"الإنحدار" ، تعبير ربما يُصوِّر بشكل دراماتيكي "سيرورة الإستمرار" أو ما تعيشه الأمة العربية و الإسلامية من تراجع و إنكفاء ثقافي و فكري و علمي و سياسي و ربما حتى أخلاقي ، في مرحلة عصيبة قد تستقيم تسميتها بــ"مرحلة ضياع المرجعيات" ، حيث أصول النظر و الإعتقاد متباعدة حد التناقض ، و بواعث السلوك و التصرف مبهمة المناهل و متعددة المنابع ، مختلفة الأشكال و متضاربة المعاني و الدلالات ، لعل ذلك ما استشعره بعمق الأستاذ "محمد ابن المختار الشنقيطي" ، كي يعود إلى التاريخ القريب و يرجع معه بعض أفكار تعود لمن أسماهم "خيرة العقول المسلمة" ، عسى أن تعيد له و للقارئ الثقة في الحاضر المتقهقر ، الناضح بكل القرائن الدالة على أننا لسنا في طور الثورة أو الإنتقال من موقع حضاري إلى آخر ، و إنما نحن في طور "الإنقراض" .
لذلك يستحسن إعمال النظر و القراءة في مثل هذه الكتب ، التي تفصح عن طبيعة فكر المسلمين و مستوياته و كذا انقطاعاته و تقاطعاته و استمراريات أفكاره الناظمة الكبرى .
عودة إلى الكتاب ، نعلن بأنه كما شبهه صاحبه "خفيف القراءة كثيف المضامين" ، حيث كَثَّف فيه أهم أفكار سبعة مفكرين إسلاميين معاصرين ، من محمد إقبال إلى محمد حميد الله مرورا بمالك ابن نبي و عزت بيغوفيتش و محمد أسد والفاروقي و عبد الله دراز ، الذين اختلف انتمائهم من مشارق إلى مغارب الرقعة الجغرافية المسلمة ، لكن جمعهم فكر يشكل الدين الأساس الذي تقوم عليه عناصره ، عموما إذا أردنا أن نُجمل أطروحة الكتاب في أسطر يسيرة أمكن القول :" بأنه تأريخ لبديع أفكار طليعة المفكرين المسلمين في القرن العشرين الذين عاشوا في سياق تاريخي ملئته الصعاب و الأزمات ، ما دفعهم إلى التفكير في مخرجات لإنسدادهم التاريخي هذا ، فنظروا لذلك في ما هو ثقافي و سياسي و حقوقي و غيره ، في بوثقة روحانية لم تخرج عن التوجيهات الكبرى للإسلام " .
في الإنتقال إلى التفاصيل ، يستهل الشنقيطي -أستاذ الأخلاق السياسية في الجامعة القطرية- حديثه عن "محمد إقبال" الذي يصفه بــ"الأعجمي صاحب اللحن الحجازي" ، عموما فقد ولد إقبار في البنغال الهندية سنة 1877 ، و تحصل على باكالوريوس و ماجستير في الفلسفة في موطنه الأصلي ، ليكون لقائه مع شهادة التبريز في إنكلترا في نفس التخصص ، غير أن لإقبال فسيح موقع للإبداع حيث ضم للفلسفة تضلعا في الشعر و الأدب و التاريخ ، كما جمع من الألسن الأردي و العربي و الإنجليزي ، ما يظهر بأنه شخص وفَّر في نفسه معظم شروط الإرتقاء إلى مستوى المفكر الرصين .
في ما يخص فكره نسجل أولا بأنه أول من دعى إلى تأسيس دولة خاصة بالمسلمين و مستقلة عن الهند ، تكفل للمسلمين حقوقهم و تحفظ لهم ثراثهم ، و هي ما سيتحقق فيما بعد عبر دولة "باكستان" ، أما من ناحية الشعر فقد ألف إقبال 9 دواوين شعرية مترجمة للغات مختلفة ، من ناحية أخرى خطت يداه باكورة كتب كان أبرزها "إعادة بناء الفكر الإسلامي" و "تطور الميتافيزيقا في بلاد فارس" ، و فيهما الخطوط العريضة لإتجاهه الفكري الذي جعل "لإتباث الذات" ركنه الأساسي ، و هو تعبير عن نقص في الشعور بالإعتزاز بالذات التي زلزلت منذ أواخر القرن 18م و بدايات القرن 19م ، أي حينما أدرك المسلمين ضعفهم و تخلفهم أمام الآخر الأوربي ، الذي كان المسلمون لوقت قريب يحتلون أطراف معقله الجغرافي و يغزون ساحته فكرا و ثقافة ، و بمقابل ذلك دعى إقبال إلى "نفي الذات" أيضا ، أي تعليم الذات التواضع و إسقاط رغائبها إذا تعارضت مع مصالح الأمة أو اختلفت مع مراد الشرع ، ما يعني أن الجمع بين نفي و إثبات الذات يعد خط عريضا للإحيائية الحضارية التي تمتح من معين الروح/الدين ، دون تفريط أو تبخيس للإجتهاد في توفير الجوانب المادية للحياة ، ذلك حيث يعد أفق الدين و بساط الرفاهية الدينيوية هما الناظمان العمليان للحضارة -المرتقبة- في فكر محمد إقبال .
يعرج الشنقيطي بعد إقبال إلى "محمد عبد الله دراز" ، عاشق قرآن كريم حسب تشبيه الكاتب ،إذ ولد دراز في مصر لعائلة اشتهرت بتعليم و تعلم العلوم الشرعية ، حيث كان أبوه من أساتذة الأزهر و شارحا لأهم كتب الفقه و أعينها ككتاب "الموافقات" للشاطبي ، إذ هضم عبد الله علوم الشرع في الأزهر ، بعذ ذلك سنحت له فرصة الدراسة في أهم معاقل العلم الوضعي في أوربا ، حيث استفاد من منحة للدراسة في السوربون ، ما كان ثمرتها إلا أخد معرفة وافية عن الثقافة و الفكر الأوربي ، توَّجها دراز بحصوله على دكتوراه حول أطروحة اختار لها عنوان "أخلاق القرآن morale du coran" ، التي ينقل الشنقيطي أنها أعجبت كبير المستشرقين "ليوي ماسينيون" و غيره من أساتذة السوربون.
أما عن فكره ، فقد كان كتابيه "النبأ العظيم" و "مدخل إلى القرآن الكريم" ، و هما كتابان يصبان في ما عرف بتجديد الدراسات القرآنية ، الذي كان موضة أواسط القرن العشرين ، حيث كتب في هذا الإتجاه مجموعة من المفكرين من بينهم صديقه مالك ابن نبي ، الذي قدم دراز لكتابه "الظاهرة القرآنية" مقدمة توضح تواشج فكر الرجلين ، فيما يتعلق بإنتاج معرفة جديدة حول الكتاب المقدس المحمدي (القرآن) ، و كما إقبال فلم يستكن دراز إلى الثراث الموروث و لا إلى الفكر المتدفق الغربي ، بل حوَّرهما إلى غاية تستقيم مع أحوال أمته الحضارية ، ذلك من أجل فهم عميق قد يسعف في تجاوز الكبوة الإسلامية .
من بُعد آخر اشتهر عن دراز كما أرخ ذلك تلميذه "يوسف القرضاوي" أنه كان شديد التعلق بالقرآن ، ذلك ما هندس تصوراته -بمعية فكر فلسفي أوربي شديد الإنفتاح- حول مسائل خلافية في الفكر الإسلامي ، كالجبر - الإختيار ، سنة - بدعة ، حكمة - شريعة ، العقل النقل ... بطريقة تنئا عن التخندق مذهبيا أو آيديولوجيا ، كلها تعرض لها دراز و درسها بمنهج بعيد عن الميل إلى اتجاه دون الآخر ، و إلى موقف معتدل لامتطرف يمينا و لا شمالا ، و للقارئ مثال ذلك حول مسألة : "تقبيح القبيح و تجميل الجميل و الحكم على الأشياء إن هي خير أو شر" ، حيث تطرف جزء من السلف في اعتبار الشرع هو الحاكم النهائي لذلك دون غيره ، كما اعتبرت فرق إسلامية أخرى أن "العقل" فقط كالمعتزلة و في غنى عن الشرع يمكن أن يحكم على الأشياء و الظواهر ، إن هي على جهة القبح أو جهة الجمال ، الخير أو الشر ، لكن دراز اختار لنفسه موقفا وسطا حيث اعتبر للعقل صفة الحكم و منح للشرع صفة التأكيد ، و هو موقف معتدل يقبل به أي عاقل متنور لا دوغمائي متطرف . كما تجسدت فرادة الرجل في دراسته للقرآن بمنهج غير منهج الأقدمين ، الذي كان بابه اللغة و البلاغة ، حيث حاد دراز عن هذا المنهج و انقطع إلى دراسة منهجها التحليل الرسالي الذي يستنبط بالضرورة أخلاقيات لا قوانين .
ينتقل بعد ذلك الكاتب للتعريف بمفكر اشتهر بتنظيره للحضارة ، و هو الجزائري "مالك ابن نبي" الذي ولد في قسنطينة سنة 1905 ، حيث حصل أولى دراسته في موطنه من مدارس إسلامية ، لينتقل إلى باريس لاستكال الدراسة ، و هو ما كان بتخرجه مهندسا سنة 1935 ، عرفت حياته عدة تقلبات كان عنوانها المكابدة و الصبر و الإجتهاد ، حيث هاجرت أسرته إلى تونس و الجزائر هربا من الإضطهاد الإستعماري ، ثم في ما بعد هاجر إلى مصر التي بينما هو في رحاب جامعاتها و حواضرها اندلعت الثورة الجزائية ، و بعد أن انطفئ أوارها و سكنت فتنتها عاد إلى بلده حيث شغل عدة مناصب مرموقة ، كرئيس للجامعة الجزائية و مستشار للتعليم العالي ، غير أنه اعتزل الوظائف التسييرية لكي ينقط للوظيفة الفكرية ، ذلك ما كان إلى أن انتقل إلى متواه الأخير .
أما عن فكره ، فتبقى أسماء مثل "الظاهرة القرآنية" و "شروط النهضة" و "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" كلها كتب طبعت الفكر الإسلامي بشكل إيجابي ، فمن الملاحظ أن اجتهاداته لم تخرج عن إطارين هما : "تجديد الدراسات القرانية و البحث عن أفضل السبل للنهوض و التحضر" ، ففي المجال الأول و كصديقه محمد عبد الله دراز ، استكف عن الدراسة البيانية اللغوية للنص القرآني ، بل آثر النظر إليه تحليليا و تاريخانيا (التاريخانية ليس بمعناها كما هي عند مفكرين يساريين/حداثيين كعبد الله العروي ، و إنما المقصود بالتاريخانية النظر فيما حكاه القرآن تاريخيا بما يستبط مُثُلا و قيما لا نهوجا أو قوانين) ، أما في الجانب الآخر أي مجال فكر الحضارة الذي كرس له بن نبي معظم كتبه ، فقد قدم عدة مفاهيم جديدة كـ"القابلية للإستعمار" ، أي الشعب الذي يستهلك و لا ينتج لا صناعة و لا فكرا و لا ثقافة تساير حركة التاريخ ، يكون شعبا ضعيفا و بذلك يصبح مؤهلا للإستعمار و الإستعباد ، عكس الشعوب المنتجة التي بإنتاجها للفكر و الصناعة تنتج القوة و القدرة كذلك . تحدث مالك أيضا عن "الأفكار الميتة" و "الأفكار المميتة" ، حيث يعتبر الأولى من تجاوزها التاريخ ، أما الثانية فهي التي تجاوزها التاريخ لكن أهلها لا زالوا يستحفون بها تشبتا و دفاعا ، ما يحدوا بهم إلى التخلف و الإنحطاط ، و هذا مثال ما الأمة الإسلامية عليه من وضع و مكانة .
صاغ مالك ابن نبي كذلك نمذجة تفسيرية محترمة للحضارة تذكرنا بابن خلدون ، حيث اقترح أن الحضارة تبدأ بطور "الروح/الصعود" بعد ذلك تنتقل إلى طور "العقل/الإمتداد" ، ثم تنتهي إلى طور "الغريزة/الإنحطاط" ، و من ذلك سعى إلى ما سماه "الفكر الفني الذي يعجل بحركة التاريخ" ، و هو المبدأ المتلخص في ضرورة التخفيف من الحديث عن العقائد المجردة دون ازدرائها أو التخلي عنها ، و إنها العمل الجبار فهو الذي يتغى استحداث أوضاع المجتمعات على الكيف المادي و السياسي ، وفق تأطير غير منفلت من قيم الروح و القداسة ، حيث يستنكر مالك أن نستمسك بالدين دون اهتمام بالدنيا و العكس صحيح ، حيث يقول :"لم يتخلى المسلمون عن عقيدتهم ، و لكن عقيدتهم تجردت من فاعليتها ، لأنها فقدت إشعاعها الإجتماعي" ، أي لم يتخلى المسلمون عن وظيفتهم الروحية لكنهم نسوا جانبها العلي فأضحى تدينهم فج مفترغ من طاقاته التغييرية ، الشيء الذي إنحدر بهم إلى الإنحطاب .
يصل بعد ذلك الشنقيطي إلى "اسماعيل الفاروقي" ، الذي ولد يافا الفلسطينية سنة 1921 ، حيت تعلم ابتدائيا في مساجد و مدارس يافا ، لينتقل بعد ذلك إلى لبنان فيتحصل على باكالوريوس فلسفي ، ثم يهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث حصل هناك على شهادتين في الماجستير و ثالثة في سلك الدوكتراه في تخصص المفكرين الفلسفة ، عاد بعذ ذلك إلى مصر ليقضي 4 سنوات في طلب العلوم الشرعية ، جمع كذلك لسان الشرق و الغرب العربي و الفرنسي و الإنجليزي ، كما تخم بالثقافة العربية الإسلامية في موطنه و كذا اغترف من الثقافة الغربية الكثير في غربته ، ساح في مختلف أسقاع الأرض سائحا أو أستاذا ، مرة في كندا و أخرى في مصر و أمريكا ، كل ذلك يؤكد أن الفاروقي كان من خيرة المسلمين في زمانه فكرا و ثقافة .
في فكره ، فقد خلف 25 كتاب و أكثر من 100 دراسة و مقال أكاديمي ، حيث يعد كتابه "أخلاق المسيحية: تحليل تاريخي منهجي لأفكارها" من أشهر الدراسات النقدية للمسيحية في زمانه حيث كان متخصصا في تاريخ الأديان ، و هو الكتاب الذي تسبب له في مشاكل مع قساوسة شعبة اللاهوت في جامعة ماكغيل في كندا ، من كتبه المترجمة كذلك "أطلس الحضارة الإسلامية" الذي كتبه بمعية زوجته -الذي لقيا معا للأسف مصيرا فاجعا كما سنوضح بعد قليل- و هو بترجمته شكل إضافة نوعية للمكتبة العربية في مجال التأريخ للحضارة الإسلامية بمنهج علمي معاصر لا سلطاني متقادم ، كما يعد من أهم كتب زمانه ذلك الذي اختار له اسم "أطلس تاريخ ديانات العالم" ، و هو تحقيق و تأريخ رصين لمختلف عقائد و أديان العالم المشهورة ، أما في ما يخص إضافاته في الفكر الإسلامي ، فإن كتابه "التوحيد و مقتضياته في الفكر و الحياة" يشكل الخط العريض لذلك ، حيث اقترح على هدي مالك ابن نبي أن لا يكون الدين مجرد طقوس و إنما رافدا و باعثا من بواعث القيام و النهوض الحضري .
من المسائل الخلافية التي كان سباقا الفاروقي إلى إثارتها هي مسألة "أسلمة المعرفة" ، حيث دعى إلى تعليم و تعلم المعرفة العلمية و الفلسفية الجديدة في قالب إسلامي بحث ، لأن هذه المعرفة الوافدة تختلف مع الإسلام في كثير قضايا ، ذلك و تجنبا و خيفة من انسلاخ الدارس من ثراثه و انصهاره في الثراث الوافد ، دعى مفكرنا إلى أسلمة هذه العلوم كشرط ضروري قبل تداولها في المدارس و الجامعات ، يأتي ذلك خصوصا في زمن لاحظ فيه الفاروق تعاظم ضحالة فكر و ثقافة المسلمين ما يجعل فكرا دخيلا حتى لو كان إيجابيا ، عاملا قد يذهب خصوصية الثقافة و الثراث الإسلامي ، ما يجعل أسلمة العلوم ذرعا ضد تجريف هذه الخصوصية .
ختاما تقصدت أن أنهي الحديث عن مصير اسماعيل الفارقي و زوجته الدكتورة لمياء الفاروقي ، حيث قتلا غيلة طعنا بالسكين ، ليلة 27 ماي 1982 من طرف جهة لا زالت حتى الآن مجهولة ، و كغيره من علماء و فلاسفة فلسطين و مصر و غيرها ، الذين اشتهروا بموقفهم السلبية و الرافضة لدولة الإحتلال الإسرائيلية ، و قتلوا لأسباب لم تفك طلاسيمها بدقة حتى الآن ، فكما قتل جمال حمدان -الذي وجد في شقته جثة محروق نصفها الأسفل - و قاسم ربيع و يحيى المشد و سميرة موسى و حسن صباح و غيرهم من عباقرة العرب في القرن 20م ، دون معرفة دقيقة حول أسباب وفاتهم ، نفس الشيء تعرض له اسماعيل الفاروقي و زوجته اللذين اغتيلا في ظروف غامضة لم يعرف أحد فك لغزها ، غير التلويح بأصبع الإتهام باتجاه اسرائيل .
الآن نصل إلى أشهر خيرة العقول حسب الشنقيطي و هو "علي عزب بيغوفيتش" ، الذي ولد سنة 1925 في شمالي غرب البوسنة ، تلقى تعليمه الأولي في بلدة "بوسانا كروبا" ، ثم انتقل إلى جامعة سراييفو و هناك تخرج محاميا ، غير أنه كما يتضح من كتبه أن له معرفة وافية في التاريخ و العلوم الإنسانية ، ذلك بسبب تعلمه لأهم اللغات الأوربية التي أتاحت له قراءة و هضم روائع الفكر الفلسفي و السياسي الغربي ، شهدت حياته الكثير من الأزمات كغيره من المفكرين ، حيث وقعت بلاده في شراك النازية حيث اضطهد بسبب مواقفه المعادية لها ، و بعد انصرام عهد النازي تألب الشيوعيون هم الآخرون على البوسنة ، و هو ما دفع بيغوفيتش إلى تصيد منسوب و فاعليته النضالية اتجاه المستعمر ، و ما كان من هذا الأخير إلا أن كمم فاه مفكرنا و رماه في غياهب السجن مدة مديدة ، لكن بقدر الصعاب تنكشف السرائر ، حيث انتهى المطاف ببيغوفيتس بعد استقلال بلاده رئيسا و حاكما عاما حتى توفي سنة 2003 .
في الإنتقال إلى فكره ، أقول أولا أن ممارسات بيغوفيتش السياسية و الحقوقية و أيضا العسكرية إلى حد ما ، تعبر عن شخصيته المرموقة أكثر من فكره و ما دونه في كتبه ، فرجل سجن مرتين و عرضت عليه حريته مقابل تنازله عن بعض مبادئه الإنسانية و الوطنية فرفض ، و آثر السجن عن ضياع بعض حقوق بلده و ثقافته ، ذلك أن للرجل مواقف تعبر فعلا عن النبل و الرجولة و عزت النفس ، أما عن كتبه فيمكن أن أقول أنه ليس بتلك الدرجة المبالغ فيها التي تصوره على أنه فيلسوف و مفكر كبير جدا ، بل على العكس من ذلك فهو رجل شغل تفكيره فيما هو خاص أكثر مما هو عام ، أي ما تعلق بحياته و بلده في تداخل طبعا مع عقيدته و دينه ، لكنه ليس مفكرا بالقدر الذي قد يوصف به حسن حنفي أو الجابري أو أركون أو أدونيس من المفكرين المنهجيين/الأكاديميين ، ففكر الرجل لا يعدوا كونه ملاحضات أو بدقة أكثر أحكام تنم عن حكمة عميقة حول الحياة و السياسة و الدين أكثر من كونه فكرا منهجيا رصينا ، لكن ذلك لا ينقص من قيمة علي بيغوفيتش الذي تبقى كتب مثل "حروبي إلى الحرية" و "الإسلام بين الشرق و الغرب" مؤلفات خالدة من رجل شريف ، حيث نظر فيها لموضوعات مختلفة مثل العدالة و الجهاد و التسامح ، ففيما ما يخص العدالة له موقف إنساني رائع ، حيث يعتبر المنفذ للعدالة يقف على قدر المساواة مع المجرم نفسه ، يقول بيغوفيتش :"الطريقة الوحيدة للوقوف أمام الظلم هي التسامح ، أليست العدالة ظلما جديدا" ، عبارة بكل فخر تصلح أن توضع على واجهة المؤسسة الدولية لحفض السلام . من جانب آخر كان يرى في الإسلام المنقذ الذي يتوسط تطرف الغرب المادي و غلو الشرق الروحاني ، حيت اعتبر الدين من أهم روافد الأنسنة و الإرتقاء ، و أكثر دفة محفزة على النهوض و العمل و الصلاح .
بعد بيغوفيتش يتطرق الشنقيطي إلى حياة و فكر "محمد أسد" ، الذي ولد سنة 1900 في أوكرانيا لعائلة يهودية ، حيث درس في كييف ثم انتقل إلى فيينا و برلين دارسا الأدب و الفلسفة ، حيث كان كثير الريبة في دينه اليهودي ، فظل يبحث في أصالته إلى أن أتيحت له فرصة السفر إلى فلسطين عند أحد أقربائه ، و هو ما أتاح له الإطلاع على تاريخ و ثقافة الشرق ، و هو ما سيعيد برمجة فكره و رئاه إلى الأبد ، حيث سيعتنق الإسلام ، و سيتزوج من سيدة مسلمة و يستقر بعذ ذلك في السعودية و متنقلا كذلك بين مصر و الخليج و ليبيا .
عن فكر يسلط الضوء الشنقيطي أن طلال أسد استشعر أن فرصة تغيير دينه و ثقافته بدين الإسلام قد أزفت ، ذلك حيث ازدرى فكرة شعب الله المختار و فكرة الله القبلي الذي يصوغ مصائر الوجود حسب رغائب شعب منزور العدد ، و كأفكار صغيرة صارت اليهودية هي كذلك قزمة في نظره ، ما حدى به إلى التخلص منها حيث ارتمى في أحضان الإسلام دينا و فكرا و قضية ، حيث شغل باله وضع المسلمين المتردي الذي انتقل من سقوط الخلافة إلى اجتياح الإستعمار ، فكان مناصرا لقضايا التحرر و الإستقلال ، بل بلغت به الحماسة إلى أن يخاطر بحياته و يذهب إلى ليبيا من أجل لقاء الشيخ المجاهد "عمر المختار" ، حيث مكث معه ليلتين كاملتين يتداولان أمر الإستعمار و الجهاد و سبل حل الأزمة التي تعقدت أكثر مع إحكام الفاشيين القبضة على الحدود بين مصر و ليبيا ، في هذه الظروف اقترح طلال أسد على عمر المختار الخروج إلى مصر و العودة فيما بعد بقوة أكبر ، غير أنه ما كان من عمر إلا أن اختار القتال حتى النهاية ، حيث أسر بعد ذلك بثمانية أشهر و ألقى حتفه على طريقة المتوحشين الفاشيين ، بعد هذه التجربة سيسافر طلال إلى الهند للقاء محمد إقبال من أجل المساعدة في توليد الدولة الجديدة ، حيث صاغ لها طلال أول دستور إسلامي الذي به تحددت السلط و تسيرت مؤسسات الدولة الناشئة ، كل هذا و ذلك و غيره حكاه و دونه طلال أسد في كتابيه الجميلين "الطريق إلى الإسلام" و "الشرق غير الرومانسي" .
أما في كتابه -ربما الأكثر شهرة- "الإسلام بين مفترق الطرق" ، الذي عبر فيه عن فكره التغييري لأوضاع المسلمين الإجتماعية و السياسية المتردية ، ذلك أنه نظر للإسلام على أنه حل إذا تحول إلى عمل و اعتقاد ، و ليس طقوس و دروشة ، كما دعى كمحمد إقبال إلى رد الإعتبار للنفس الإسلامية و تكثيف الإعتزاز بها بعد أن تضعضع هذا الشعور منذ القرن 19م ، حيث يقول أسد في هذا الصدد : "ما من مدنية تستطيع أن تزدهز بعد أن تفقد إعجابها بنفسها و صلتها بماضيها" (ص 86 من الإسلام بين مفترق الطرق) ، بل غالى طلال أسد في النموذج الإسلامي إلى حد أنه اعتبر أن البشرية لم تصنع و لن تصنع مستقبلا نظاما أخلاقيا مثل ذلك الذي أتى به الإسلام ، حيث يقول : "لم تشب الإنسانية عن الإسلام في نموها الحاضر ، بل إنها لم تستطيع أن تأسس نظاما أخلاقيا مثل ذلك الذي أتى به الإسلام" (ص114،نفسه)، هكذا يتضح أن أسد كغيره من المفكرين الإسلاميين الذي لا تتمايز/تتباعد أفكارهم عن معتقداتهم الدينية البتة .
أخيرا يعرج الأستاذ المختار على "محمد حميد الله" ، الذي ولد سنة 1908 في حيدآباد جنوب الهند ، رغم أن أصوله عربية مكية غير أن عائلته هاجرت من بطش الأمويين في القرن 8 الهجري ، فاستقروا في هذه المنطقة و بها تلقى تعليمه الأولي و الجامعي ، كما اجتهد في تعلم الكثير من لغات أهل الأرض كما ينقل الشنقيطي ، و كان آخرها الروسية و التايلاندية ، ثم رحل إلى المدينة المنورة حيث لزم أحد الشيوخ و أخذ عنه إجازة في علوم القرآن ، بعد ذلك انتقل بين جامعة العثمانية و بون و السوربون ، دارسا للإسلام و القانون الدولي الذي حصل فيه على دكتوراه دولة بتوجيه من المستشرق الفرنسي "فريتز كرينكو"، ليعيد الكرة كذلك و يحصل على نفس الشهادة في العلوم السياسية حول موضوع "الديبلوماسية الراشدة و الأموية" ، كل هذا يدل على أنه إنسان اجتهد في هضم معظم لغات و معارف زمانه في مجال الدراسات الإسلامية و القانون و السياسة .
في الإنتقال إلى مواقفه و فكره ، يتحتم ذكر أنه كان يطالب باستقلام مسقط رأسه إمارة حيدرآباد عن الهند ، و أن تصبح دولة خاصة بالمسلمين الشيء الذي دعفه إلى الذهاب إلى الأمم المتحدة في ركاب وفد ديبلوماسي ، قصد التعريف بقضيته الوطنية ، غير أنه فشل في مسعاه فقرر أن لن يعود إلى بلده إلا بعد أن يتحرر ، و هو ما لم يتحقق حتى مماته في الولايات المتحدة سنة 2002 ، بعد قضائه أكثر من 50 سنة في فرنسا ، هذا عن موقفه السياسي .
من ناحية أعماله فقد كتب أكثر من 1000 مقال ، كما شارك في تأليف "أطلس تاريخ الأديان" و "دائرة المعارف الإسلامية" ، كما يبقى عمله الخالد هو ترجمته للكتاب المحمدي (القرآن) إلى اللغة الأردية و الفرنسية ، و هو ما دفعه إلى تألف كتاب "القرآن بكل لسان" حيث يصور فيه إعجابه بلغته و فنه و سرده و هديه الضافي للقارئ على المؤمن به أو الغير مصدق لرسالته ، بعد ذلك اشتغل في كتاب تأريخي حول ترجمة المستشرقين لصحيح البخاري حيث أبان تحيز بعضهم و التزام نفر آخرين منهم ، و هو ما فتح له الأفق من أجل كتابة مؤلف ضخم من مجلدين عن النبي محمد ، تحت عنوان "رسول الإسلام : حياته و آثاره" ، أما في المجال السياسي فقد اختطت يده عناوين أساسية كـ"مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي و الراشد " و "أول دستور مكتوب في العالم" و هو تحقيق لدستور المدينة النبوي ، ثم اشتغل عن التواشج و الثآثر في مؤلف آخر بين القانون الروماني و الفقه الإسلامي ، أي بذلك يتضح أن معظم أعمال و أفكال "حميد الله" دارت معظمها حول الإسلام و الثقافة الإسلامية ، ترجمة و سياسة و قانونا و فقهً .
ختاما أعبر على أنه لا مندوحة من إظهار تحفضي عن اختيار المختار الشنقيطي لـ7 مفكرين مسلمين و وصفهم بأنهم "خيرة العقول المسلمة في القرن 20م" ، حيث أن فكرهم كلهم إسلامي إلى حد ما "محافظ" و لم يخرج غالبا عن أطر الفكر الإسلامية التقليدية إلا أحيانا ، بل ربما هذا الفكر هو من هيَّأَ البساط إلى "الإحيائية الإسلامية" أي التيار السلفي الداعي إلى استحياء الإسلام ليس كدين و إنما كآيديولوجيا شمولية ، ذلك أن جذر التيار هذا نجد بعض أفكاره عند مفكرينا في هذا الكتاب ، ذلك أنهم كلهم نظروا إلى الإسلام كحل لكل شيء دون استثناء ، أي أنهم دعوا إلى جعل الدين شمولية جديدة يستلحف بها المجتمع و الثقافة و السياسة و الإقتصاد و الفكر بل حتى المعرفة (نموذج الفاروقي اسماعيل) ، كل شيء دعوا إلى أسلمته ، و هو ما استثمر من بعدهم من طرف التيارات المختلفة المنضوية تحت لواء الإسلام السياسي ، ما يدفعني كقارئ إلى عدم اعتبار هؤلاء السبعة الأفاضل خيرة العقولة "إلا" عند صاحب الكتاب فقط ، فهناك مفكرين آخرين غير إسلاميين كعبد الله القميصي و علي الوردي و حسن حنفي و أدونيس و علي عبد الرازق و محمد عبدو و خير الدين التونسي و فرج فودة و الجابري و محمد أركون و عبد الله العروي و غيرهم ، ممن عاشوا في القرن العشرين كذلك و قدموا أعمالا ممتازة ، يلتمس فيها القارئ الحكيم الحلول الناجعة لأزمتنا الحضارية ، غير أن الشنقيطي لم يختار أي من هؤلاء مع سباعيته المظفرة هذه ، و هو ما يكشف عن الحزب الآيديولوجي الذي ينتمي له المختار الشنقيطي .