زينب بروحو تكتب: ثقافة المقاطعة، وعي أخلاقي أم تبعية متخلفة؟ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

زينب بروحو تكتب: ثقافة المقاطعة، وعي أخلاقي أم تبعية متخلفة؟

لماذا تقدم المقاطعة في الدول الغربية على أنها وعي مجتمعي متقدم، بينما تقدم على أنها نوع من التخلف في التفكير في الدول العربية؟

  نشر في 08 يوليوز 2024 .


في ليلة من ليالي غشت المقمرة، جلس سكان مقاطعة مايو الايرلندية يتسامرون كعادتهم، بعد يوم شاق من العمل بالمزارع، فقد كان أغلبهم مزارعين استأجروا أراض من مالك ثري يدعى ‘’ تشارلز بويكوت Charles Boycott‘’ ‘’.

و كان تشارلز بويكوتCharles Boycott قد حقق ثروة كبيرة خلال عمله في الجيش البريطاني ضد شعبه، فاستطاع بثروته شراء أراض شاسعة في مقاطعة مايو بعد عودته من الخدمة العسكرية. و عرِف تشارلز بمعاملته السيئة للمزارعين و العمال. إلا أن هؤلاء كانوا صابرين، يعملون في الأرض نهارا و يجتمعون للسمر ليلا، يحبون الحياة و الاستقرار بالرغم من كل الألم و الظلم الذي قد يلحقهم من شخص كتشارلز.

فجأة، دخل شاب المقهى، و كان يبدو أنه يحمل للمزارعين و العمال أخبارا سيئة، فالجميع كان يعلم أن المجاعة قد حلت بالبلاد، و لكنهم لم يتوقعوا أن تسير الأمور للأسوأ.

- السيد بويكوت يخبركم أنه قد رفع ثمن استئجار الأرض لمن يريد أن يحافظ على عمله بها، و من لن يستطيع دفع ثمن الأرض في الأيام المقبلة عليه أن يغادرها، كي يتمكن من استئجارها آخرون.

عم المكان صمت فضيع، و تبادل الأهالي نظرات بئيسة، نظرات غضب استنكارية. كيف يجرؤ هذا الوحش الآدمي على فرض ثمن أكبر على تلك الأراضي التي هي مصدر رزقهم الوحيد؟ كيف يستغل الأوضاع المزرية من مجاعة و فقر كي يطردهم و يحضر آخرين قادرين على الدفع أكثر؟...

كثيرة هي الأسئلة التي عمت الأرجاء، أسئلة من دون أجوبة، أسئلة الجواب عليها واحد و وحيد ‘’ هو في النهاية مالك الأرض... ماذا عسانا قد نفعل؟ ‘’

مرت تلك الليلة صعبة على السكان... كل واحد منهم يفكر في حل لنفسه ينجو و أسرته به من بطش السيد بويكوت، فمنهم من يعلم مسبقا أن وقت وداع الأرض قد حان، و أنه سيطرد ذليلا من أرض أحبها و عمرها سنين طويلة، نحو مستقبل مجهول لا يعلم ما يخبئ له في ظروف هاته الأزمة التي تضرب الوطن.

منهم من يفكر في أخد دَيْن يمكنه من الحفاظ على الأرض، و آخر يفكر في استعطاف المالك بويكت، فيما اشتعلت نار الغضب بالبعض و أخذوا يتوعدون المالك بأنهم باقون في الأرض و لن يخرجوا منها إلا جثثا هامدة.

و بعد أن كانت مقاطعة مايو هادئة، و سكانها متعاونين و سعداء و راضين بحياتهم البسيطة... حلت عليها لعنة التفرقة و الجشع و الطمع.

غير أنه كان للسيد بارنيل رأي آخر. فقد كان بارنيل شابا طموحا يشتغل بالمحاماة، يؤمن بالحقوق و الواجبات، و يؤمن بضرورة سيادة العدل، فاستطاع بارنيل إقناع المزارعين و السكان بضرورة الدفاع عن حقهم في العمل في ظروف إنسانية تأخذ بعين الاعتبار الأوضاع التي تمر بها بلادهم. اقتنع الكثيرون بأفكار بارنيل، و تمسكوا بأمل تحسين أوضاعهم، بينما اعتبر آخرون أن ما يقوم به هذا الشاب ما هو إلا مضيعة للوقت و أنه عليهم الخضوع للأمر الواقع.

قام بارنيل بحشد هؤلاء الفلاحين للحصول على شروط عمل أفضل و قرر السكان أخيرا مقاطعة و عزل بويكوت كموقف موحد منهم للضغط عليه، فقطعوا معه كل العلاقات الشخصية والاقتصادية والمهنية.

رفض الفلاحون بالتالي دفع الأموال ورفض العمال الزراعيون العمل، بالرغم من تضحيتهم بمحصول موسم كامل، و بالرغم من كل ما سيترتب عن ذلك من نتائج سلبية عليهم و على الأرض، لكن الهدف الأول كان هو دفع المالك الثري بويكوت Boycott إلى الإفلاس و تراجعه عن قراراته الظالمة.

لم يتخيل المزارعون و العمال أنهم يستطيعون يوما ما تغيير مجرى الأحداث و صيانة كرامتهم، ليصبح القرار قرارهم و الكلمة كلمتهم.

من هنا انطلق مبدأ ال’’ boycott ‘’ نسبة إلى المالك الثري و تم تطبيق هذا المبدأ في أماكن أخرى فأصبح أصحاب الأراضي الذين طَردوا فلاحيهم أو أساءوا معاملتهم يجدون أنفسهم بين ليلة وضحاها دون خَدم لخدمتهم ودون دخل من أراضيهم.

دخلت كلمة "Boycott " إلى فرنسا سنة 1881، و أصبح من المعتاد استخدام الكلمة للتعبير عن مقاطعة المنتجات التي تعتبر ظروف إنتاجها غير عادلة.

فكيف لموقف فردي مبني على مبدأ أخلاقي، ألا و هو الحفاظ على كرامة الإنسان و نبذ الظلم و الحيف الذي قد يتعرض له من أصحاب النفوذ و السلطة، أن يصبح وسيلة في يد المستضعَفين الذين يظنون أنه لا سلطة حقيقية لهم؟

انطلق مبدأ المقاطعة من قصة مالك الأرض بويكوت Boycott ، و امتد عبر الأجيال و اتخذ أشكالا و أشكالا و كان سلاحا غير مجرى التاريخ، بل و غير قوانين كانت ضد الإنسانية ما كان لها أن تتغير.

فروزا باركس الأمريكية ذات الأصول الأفريقية، لم تكن تعتقد أنها ستشعل فتيل التغيير حين رفضت الامتثال لأوامر سائق الحافلة و ترك مكان جلوسها للركاب البيض بعد امتلاء الحافلة.

كانت روزا تعلم يقينا أن رفضها سيعرضها للمساءلة القانونية بسبب مخالفتها الصريحة لقانون الفصل العنصري آنذاك في أمريكا، و قد تم اعتقالها فعلا و تغريمها بسبب الحادث. فأثارت هذه الحادثة غضب المجتمع الأفريقي الأمريكي، و أطلقوا حملة مقاطعة لحافلات المدينة بدأت في 5 ديسمبر 1955. قاد الحملة مارتن لوثر كينغ المشهور، و الذي أصبح رمزًا للحركة الحقوقية المدنية.

استمرت المقاطعة وأدت إلى خسائر مالية كبيرة لشركة النقل، مما ساهم في زيادة الدعم للكفاح السلمي ضد قوانين الفصل العنصري. وفي 5 يونيو 1956، قضت المحكمة الفيدرالية بعدم دستورية الفصل العنصري في الحافلات. وألغت المحكمة العليا الأميركية القوانين في نوفمبر 1956، مما أدى إلى إنهاء المقاطعة في 20 ديسمبر 1956.

و هكذا ظلت حملات المقاطعة سلاحا سلميا فعالا تعتمده الشعوب لوقف الظلم و الأذى عليها، منها حملة مقاطعة السكر المنتج بواسطة العبيد في جزر الهند الغربية من قبل الإنجليز المناهضين للعبودية في 1790، ومقاطعة المستعمرات الأمريكية لبريطانيا خلال الثورة الأمريكية، و حملة المقاطعة التي قادها غاندي في الهند في 1930 ضد الضرائب البريطانية.

إن المقاطعة مبدأ أخلاقي يبنى على وعي الفرد بضرورة تبني مواقف أخلاقية واضحة و العمل على تنزيلها في الواقع، ضد كل أنواع الظلم التي قد تطال الفرد نفسه أو جماعة من الأفراد. إن هذا النوع من الوعي يبنى على أساس الحفاظ على القيم الإنسانية الكونية و التي لا يمكن مناقشة تمتع فرد بها دون الآخر، كقيم العدل و المساواة و الحق في الحياة... و بالرغم من أن مبدأ المقاطعة لا يمكن أن يعطي أكله إلا بتأثير الكتلة « effet de masse » أي داخل منظومة وعي جمعي بالمسؤولية الفردية اتجاه الإنسان و اتجاه القيم الإنسانية إلا أن نواته تبدأ من الوعي الفردي بالمسؤولية الفردية.

يتميز مبدأ المقاطعة، بالإرادة و الحرية المطلقة في اتخاذ القرار ويعتبر وسيلة للتعبير عن القيم الأخلاقية والسياسية دون اللجوء إلى العنف ما يجعل منه مبدأ أخلاقيا متقدما.

لكن السؤال الذي نطرحه اليوم، أمام الأحداث التي يعرفها العالم، هو عن تسفيه مبدأ المقاطعة الذي تعاني منه الدول النامية و العربية و الإسلامية بالخصوص، لماذا تقدم المقاطعة في الدول الغربية على أنها وعي مجتمعي متقدم، بينما تقدم على أنها نوع من التخلف في التفكير في الدول العربية؟

كلنا تابعنا و لا زلنا نتابع وقائع الحرب الحالية على غزة،حرب إبادة جماعية لشعب متشبت بأرضه، لم يستثنى منها الطفل و لا المرأة و لا الشيخ الهرم، لم يستثنى منها الطبيب أو المسعف، لم تستثنى منها المساجد و لا الكنائس و لا المستشفيات.

هاته الإبادة الأولى من نوعها التي تحدث على مسمع و مرأى العالم بأسره، مشاهدة مباشرة لأعمال العنف و التدمير و الخراب، و الإرهاب المحمي من أكبر الدول و أقواها، مستغلة بذلك عناوين كاذبة كحق المحتل في الدفاع عن النفس، بالرغم من كل الانتهاكات الدولية لحقوق الإنسان و التي أقرتها محكمة العدل الدولية فطالبت إسرائيل بالامتثال للقانون الدولي و وقف الحرب على المدنيين. لكن لطالما عرف هذا الكيان بعدم امتثاله لأي قانون وضعي كان دولي أو غير دولي، أخلاقي كان أو إنساني.

اليوم، بعد أزيد من 8 أشهر على بداية هاته الكارثة الإنسانية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، و بعد فشل كل الأنظمة في التصدي لهذا العدوان و فشل الإنسان نفسه في صناعة و تحقيق السلم و العدل و الأمان للجميع... نجد أنفسنا نحن الأفراد، الذين آمنا لوقت طويل بضرورة احترام القانون الوضعي للإنسان، و ضرورة احترام الآخر و احترام كل الدعوات لتحقيق الحق بطرق سلمية في العالم بأسره، نجد أنفسنا قد آمنا جزافا بسراب، خيل إلينا يوما أنه طوق نجاة.

اليوم و قد خرج أفراد و جمعيات في العالم كله تندد بما يحصل في غزة، و تدعو لمقاطعة الكيان الإسرائيلي المجرم و لعزله على المستوى الدولي كمحاولة منها لردعه على ما يقوم به من جرائم حرب يضرب بها عرض الحائط كل القيم الإنسانية و البشرية، اليوم و بعد أكثر من 230 يوما من الألم و الفقد، بعد أكثر ممن 37 ألف شهيد، أكثرهم من الأطفال و النساء، نلاحظ أن القضية الفلسطينية أيقظت العالم على مبدأ المقاطعة من جديد كواجب أخلاقي اتجاه الإنسان و الإنسانية، و أي كارثة إنسانية أكبر يمكنها تحريك الفرد و إيقاظ وعيه أكثر من هاته؟

تعود المقاطعة اليوم لتبرز كأهم وسيلة في يد الفرد و الشعوب التي لا تتواجد في مراكز القرار و لكنها قد تصنع القرار من خلال ممارسة مبدأ المقاطعة.

لقد انتقل مبدأ المقاطعة إلى الدول العربية و الإسلامية بشكل متأخر و ذلك تزامناً مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية سنة 2000م، حيث قامت دعوات و حملات شعبية لمقاطعة منتجات الشركات الداعمة لإسرائيل. وفي سنة 2005، أصدر المجتمع المدني الفلسطيني نداءً تاريخياً يدعو لمقاطعة إسرائيل كشكل من أشكال المقاومة السلمية والتضامن مع نضال الشعب الفلسطيني ضمن حملة دولية دعت إلى إنهاء التعامل مع إسرائيل ومقاطعة الشركات المتورطة في انتهاك حقوق الفلسطينيين، وإنهاء الاحتلال والفصل العنصري، و ذلك بإنشاء حركة المقاطعة العالمية لإسرائيل BDS و هي اختزال لأهداف الحركة : boycott, Divestement and Sanctions تدعو للمقاطعة و سحب الاستثمارات و تطبيق العقوبات ضد الكيان المحتل حتى ينصاع للقانون الدولي و مبادئ حقوق الإنسان، انطلاقا من مبدأ أن الناس كلهم سواسية أمام القانون.

و قد أفادت الحركة العالمية BDS بأن الضغط الشعبي يسهم في قطع العلاقات مع الشركات الإسرائيلية، خاصة تلك العاملة في المستوطنات.وقد حققت الحركة بفضل استجابت الكثيرين لدعواتها الإنسانية العادلة أهداف من بينها تراجع بعض الشركات العالمية، مثل انسحاب شركة "فيوليا" الفرنسية وشركة "أورانج" للاتصالات من السوق الإسرائيلي.

إلا أن هاته الحملة العالمية التي انطلقت من مبدأ أخلاقي يقوم على الحق الفلسطيني، تلقى تضييقا عالميا و بأشكال مختلفة، حسب الدول التي تعمل فيها، كخلق رواية إسرائيلية كاذبة مبنية على مبدأ شيطنة الفلسطينيين و لعب دور الضحية في الأوساط الغربية، لكسر فكرة المقاطعة الأخلاقية لكل تعامل اقتصادي أو سياسي أو علمي، رياضي أو ثقافي.

بينما في الدول العربية، حيث معظم العرب و المسلمين يكرهون بالأساس الكيان المحتل لأسباب تاريخية معروفة تقوم على الاستيطان و الصهيونية و يعترفون بالحق الفلسطيني في الأرض و العودة للأرض، فيتم التصدي لدعوة المقاطعة بالعمل على تغييب الوازع الإنساني و الأخلاقي من هذا المبدأ و اعتبار الحرب ثنائية القطب بين فلسطين و إسرائيل فقط، كما تعمل على تسييس و أخونة مبدأ المقاطعة و جعله مبدأ خاصا بفئة معينة من الشعب. كما يتم التصدي لدعوات المقاطعة من جهة أخرى، بزرع روح الإحباط في هذا المبدأ و اعتباره سلاحا بدائيا غير فعال في سلسلة التغيير.

إذا كانت المقاطعة مبنية على مفهوم المسؤولية الشخصية والجماعية و إذا كان العديد من المفكرين و الفلاسفة قد اعتبروا أن الأفراد لديهم واجب أخلاقي لتجنب المشاركة في الأعمال التي تسبب الأذى للآخرين، فإن الانخراط في هذا المبدأ و العمل على نشره بات واجبا فرديا إنسانيا و أخلاقيا يدل على وعي الإنسان و محافظته على القيم الإنسانية .

فعندما تقوم شركة بدعم صناعة السلاح أو تمويل الحروب، فإن المشاركة في شراء منتجاتها هو نوع من المشاركة غير المباشرة في تلك الأعمال غير الأخلاقية. لذا، تأتي المقاطعة كوسيلة لرفض هذه المشاركة وإرسال رسالة واضحة بأن مثل هذه الممارسات غير مقبولة.

عندما يدرك الأفراد أن أموالهم تُستخدم لدعم أنشطة غير أخلاقية مثل بيع السلاح أو تمويل الحروب، يمكن أن تكون المقاطعة طريقة ملموسة لقطع الدعم المالي عن تلك الأنشطة. هذا الشكل من الاحتجاج السلمي يمنح الأفراد شعوراً بالمشاركة في اتخاذ موقف أخلاقي، وهو أمر يُعتبر ذو قيمة عالية في المجتمعات التي تسعى لتعزيز مبادئ السلام والعدالة.

لقد كانت المقاطعة و ستظل وسيلة فعالة للتعبير عن الرفض الأخلاقي لممارسات غير أخلاقية و الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان و المستضعفين، لا خلفية سياسية أو فكرية تعتريها إنما هو الوعي الفردي و الجماعي و الإيمان المستمر بالإنسان و الإنسانية و الحرص على إبقائه حيا أمام وحش الرأسمالية الاستهلاكية و الاستعمارية. 

  • 1

   نشر في 08 يوليوز 2024 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا