ذكيٌ لغيرك، بكيٌّ في أمرك - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

ذكيٌ لغيرك، بكيٌّ في أمرك

  نشر في 03 غشت 2018 .

إن الداعية في زحمة الهموم الدعوية والمشاغل اليومية قد يهتم بالآخرين و ينسَى نفسه ،ويقصر في حق زوجته وأولاده ، فالزوجة تشعر بفراغ كبير لغياب زوجها عن البيت ، والأولاد يفتقدون رعايته كأب والاهتمام بهم وتربيتهم وتعليمهم بل واللعب معهم ، فهو يخرج لعمله في الصباح، ثم يعود ليخرج مرةً ثانيةً؛ ليشارك في العمل الإسلامي ، تارة في لقاء تربوي دعوي ، وتارة لإلقاء محاضرة في مكان ما ، وأخرى للمشاركة في إحدى البرامج التلفزيونية أو غير ذلك من الفعاليات الدعوية ،وإذا كان موجودًا في البيت؛ فهو مع ضيوفه وإخوانه، فهو في كلتا الحالتين غير موجود بالنسبة لأهل بيته وأولاده، والوقت المتبقي إما للنوم أو للراحة أو للقراءة والتحضير، وكأنَّ البيت بالنسبة له فندقٌ أو مكانٌ للاستراحة

وهنا تحدث له آفات لا يشعر بها إلا بعد حين ،ومنها خواء النفس وقسوة القلب وفتور الهمة وانحراف النية أحياناً ،يقول أ.محمد الراشد “ يجب أن يبقي رجال الصفوة بعض أوقاتهم لمواصلة تربية أنفسهم بالعلم والعبادة ،وإلا قست قلوبهم من بعد لذة الابتداء ” .

ومن هذه الآفات ضياع الأولاد وربما انحرافهم وتأخرهم الدراسي ، وهذه بلا شك خسارة كبيرة بالنسبة للداعية الذي يهمل بيته وأولاد ، فما الفائدة لو استطعنا أن نصلح الكون كله والفوضى تملأ بيوتنا ما بين زوجة استزلها الشيطان فجلست طيلة النهار والليل أمام التلفاز، وأولاد أهملوا دراستهم لغياب المتابعة ، وانحرف بعضهم وتلوثت أخلاقهم بمخالطتهم لقرناء السوء والأب الداعية مشغولٌ بإصلاح فساد الآخرين ، دون أن يدرك أن الفساد في عقر داره باض وأفرخ.

ذكر أبو القاسم بن بشكوال في كتاب (الصلة ) أن الفقيه صاحب الوثائق أبا عمر بن الهندي، إبراهيم بن محمد – وكان طويل اللسان ، حسن البيان ، كثير الحديث ، بصيرا بالحجة ، تنتجعه الخصوم فيما يحاولونه (يقال : انتجع فلانًا : قصَده بطلُب معروفَه) ، ويَرِدُه الناس في مهماتهم فيستريحون معه ، ويشاورونه فيما عنّ لهم، وكان وسيما حسن الخلق والخلق ، وكان إذا حدث بين وأصاب القول فيه وشرحه بأدب صحيح ولسان فصيح – خاصم يوما عند صاحب الشرطة والصلاة إبراهيم بن محمد الشرفي ، فنكل وعجز عن حجّته، فقال له الشرطي: ما أعجب أمرك،يا أبا عمر، أنت ذكي لغيرك، بكيّ في أمرك ( أي عاجزٌ في أمرك ) ، فقال أبو عمر: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ ، ثم أنشد متمثّلا ببيت للعباس بن الأحنف:

صِرْتُ كَأَنِّي ذُبَالَةٌ نُصِبَتْ…. تُضِيءُ لِلنَّاسِ وَهِيَ تَحْتَرِقُ.

ما أعجب أمرك أيها الداعية المفرط في حق نفسه وحق بيته. أنت ( ذكيٌ لغيرك ، بكيٌّ في أمرك ).

إن الدعوة إلى الله من الأهمية بمكان ولا سيما في هذا العصر الذي تكالب فيه الجميع لوأد الإسلام وتعاليمه بل والقضاء عليه تماما لو استطاعوا ذلك ، ولكن هذا لا يعني أن تهمل نفسك ، وتنسى حظك من التزكية والعبادة ورحم الله القائل ( كونوا عبادا قبل أن تكونوا قٌواداً )، والقرب من كتاب الله ، فهذا هو الزاد الحقيقي وهو ما يمنحك القدرة على الاستمرار، وقرب الداعية من كتاب الله يجب أن يكون متعةً لروحه وسكناً لفؤاده وشعاعاً لعقله ووقوداً لحركته ومرقاة لدرجته .

ما أعجب أمرك أيها الداعية المفرط في حق بيته وأولاده وأنت تحدث الناس عن أهمية تكوين وإنشاء البيت المسلم ، وتشرح لهم هدى النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع زوجاته وفي بيته. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر منك انشغالا ومع ذلك لم يقصر أبدا في حق زوجاته ولا حق أولاده بل وأصحابه وأقاربه.

إن الداعية مهما بلغت مشاغله ومهما تكاثرت عليه الواجبات لا ينبغي أن يتهاون في المخالفات الجوهرية في سلوكيات أهل بيته، سواء كانت الزوجة أو الأولاد، فلا يليق أن يهمل أولاده من ناحية الصلاة، والاهتمام بالقرآن الكريم، وانضباط سلوكياتهم؛ فرعايته لهم ألزم من الدعوة.. “أبدأ بنفسك ثم بمن تعول“، و”خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي“، و”الأقربون أولى بالمعروف“، و”والرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته“.

هذه أمور جوهرية يجب ألا يطغى عليها أمر الدعوة الخارجية؛ فهذا واجب عيني، أما الدعوة فواجب كفائي، ومن هنا يأتي التنسيق والتوازن بين أداء الواجبات.

كلمة أخيرة:

إن تنظيم الوقت وحسن الاستفادة منه وترتيب الأولويات ، وإحداث التوازن بين الدعوة في الخارج ، والارتقاء بالنفس وتزكيتها، ومتابعة البيت ، هو ما يحتاج إليه الداعية.

وكما لا ينبغي أن يقصر الداعية في حق نفسه، أو في حق بيته وأولاده ، بسبب انشغاله بالدعوة، فهو أيضا لا ينبغي أن يقصر في حق الدعوة التي اصطفاه الله لها بحجة انشغاله في بيته مع أهله وأولاده.


  • 1

  • جهلان إسماعيل
    أبحث عن الحقيقة وأنشد الصواب في عالم اختلطت فيه أفكار البشر بهدايات السماء وظلمات الباطل بنور الحق.
   نشر في 03 غشت 2018 .

التعليقات

Salsabil Djaou منذ 6 سنة
نصيحة غالية ، ينبغي على كل أب مشغول العمل بها ، حتى لو لم تنشغل الأم بأمور تافهة قد تعجز عن أداء دور الأب و الأم في آن واحد ، فاستثمار الوقت القليل بعد العمل في مجالسة الأولاد والتقرب منهم يجعل الأب منتبها إلى أطفاله و انشغالاتهم ،موضوع قيم ،دام قلمك أستاذنا الفاضل.
1
جهلان إسماعيل
نعم هذه حقيقة .الأم مهما كانت شخصيتها وقوتها لا يمكن أن تحل محل الأب في البيت شكرا لك أيتها الأخت الكريمة

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا