أديس أبابا
قصة قصيرة بطلها أيوب, عامل التنظيفات الكهل. لنرَ ما علاقته بأديس أبابا!؟
نشر في 14 أكتوبر 2018 .
كم جميل لو قام أحدهم بمنحه حضن مطارات. إنّه ذلك الحضن الدافيء الذي يُستقبل به من عاد إلى وطنه, أو ينعم بدفئه من يرحل مغادرا. كانت هذه الأمنية تتأرجح على غصن في قلب أيوب وهو يرقب المسافرين العائدين والمغادرين ونظراته تنتقل بين العيون الدامعة للوعة الفراق والأخرى الدامعة لحلاوة اللقاء. فأين هو من كل ذلك!؟ إنه يتسكع في هذا المطار منذ عشرون سنة, ولم تزد أطول مسافة يسافرها على عشرين كيلو مترا, وذلك عندما يصحب زوجته لزيارة بيت أهلها في المناسبات.
حانت الساعة الثانية, لقد انتهى عمله لهذا اليوم وغداً هو يوم الإجازة. غادر المطار مستقلا الحافلة العمومية, وفي الطريق أغمض عينيه ولكنه لم يستطع إغماض عقله الذي يلح عليه بسؤال واحد منذ بداية اليوم: "كيف ستقضي الإجازة وحيدا؟" إنّ زوجته قد طاب لها المُقام عند أهلها, وفكرة أن يقضي العطلة مع حماته التي تذكّره بزوجة أبيه القاسية, فكرة مرفوضة. فأين المفر من الملل؟!
وفي صباح يوم الإجازة, جلس الكهل ذو الستة والخمسون عاما على عتبة داره المتصدعة يتأمل الطريق وينتظر الفرج. فربما مرّ أحد جيرانه ودعاه للعبة طاولة أو شطرنج في بيته. أو بالغ في كرمه ودعاه لغدوةٍ دسمة. اليوم هو الجمعة وعادة ما يطبخ جيرانه غداء فاخرا في هذا اليوم احتفاء بقدوم أبنائهم وأحفادهم وأقاربهم. ليتهم يدعونه اليوم, إنه يشعر بوحدة قاتلة... لماذا لم يُرزق بأطفال كباقي جيرانه لِيخفّفوا عنه وحدته!؟ فكّر كثيرا بهذا الموضوع ثمّ استغفر ربه أكثر.
فجأة اهتدى إلى خاطر جريء, نهض وهرول إلى غرفة البيت الوحيدة وبدّل ثيابه.
بعد ساعة كان يتجول في المطار ببَذلته السوداء التي اشتراها قديما لحضور زفاف أخيه. ومع أنها كانت من الأنواع المنقرضة, لكنه حافظ عليها جيّدا فلم تبدُ قديمة وأدّت غرضها في كسبِ احترام من يراه. على رأسه وضع قبعة سوداء كرجال الأعمال, كان قد اشتراها من محلّ للملابس المستعملة. وبيده أمسك حقيبة السفر الصغيرة التي أخذها مخاجلة من عديله العائد من الحج. حقيبة قديمة بعض الشيء ولكنه طالما تمنّى لو يمتلك حقيبة سفر يحشر فيها ملابسه البالية وحذاؤه القديم وفرشاة أسنانه الوهمية, ثم ينطلق مسافرا لأي مكان في العالم حتى ولو كان أديس أبابا التي لا يعرف أين تقع, لكنه يسمع نداء الرحلات المتوجهة إليها يوميا. حفِظ اسمها لأنه أحبّ وقعه على أذنيه. وحتى يكتمل تنكره, وضع على عينيه نظارات شمسية سوداء كان قد عثر عليها في حمام المطار. مرّ من جانب بركات زميله في مهمة التنظيف منذ عشر سنوات لكنه لم يتعرف عليه! ... شعور بالانتصار يراوده الآن, وبخطوات حاول أن يجعلها واثقة اتجه حيث موظفين المبيعات واختار أجدد موظفة هناك لتشاركه بطولة مسرحيته الصغيرة.
انتبهت الموظفة للزبون القادم باتجاهها فعدّلت جلستها ورسمت ابتسامة سريعة على شفتيها. قال لنفسه إنّ مظهره هذا يؤدي دوره باتقان.
"أهلا وسهلا بك. كيف أستطيع أن أساعدك؟" قالت الموظفة
"أريد أن أحجز تذكرة إلى أديس أبابا اليوم لو سمحتِ." قال أيوب بصوت خشن مستعار.
"بالتأكيد. سأرى مواعيد الطيران لحضرتك."
بدأت الموظفة الشابة بكبس أزرار حاسوبها لترى مواعيد إقلاع الطيارة, وهي لا تعرف الأثر الذي تركه نطقها لكلمة -حضرتك- في نفس أيوب الذي عاش لنصف قرن وهو يتمنى لو يخاطبه أحد –أي أحد- بهذه الكلمة. لقد اعتاد هو على نطقها يوميا وهو يتلقى أوامر مديره أو وهو يتكلم مع أحد المسافرين المنتظرين على المقاعد, أما أن يُخاطًب هو نفسه بها فهذا أجمل شيء حصل له منذ تزوّج فتحية!
"هناك طائرة ستُقلع إلى أديس أبابا بعد ساعتين, وفيها ثلاثة مقاعد شاغرة. هل توّد بأن تكون على متنها؟"
أحبّ الشعور الذي يحسّ به الآن. إنها تسأله عمّ يرغب, ما أجمل أن يكون الإنسان مخيّرا, وليس آلة لتنفيذ الأوامر فحسب!
تظاهر بالنظر إلى ساعة يده وهو يُخفي شقوق زجاجها بيده الأخرى, ثم قال: "ماهي الخيارات الأخرى؟"
"هناك رحلة ثانية ستُقلع بعد ثمان ساعات يا سيدي. فيها مقعد واحد شاغر."
ردّ صوت أفكاره الحبيسة: "يا إلهي, هذه الفتاة تصرّ على زرع بذور السعادة في قلبي, أيُعقل أن أكون أنا سيّدها! أنا نفسي أيوب عامل التنظيفات أستطيع الآن أن آمرها أو أُظهر انزعاجي من خدمتها, أو حتى أتجاهلها تماما."
تعمّد أن يتأخر عليها في الرد مُبديا بعض الانزعاج من مواعيد الطيران البائسة هذه. قال أخيرا:
"حسنٌ أمري لله, احجزي لي على الموعد القريب بعد ساعتين."
"في أي درجة تحب أن تكون حضرتك؟"
ها هي تُعاود تخييره من جديد وتناديه بالكلمة التي تُشعره بأنه شخص له ثِقله. اكتملتْ نشوته فأجاب بصوت حاسم: "الأولى طبعا."
"بالتأكيد."
طلبت بعدها جواز سفره. فتح حقيبته ليتناوله, لكن بعد نظرة فاحصة صرخ فجأة:
"لا يعقل هذا! إنّه ليس في الحقيبة."
وضع الحقيبة على الطاولة وبدأ يفتش فيها بغضب مفتعل. وبعد دقائق قال متأفّفا:
"هذا يوم أسود. سأذهب إلى البيت لإحضاره وسأعود."
"آسفة لذلك, بالتوفيق."
حمل حقيبته وعدّل إطار نظاراته الشمسية وهو ما زال يتظاهر بالاستياء.
تذكّر شيئا.. فاقترب من الموظفة.
وفي صوت أقرب إلى الهمس سألها: "ماذا تعرفين عن أديس أبابا؟"
دُهشت من سؤاله, لكنّها أجابته: "لا أعرف سوى أنها عاصمة أثيوبيا."
ابتسم لها ثمّ غادر المطار وهو يشعر أنه خفيف كريشة.
-
نور جاسماسمي نور. عراقية الأصل, أردنية المنشأ, أمريكية الإقامة, وهذا ساعدني كثيرا في التعرف على الثقافات المختلفة وإقامة الصداقات من كل مكان في العالم. أحب الكتابة/ أحلام اليقظة/الرسم/ السفر/ التمثيل/ الغناء/ الأفلام/ التأمل/ وال ...
التعليقات
دام قلمك