ها انا ذا صديقي العزيز أقارب الخامسة والخمسين على هذه الأرض الطيبة ولا تزال الحياة تؤثر بي وفي حتى جمعت من الخبرة ما يجعلني اتخطى العقبات والتمس الصبر على المشكلات ولكن كانت أمامي مشكلة واحدة لا استطيع التغلب عليها ألا وهي التعايش...
كيف تواصل حياتك وتبدو طبيعيا وانت تنزف الألم وتعاني فراق الاحبة...
إليك قصتي فأرجو ان لا تمل...
كنت في الحادية والعشرين من عمري أدرس الأدب في الجامعة طالما حلمت أن أصبح أديبا كبيرا ومفكرا ملهما، طرق الحب بابي فلبيت النداء...
كانت فتاة شديدة الحياء غلبني فضولي إلى أن أعرفها عن قرب فقد كان لا يحادثها أحد من زملائي كما يحدث مع زميلاتها على الرغم من جمالها الآخاذ إلا أنها كانت شديدة الحذر...
ولعل الحظ قد حالفني على غير عادته ومهد لي طريقا لأبدأ حديثي معها..
أستطيع الجزم بأني كنت شخصين بداخل جسد واحد..
شخص خارجي يتولى جذب أطراف الحديث..
وشخص آخر يتأمل في تمعن عيناها الواسعتين البنيتين وشعاع الشمس يداعب أهدابها ، احاول أن احفظ هذه الصورة في مخيلتي عسى أن تكون البذرة التي منها تولد شجرة الحب الخالد وكانت كذلك..
مرت خمس سنوات والحب بيننا يكبر ويكبر..
ونحن فيها كمن يصعد الجبال تارة عند ذروة الجبل والسعادة تغمرنا..
وتارة عند السفح يكوينا النوى ويفرقنا الخصام..
تذكر حظي العسر تاريخنا القديم قبل أن أعرفها
كأنه قد أقسم أن يرابطني ولا يفارقني مرة اخرى..
تعددت الأسباب والموت واحد، أليس في فراق الأحبة بعض الموت!!
افترقنا..
تألمت كثيرا..
نزف قلبي كالسيل الغزير..
يأكل الأخضر واليابس من عمري وأحلامي..
انقضى الوقت بطيئا كسلانا..
لا يرحمني من التذكر ولا استطيع النسيان..
قررت حينها أن أتعايش...
أعيش حياتي طبيعيا وإن جاءت ذكراها تراودوني
اترحم أيامها وأسال الله لها السعادة والتوفيق وأعود ثانية الى حياتي...
انتظر صديقي هل تعتقد أني انتهيت؟؟
لا لم انتهي بعد فانتظر قليلا حتى أكمل...
مرت بضعة سنوات حتى تزوجت
فتاة اخرى ولكنها لم تحظ بحبي كما حظت أختها
لعل حظها العسر أيضا يشبه حظي
وبعد مرور عام على زواجي رزقني الله بفتاة جميلة
تشهد آيات جمالها كل العيون..
مر عامين على مولدها وهي تملأ الدار مرحا وفكاهة..
جلست العب معها كعادتي فأنال من ابتسامتها ما ينسيني جفاء الدهر من حولي
أركز في ملامح وجهها الطفولي البرئ
تأملتها قليلا كأني أراها لأول لحظة وكان ما لم اكن اتوقعه..
لا أصدق إنها تقريبا نفس العينين ونفس الملامح مع فرق العمر
هرعت إلى صندوق ذكرياتي الغارق بالتراب..
يطوي ذكرياتي الجامعية كلها..
أذكر حين أهدتني بعض صورها في مراحل عمرها المختلفة..
أجوب الصندوق في سرعة كالملهوف..
ها هي الصور ..
أكاد لا اصدق إنها تشبهها تماما..
جلست قرب النافذة ألملم أنفاسي..
أكاد اختنق من المفاجأة..
لا أدري أفرح أم أحزن..
أفرح لأني سأراها كل يوم تكبر أمام عيناي
أم أحزن لأنها تذكرني بفراقي عنها
وتعلن لي بتحد أن أعوام التعايش المؤلمة ذهبت أدراج الرياح.....
أدركت حينها أن لامفر من تذكرها كل يوم
وسأبدأ مرحلة جديدة من التعايش
سأحيا انا وآلامي متلازمين..
نسير على درب الحياة سويا
كصديقين مقربين أو أكثر..
كلما كبرت ابنتي يلاحظ الأهل والأصدقاء الشبه المستحيل بينهما...
كل من رأى حبيبتي السابقة ويراني بصحبة ابنتي
تنهال نظرات الشفقة والانكسار علي
ولسان حالهم يقول" كان الله في عونك "
يقول المثل المصري " خبطتين بالراس توجع " ما بالكم لو أن الطرق مستمر طالما كنت حيا!!!
كبرت ابنتي وكانت في سن المراهقة..
لا أدري من أخبرها بهذا الشبه بينها وبين حبيبتي..
اعتقد أن تراب صندوق الذكريات قد زار يديها وعينيها..
سألتني في ماذا أفكر حين أنظر إليها فاتذكرها؟؟
أجبتها أني أتذكر اللحظات الجميلة التي كانت بيننا
وماذا عن أمي؟؟ أتحبها حقا؟؟
نعم أحبها فلم أعهدها إلا وديعة طيبة القلب والسريرة..
أتحب أمي كما أحببتها؟؟
تنهدت طويلا ونظرت شاردا بعيدا عن عينيها
قلت: ربما تعرفين جواب سؤالك حين تكبرين ويداعب الحب قلبك
أما أنا فلا أدري..
نعم أنا لا أدري حقا...
مئات من المشاعر المتداخلة بقلبي عندما افكر فيهما معا
هذه حبيبتي أنفقت معها اولى اللحظات في كل شئ
الحب والغيرة .. الدلال والخفة.. الصدام والخصام..
وهذه زوجتي أم ابنتي
رفيقة دربي وهي ساعد الأمل ينتشلني من أحزاني وكبواتي
لا أدري حقا..
تخرجت ابنتي من الجامعة بتقدير حسن وبعريس حسن أيضا
حمدت الله أن حظها لم يكن مثلي او مثل شبيهتها
وقفت أمام ابنتي بالفستان الأبيض
سكبت الدمع كما لم أسكبه من قبل
ألم يعصف بقلبي عصفا
وسؤال يمزق أحشائي
قلت: أهكذا كنت عند زفافك؟؟
ردت ابنتي: أما زلت تذكرها!!
ضحكت في تهكم
قلت: نعم، وهي الآن أمامي
لم تجد ابنتي ما تواسيني به غير حضنها الدافئ
وسالت دموعها على كتفي رفقا بحالي..
قالت: الآن عرفت يا أبي إجابة سؤالي
كان الله في عونك..
ربما " كان الله في عونك "هي سر تحملي على مر هذه الأعوام الطوال
دعوة واحدة بصدق خير من الدنيا وما فيها
وأظن أنها كانت كلها بصدق
فمن ذا الذي يتمنى أن يرى آلامه شاخصة أمامه لسنوات عديدة
تجري وتلعب وتملأ الدنيا مرحا
لا أدري لما اختصني الله بهذا..
ولكنه كان في عوني ولم يتركني...
-
محمود عبداللهأديبا كبيرا لعلي أكون...
التعليقات
... تحياتي لك
من حبيبة الى إبنة شبيهة ... لا سيما اللحظات الاخيرة التي وصفتها بطريقة رائعة و إستثنائية .. لحظات الوداع
احب النهايات الحزينة .
.اخذتنا بعيدا .. عشنا الاحداث بكل تفاصيلها .
اتمنى انها ليست واقعية ..
دام إبداعك ... كان الله في عوننا يا اخي ..من هذه الكتابات المذهلة . ...في انتظار الجديد ..