ما حدث في البحر لا ينسى في البر
قصة خيالية من وحي الواقع
نشر في 27 شتنبر 2021 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
ذات ليلة خرجت مريم حالمة إلى الشاطئ متوجهة لذاك القارب الصغير، آملة أن تجد مبتغاها في الجهة الأخرى من البحر، كانت تعلم جيدا أن تلك المغامرة تحتاج جلدا وقوة وشجاعة لا توجد إلا في الرجال، لكن إصرارها جعلها لا تتردد وأطلقت لأحلامها العنان وهي تتخيل ما ستحققه من نجاح إذا اجتازت هذا البحر الهائج بأمواجه المتلاطمة. فكرت مريم مليا، فجأة برقت عيناها وقررت أنه لا بد من الانتصار، فحركت القارب الصغير قليلا نحو الشاطئ عازمة تحقيق مبتغاها موقنة أن الله معها ولن يتركها.
تحرك القارب ببطء وهي تدفعه بكل ما أوتيت من قوة، فإذا به يطفو بمساعدة الأمواج فوق الماء، وقد ركبت القارب الذي لا يتضمن سوى شراعا ومجذافين قديمين. تحرك القارب وهي تنظر خلفها تودع ذلك الشاطئ لآخر مرة.
سار القارب أيام وليال ومريم تجذف بعزيمة وقوة تعاند الأمواج العالية وتسابقها فإذا بها ترى من بعيد قاربا أمامها بينهما أميال قليلة، حدقت كثيرا يحجبها الضباب تحاول رؤية ذلك الجسم العريض القوي فإذا به شاب أبيض البشرة عريض المنكبين يبدو من شكله أنه شخص حازم وقوي، يجذف باضطراب وقلق وكأنه ضائع الوجهة، لا يفتئ النظر يمنة ويسرة فإذا به يلتفت وراءه ليرى مريم تسلك نفس مساره من الخلف، فنظر إليها وإلى قاربها بتعجب: من أنت ولما تسيرين في هذا المسار !! ألا تعلمين أنه مسار خاطئ، للأسف كان عليك تغيير مسارك !! حملقت مريم برهبة في الشاب متعجبة من كلامه ثم سألته : أليس هذا المسار الذي سيوصلني للبر ؟ فقال : بلى، لكنه مسار ممل وكئيب وكله ضباب وربما لن تصلي ألا ترينني تائها ضائعا ، كان يجب عليك سلك مسار آخر في البحر أو أن ترجعي...
ارتبكت مريم من كلام الشاب وقد ارتخت المجاذيف بين يديها وقد ارتسمت ملامح الحزن على وجهها، فنظر إليها بضيق وقال: فات الأوان.
نظرت إليه كئيبة وسألت : ما الحل أيها الشاب؟ فقال : لا يوجد حل سوى انتظار الفرج من الله.
كانت مريم خلال تلك الأيام القليلة تسير وراء ذلك الشاب وهو مضطرب وقلق وتحاول تهدئته وأن تشجعه وتبث فيه الأمل للإستمرار والنجاة، فجأة انكسرت المجاذيف بين يديها على إثر موجة قوية رهيبة شتتت تركيزها، وتحرك قاربها بقوة فذهلت مكانها، بمجرد أن رفعت رأسها رأت الشاب انطلق بقاربه أمامها يجذف بقوة، في نفس المسار غير ملتفت إليها قطعا، كانت تريد أن تطلب منه أحد مجاذيفه لكنها شردت بعد رؤيته يتركها وحيدة في عرض المحيط، نادته بأعلى صوتها : أيها الشاب عد رجاء إنني لا أعرف الطريق الصحيح، أيها الشاب لا تتركني هنا وحيدة. كان الشاب قد ابتعد عنها أميالا لكنه لم يجب نداءها بل التفت إليها التفاتة قصيرة بنظرة أسف. وكأنه يقول : لا أستطيع فعل أي شيء لك، بالكادي أنجو بنفسي.
اختفى الشاب عن الأنظار وقد تجمدت مريم مكانها تسأل نفسها مرارا وتكرارا : كيف يتركني في عرض البحر ؟ كنت أتوقع أن يعطيني أحد مجاذيفه؟ لما فعل ذلك وأنا كنت أشجعه وأبث فيه الأمل للإستمرار ؟ لماذا سار في نفس الطريق الذي نصحني من قبل أن أتركه كدت أعود للشاطئ بسببه؟ لماذا لم يفكر إلا في نفسه بعدما كنا في نفس المسار ؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟....
ظلت مريم تسأل نفسها وتتمتم بكلمات غير مفهومة وقاربها لم يتحرك من مكانه، تضربه الأمواج يمنة ويسرة...وقد توقف الزمان والأحلام والأمنيات عند مريم بتوقف القارب...وضعت رأسها بين ركبتيها واستسلمت للبكاء وأجهشت حتى سمع كل كائن في المحيط بكائها وحزن لحزنها وهي تدعو الله خفية أن يجعل لها مخرجا وهي تتذكر الغاية النبيلة التي تركت قريتها والشاطئ لأجل تحقيقها. ظل القارب راكدا في وسط البحر أياما وليال ومريم تناجي ربها أن يرزقها الفرج القريب...لا تعلم كيف تتصرف دون مجاذيف...كيف ستصل الضفة الأخرى بعدما قطعت ثلث الطريق...
في لحظة من السكون، سمعت مريم صوتا هادئا من ورائها على بعد أميال يناديها :أختي، أختي....
وكأنها كانت في نوم عميق، رفعت رأسها و التفتت بسرعة فإذا بها ترى شابا يافعا، وضيء الوجه، هادئ النظرات مبتسما ينظر إليها بتعجب فسألته : من أنت ومن أين أتيت؟ أجاب بهدوء : أنا أسلك نفس طريقك أختي ولكنني أراك توقفت ما الخطب؟ بكت مريم متذكرة ما مر بها طيلة تلك الأيام وقالت : لقد انكسرت مجاذيفي ولم أعد أستطع متابعة الطريق...
نظر إليها الشاب بابتسامة عريضة ورحمة شديدة وقال لها : لكل ضيق مخرج عند الله لا تحزني، وبدون تفكير رمى لها أحد مجاذيفه ليظل معه مجذاف واحد...
قالت مريم بتعجب : ماذا فعلت أخي ؟ فأجاب مبتسما : لاشيء، استعمليه في متابعة طريقك.
فقالت :ولكنك تحتاجه، وهكذا لن تصل في الوقت بمجذاف واحد... ألا تفكر في نفسك..
فأجابها ببشاشة : الوصول عند الله مضمون باليقين والصبر، وهذا لا يمنع أن نصنع الخير في طريقنا مع من نصادفهم.
نظرت إليه نظرة فيها شكر وامتنان وقالت : سأعيده لك عندما أصل اليابسة هذا وعد .
بدأت تجذف من جديد بأمل والشاب البشوش من ورائها بأميال يتابع خطواتها، كلما تعبت يناديها أن استمري، كلما غفلت عن موجة شاردة نبهها أن انحني، كان يتابعها بدقة حتى ظنت أنه يقود القارب مكانها، ظل يبث فيها الأمل بالاستمرار ويذكرها بفرحتها عند الوصول وكيف ستحقق مبتغاها إذا بلغت اليابسة. أصبحت مريم تحمل شحنة من الأمل والايجابية الكبيرة بسبب ذلك الشاب الذي سخره الله في طريقها منقذا، وهاهي عادت تجذف بتوازن وتسير بعزم وإرادة قوية وقد ارتسمت البسمة على وجهها، كانت كلما حارت في المسار تسأله فيوجهها ، كلما خافت هدأ روعها، كلما صادفت مشكلة في عرض البحر التفتت إليه ليساعدها، لم يكن يتردد لحظة. كان بالنسبة لها كهدية ربانية أنزلت من السماء تنير طريقها، كان الشاب كلما انشغل بقاربها نسي قاربه لساعات طوال حتى يساعدها في توجيه قاربها.
بقي الشاب يتابع مريم حتى قطعت نصف الطريق وهو ينظر إليها من بعيد متأخرا عنها بأميال، فتوفق لحظة فسألته : لما توقفت؟ فأجاب : لقد انتهى دوري...نظرت إليه بصدمة : ماذا تقول ؟ كيف؟ هل ستتركني؟
فأجاب : يجب أن تتابعي طريقك... وأنت الآن في منتصف الطريق.... إياك أن تستسلمي...لم يبق إلا القليل...فاصبري وصابري والله معك ولن يتركك.
صعقت مريم من كلامه وقالت: لا يمكنني الاستمرار بدونك.... أنت قد أرسلك الله إلي أنرت لي الطريق...زرعت في الأمل بعدما فقدته...أضأت ليلي بتفاؤلك وبسمتك....كيف سأستمر دون إرشاداتك وتوجيهاتك.
ضحك وقال : أنت قوية يا مريم وتستطعين الوصول لوحدك، أنت أقوى مما تتخيلين، أنا كنت أشجعك لكن عزيمتك من صخر لا أخاف عليك، لكن هناك قارب آخر معي يجب أن أوجهه ...فاستمري ولا تلتفتي وراءك أبدا مهما كان وربما نلتقي يوما في اليابسة...فاستمري في رعاية الله.
بدت مريم حزينة وكأنها استوعبت كلام الشاب جيدا ونزلت دمعات متتالية من عينيها تفكر في الوحدة التي ستعود إليها من جديد، وفي صعوبة البحر وقوة الأمواج. فنظرت إليه آخر نظراتها دامعة مودعة له من بعيد، ترجو الله أن تلقاه يوما ما...وهي تتذكر تضحياته وتوجيهاته ونصائحه لها طيلة ذلك الوقت...وتتذكر كيف تركها الشاب الأول وسط البحر ولم يفكر إلا في نفسه ونجاته ومواقفه معها في الشدة في عرض المحيط...حينها علمت الفرق بين المقتصد من الناس الذي لا يفكر إلا في نفسه ومصلحته وبين المحسن الذي يعيش بعطائه وخيره للناس...فكان الشاب الثاني مثلا حقيقيا للإحسان وحب الخير والبذل للناس والإيثار ونكران الذات...تابعت مريم تفكيرها وهي لا تزال تلتفت وراءها نحو الشاب تسمع صوتا خافتا بعيدا ينادي: لا تتوقفي استمري ستصلين بفضل الله...لا تنسي ذلك.
وسرعان ما غطى الضباب الرؤية فلم يعد قارب الشاب يظهر لها، نزلت دمعات حارقة على مقليتيها تحاول استيعاب الموقف وإقناع نفسها أنه من الآن ستتحمل مسؤولية توجيه القارب لوحدها.
ظلت مريم لساعات تسبح في موجة حزن وعدم تصديق، لحظة انتفضت وقد مسحت عينيها عازمة على الاستمرار بأقوى جهدها وهي تتذكر آخر نصيحة وجهها لها ذلك الشاب البشوش.
انطلقت بكل عزم تصارع الأمواج من جديد...لاتنام ليل نهار من شدة التجذيف والتعب...ترتاح لكنها سرعان ما تعود...وتوجيهات الشاب ترافقها كأنه حاضر معها....قطعت مسافة طويلة... فإذا بها ترى قاربا أمامها بعيد لكنها تراه...فوجدته مألوفا فتذكرت أنه الشاب الأول قارب النهاية والوصول لليابسة...فناداها بفرح وصوت عالي : مريم، كيف نجوت، كيف وجدت الطريق؟
أشاحت بوجهها عنه لا ترغب في محادثته، لكنه ظل ملتفتا إليها لا يزيح نظره عنها وهي ضائقة من كلامه، تتذكر كيف تركها وسط البحر بدون مجذاف، وفي نفس الوقت تنظر للمجذاف الذي بين يديها وتسأل نفسها في صمت: أين وصلت يا صاحب الظل الطويل والوجه البشوش. سرحت في خيالها حتى استيقظت على صوت الشاب الأول يقول : هيا، لم يبق إلا أميال لنصل لليابسة ونحقق أحلامنا وأمنياتها..
كانت مريم تنظر إليه بريبة وودت لو تصرخ في وجهه قائلة : مساري ومسارك اختلفا منذ أن تركتني في وسط المحيط، أحلامي سأحققها لوحدي وبدونك...ظلت شاردة في تفكيرها إلا أن رأت نور اليابسة يضيء من بعيد وتحمست للوصول، لكنها في نفس الوقت لم تتوقف عن الإلتفات وراءها... وكأنها تركت جزءا منها في البحر...
فانطلقت من جديد تجذف بقوة لتقطع مابقي لها من أميال قليلة للوصول وهي تنظر للشاب الأول أمامها مركزا نظره عليها، فنظرت إليه بحزم وقالت :
"ما وقع في البحر لا ينسى في البر"
-
لطيفة شوقيباحثة في العلوم السياسية وقضايا الشرق الأوسط