسلاخ الدارس من ثراثه و انصهاره في الثراث الوافد ، دعى مفكرنا إلى أسلمة هذه العلوم كشرط ضروري قبل تداولها في المدارس و الجامعات ، يأتي ذلك خصوصا في زمن لاحظ فيه الفاروق تعاظم ضحالة فكر و ثقافة المسلمين ما يجعل فكرا دخيلا حتى لو كان إيجابيا ، عاملا قد يذهب خصوصية الثقافة و الثراث الإسلامي ، ما يجعل أسلمة العلوم ذرعا ضد تجريف هذه الخصوصية .

  ختاما تقصدت أن أنهي الحديث عن مصير اسماعيل الفارقي و زوجته الدكتورة لمياء الفاروقي ، حيث قتلا غيلة طعنا بالسكين ، ليلة 27 ماي 1982 من طرف جهة لا زالت حتى الآن مجهولة ، و كغيره من علماء و فلاسفة فلسطين و مصر و غيرها ، الذين اشتهروا بموقفهم السلبية و الرافضة لدولة الإحتلال الإسرائيلية ، و قتلوا لأسباب لم تفك طلاسيمها بدقة حتى الآن ، فكما قتل جمال حمدان -الذي وجد في شقته جثة محروق نصفها الأسفل - و قاسم ربيع و يحيى المشد و سميرة موسى و حسن صباح و غيرهم من عباقرة العرب في القرن 20م ، دون معرفة دقيقة حول أسباب وفاتهم ، نفس الشيء تعرض له اسماعيل الفاروقي و زوجته اللذين اغتيلا في ظروف غامضة لم يعرف أحد فك لغزها ، غير التلويح بأصبع الإتهام باتجاه اسرائيل .

  الآن نصل إلى أشهر خيرة العقول حسب الشنقيطي و هو "علي عزب بيغوفيتش" ، الذي ولد سنة 1925 في شمالي غرب البوسنة ، تلقى تعليمه الأولي في بلدة "بوسانا كروبا" ، ثم انتقل إلى جامعة سراييفو و هناك تخرج محاميا ، غير أنه كما يتضح من كتبه أن له معرفة وافية في التاريخ و العلوم الإنسانية ، ذلك بسبب تعلمه لأهم اللغات الأوربية التي أتاحت له قراءة و هضم روائع الفكر الفلسفي و السياسي الغربي ، شهدت حياته الكثير من الأزمات كغيره من المفكرين ، حيث وقعت بلاده في شراك النازية حيث اضطهد بسبب مواقفه المعادية لها ، و بعد انصرام عهد النازي تألب الشيوعيون هم الآخرون على البوسنة ، و هو ما دفع بيغوفيتش إلى تصيد منسوب و فاعليته النضالية اتجاه المستعمر ، و ما كان من هذا الأخير إلا أن كمم فاه مفكرنا و رماه في غياهب السجن مدة مديدة ، لكن بقدر الصعاب تنكشف السرائر ، حيث انتهى المطاف ببيغوفيتس بعد استقلال بلاده رئيسا و حاكما عاما حتى توفي سنة 2003 .

في الإنتقال إلى فكره ، أقول أولا أن ممارسات بيغوفيتش السياسية و الحقوقية و أيضا العسكرية إلى حد ما ، تعبر عن شخصيته المرموقة أكثر من فكره و ما دونه في كتبه ، فرجل سجن مرتين و عرضت عليه حريته مقابل تنازله عن بعض مبادئه الإنسانية و الوطنية فرفض ، و آثر السجن عن ضياع بعض حقوق بلده و ثقافته ، ذلك أن للرجل مواقف تعبر فعلا عن النبل و الرجولة و عزت النفس ، أما عن كتبه فيمكن أن أقول أنه ليس بتلك الدرجة المبالغ فيها التي تصوره على أنه فيلسوف و مفكر كبير جدا ، بل على العكس من ذلك فهو رجل شغل تفكيره فيما هو خاص أكثر مما هو عام ، أي ما تعلق بحياته و بلده في تداخل طبعا مع عقيدته و دينه ، لكنه ليس مفكرا بالقدر الذي قد يوصف به حسن حنفي أو الجابري أو أركون أو أدونيس من المفكرين المنهجيين/الأكاديميين ، ففكر الرجل لا يعدوا كونه ملاحضات أو بدقة أكثر أحكام تنم عن حكمة عميقة حول الحياة و السياسة و الدين أكثر من كونه فكرا منهجيا رصينا ، لكن ذلك لا ينقص من قيمة علي بيغوفيتش الذي تبقى كتب مثل "حروبي إلى الحرية" و "الإسلام بين الشرق و الغرب" مؤلفات خالدة من رجل شريف ، حيث نظر فيها لموضوعات مختلفة مثل العدالة و الجهاد و التسامح ، ففيما ما يخص العدالة له موقف إنساني رائع ، حيث يعتبر المنفذ للعدالة يقف على قدر المساواة مع المجرم نفسه ، يقول بيغوفيتش :"الطريقة الوحيدة للوقوف أمام الظلم هي التسامح ، أليست العدالة ظلما جديدا" ، عبارة بكل فخر تصلح أن توضع على واجهة المؤسسة الدولية لحفض السلام . من جانب آخر كان يرى في الإسلام المنقذ الذي يتوسط تطرف الغرب المادي و غلو الشرق الروحاني ، حيت اعتبر الدين من أهم روافد الأنسنة و الإرتقاء ، و أكثر دفة محفزة على النهوض و العمل و الصلاح .

  بعد بيغوفيتش يتطرق الشنقيطي إلى حياة و فكر "محمد أسد" ، الذي ولد سنة 1900 في أوكرانيا لعائلة يهودية ، حيث درس في كييف ثم انتقل إلى فيينا و برلين دارسا الأدب و الفلسفة ، حيث كان كثير الريبة في دينه اليهودي ، فظل يبحث في أصالته إلى أن أتيحت له فرصة السفر إلى فلسطين عند أحد أقربائه ، و هو ما أتاح له الإطلاع على تاريخ و ثقافة الشرق ، و هو ما سيعيد برمجة فكره و رئاه إلى الأبد ، حيث سيعتنق الإسلام ، و سيتزوج من سيدة مسلمة و يستقر بعذ ذلك في السعودية و متنقلا كذلك بين مصر و الخليج و ليبيا .

 عن فكر يسلط الضوء الشنقيطي أن طلال أسد استشعر أن فرصة تغيير دينه و ثقافته بدين الإسلام قد أزفت ، ذلك حيث ازدرى فكرة شعب الله المختار و فكرة الله القبلي الذي يصوغ مصائر الوجود حسب رغائب شعب منزور العدد ، و كأفكار صغيرة صارت اليهودية هي كذلك قزمة في نظره ، ما حدى به إلى التخلص منها حيث ارتمى في أحضان الإسلام دينا و فكرا و قضية ، حيث شغل باله وضع المسلمين المتردي الذي انتقل من سقوط الخلافة إلى اجتياح الإستعمار ، فكان مناصرا لقضايا التحرر و الإستقلال ، بل بلغت به الحماسة إلى أن يخاطر بحياته و يذهب إلى ليبيا من أجل لقاء الشيخ المجاهد "عمر المختار" ، حيث مكث معه ليلتين كاملتين يتداولان أمر الإستعمار و الجهاد و سبل حل الأزمة التي تعقدت أكثر مع إحكام الفاشيين القبضة على الحدود بين مصر و ليبيا ، في هذه الظروف اقترح طلال أسد على عمر المختار الخروج إلى مصر و العودة فيما بعد بقوة أكبر ، غير أنه ما كان من عمر إلا أن اختار القتال حتى النهاية ، حيث أسر بعد ذلك بثمانية أشهر و ألقى حتفه على طريقة المتوحشين الفاشيين ، بعد هذه التجربة سيسافر طلال إلى الهند للقاء محمد إقبال من أجل المساعدة في توليد الدولة الجديدة ، حيث صاغ لها طلال أول دستور إسلامي الذي به تحددت السلط و تسيرت مؤسسات الدولة الناشئة ، كل هذا و ذلك و غيره حكاه و دونه طلال أسد في كتابيه الجميلين "الطريق إلى الإسلام" و "الشرق غير الرومانسي" .

  أما في كتابه -ربما الأكثر شهرة- "الإسلام بين مفترق الطرق" ، الذي عبر فيه عن فكره التغييري لأوضاع المسلمين الإجتماعية و السياسية المتردية ، ذلك أنه نظر للإسلام على أنه حل إذا تحول إلى عمل و اعتقاد ، و ليس طقوس و دروشة ، كما دعى كمحمد إقبال إلى رد الإعتبار للنفس الإسلامية و تكثيف الإعتزاز بها بعد أن تضعضع هذا الشعور منذ القرن 19م ، حيث يقول أسد في هذا الصدد : "ما من مدنية تستطيع أن تزدهز بعد أن تفقد إعجابها بنفسها و صلتها بماضيها" (ص 86 من الإسلام بين مفترق الطرق) ، بل غالى طلال أسد في النموذج الإسلامي إلى حد أنه اعتبر أن البشرية لم تصنع و لن تصنع مستقبلا نظاما أخلاقيا مثل ذلك الذي أتى به الإسلام ، حيث يقول : "لم تشب الإنسانية عن الإسلام في نموها الحاضر ، بل إنها لم تستطيع أن تأسس نظاما أخلاقيا مثل ذلك الذي أتى به الإسلام" (ص114،نفسه)، هكذا يتضح أن أسد كغيره من المفكرين الإسلاميين الذي لا تتمايز/تتباعد أفكارهم عن معتقداتهم الدينية البتة .

  أخيرا يعرج الأستاذ المختار على "محمد حميد الله" ، الذي ولد سنة 1908 في حيدآباد جنوب الهند ، رغم أن أصوله عربية مكية غير أن عائلته هاجرت من بطش الأمويين في القرن 8 الهجري ، فاستقروا في هذه المنطقة و بها تلقى تعليمه الأولي و الجامعي ، كما اجتهد في تعلم الكثير من لغات أهل الأرض كما ينقل الشنقيطي ، و كان آخرها الروسية و التايلاندية ، ثم رحل إلى المدينة المنورة حيث لزم أحد الشيوخ و أخذ عنه إجازة في علوم القرآن ، بعد ذلك انتقل بين جامعة العثمانية و بون و السوربون ، دارسا للإسلام و القانون الدولي الذي حصل فيه على دكتوراه دولة بتوجيه من المستشرق الفرنسي "فريتز كرينكو"، ليعيد الكرة كذلك و يحصل على نفس الشهادة في العلوم السياسية حول موضوع "الديبلوماسية الراشدة و الأموية" ، كل هذا يدل على أنه إنسان اجتهد في هضم معظم لغات و معارف زمانه في مجال الدراسات الإسلامية و القانون و السياسة .

  في الإنتقال إلى مواقفه و فكره ، يتحتم ذكر أنه كان يطالب باستقلام مسقط رأسه إمارة حيدرآباد عن الهند ، و أن تصبح دولة خاصة بالمسلمين الشيء الذي دعفه إلى الذهاب إلى الأمم المتحدة في ركاب وفد ديبلوماسي ، قصد التعريف بقضيته الوطنية ، غير أنه فشل في مسعاه فقرر أن لن يعود إلى بلده إلا بعد أن يتحرر ، و هو ما لم يتحقق حتى مماته في الولايات المتحدة سنة 2002 ، بعد قضائه أكثر من 50 سنة في فرنسا ، هذا عن موقفه السياسي .

  من ناحية أعماله فقد كتب أكثر من 1000 مقال ، كما شارك في تأليف "أطلس تاريخ الأديان" و "دائرة المعارف الإسلامية" ، كما يبقى عمله الخالد هو ترجمته للكتاب المحمدي (القرآن) إلى اللغة الأردية و الفرنسية ، و هو ما دفعه إلى تألف كتاب "القرآن بكل لسان" حيث يصور فيه إعجابه بلغته و فنه و سرده و هديه الضافي للقارئ على المؤمن به أو الغير مصدق لرسالته ، بعد ذلك اشتغل في كتاب تأريخي حول ترجمة المستشرقين لصحيح البخاري حيث أبان تحيز بعضهم و التزام نفر آخرين منهم ، و هو ما فتح له الأفق من أجل كتابة مؤلف ضخم من مجلدين عن النبي محمد ، تحت عنوان "رسول الإسلام : حياته و آثاره" ، أما في المجال السياسي فقد اختطت يده عناوين أساسية كـ"مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي و الراشد " و "أول دستور مكتوب في العالم" و هو تحقيق لدستور المدينة النبوي ، ثم اشتغل عن التواشج و الثآثر في مؤلف آخر بين القانون الروماني و الفقه الإسلامي ، أي بذلك يتضح أن معظم أعمال و أفكال "حميد الله" دارت معظمها حول الإسلام و الثقافة الإسلامية ، ترجمة و سياسة و قانونا و فقهً .

  ختاما أعبر على أنه لا مندوحة من إظهار تحفضي عن اختيار المختار الشنقيطي لـ7 مفكرين مسلمين و وصفهم بأنهم "خيرة العقول المسلمة في القرن 20م" ، حيث أن فكرهم كلهم إسلامي إلى حد ما "محافظ" و لم يخرج غالبا عن أطر الفكر الإسلامية التقليدية إلا أحيانا ، بل ربما هذا الفكر هو من هيَّأَ البساط إلى "الإحيائية الإسلامية" أي التيار السلفي الداعي إلى استحياء الإسلام ليس كدين و إنما كآيديولوجيا شمولية ، ذلك أن جذر التيار هذا نجد بعض أفكاره عند مفكرينا في هذا الكتاب ، ذلك أنهم كلهم نظروا إلى الإسلام كحل لكل شيء دون استثناء ، أي أنهم دعوا إلى جعل الدين شمولية جديدة يستلحف بها المجتمع و الثقافة و السياسة و الإقتصاد و الفكر بل حتى المعرفة (نموذج الفاروقي اسماعيل) ، كل شيء دعوا إلى أسلمته ، و هو ما استثمر من بعدهم من طرف التيارات المختلفة المنضوية تحت لواء الإسلام السياسي ، ما يدفعني كقارئ إلى عدم اعتبار هؤلاء السبعة الأفاضل خيرة العقولة "إلا" عند صاحب الكتاب فقط ، فهناك مفكرين آخرين غير إسلاميين كعبد الله القميصي و علي الوردي و حسن حنفي و أدونيس و علي عبد الرازق و محمد عبدو و خير الدين التونسي و فرج فودة و الجابري و محمد أركون و عبد الله العروي و غيرهم ، ممن عاشوا في القرن العشرين كذلك و قدموا أعمالا ممتازة ، يلتمس فيها القارئ الحكيم الحلول الناجعة لأزمتنا الحضارية ، غير أن الشنقيطي لم يختار أي من هؤلاء مع سباعيته المظفرة هذه ، و هو ما يكشف عن الحزب الآيديولوجي الذي ينتمي له المختار الشنقيطي .






   نشر في 21 أكتوبر 2017  وآخر تعديل بتاريخ 09 نونبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا