كان جدّي - يرحمه الله - يحذرني من شرور الدنيا وصفعات الدهر؛ الدهرُ بشعٌ يا ولدي، عابسٌ لا يضحك أبداً؛ فلا يغُرنّك إحسانه؛ ويسكت.
آمنت منذ ذلك الحين أن الأيام لا تحتمل أن تكون يسيراً في كل الأوقات، لا بدّ أن تعاصرها وغداً منذ أن تدرك أنّك حياً؛ فلن تجدي ليونتك إلا كل ضراء.
أنت طفلٌ تداعب الملكوت؛ رخوٌ بالفطرة، لا تعرف معنى أن تجسد دوراً ثانوياً في مسلسل الفظاظة، لكنها الأيام .. أنياب ليثٍ حادة في صورة زمنية، تستثير رذائلك لتجعل منك خنزيراً ما لم تكن حذراً، نوعٌ عظيمٌ من العنف لا تدرك فضائله.
هناك نوع أقسى؛ أكثر شراسةً من كل شيء حتى من الدهر ذاته؛ إنه الشتاء .. حيث تحلم بلهيبٍ جهنّمي يسعف صقيعك، هنا يأتي دور آلة الدفء - التي تبعثر الحرارة في الأرجاء - لمؤازرتك وقد لخّص الطقس في دقائقٍ معدودةٍ ما عجز أعداؤك عن فعله، غالباً ما تجدها في وعكة ديناميكية - إن كانت تعمل بالكهرباء - أو ربّما لا تجدها لأنها ليست عندك من الأساس .. هكذا تستسلم للبرد مصححاً لأجدادك كلماتهم بأنّ الدهر بشعٌ والشتاء صهيوني؛ محتّمٌ أن تكون فظاً كالشتاء كي لا تلعب بك الطقوس كيفما شاءت، ربما لو كان أحدهم على قيد الحياة لصدّق على نصيحتك نيابةً عن من سبقوه تحت التراب، تلجأ لرداءِك الثقيل .. كل ملابسك تحتويك ثم إنك تلتحف بكل غطاءٍ متاح؛ طبعاً لابدّ من سروال تحتيّ - كلسون - يسعف ما أدماه الطقس بكينونتك، لا ريب أنه ثالث أكثر الإختراعات نفعاً للبشرية - مؤكدٌ أن هناك على الأقل اختراعان أنفع منه لكن ما هما؟ لا أعرف؛ لهذا صنفته ثالثاً - .. هكذا ينتهي بك اليوم نائماً حالماً أن لا تُهلكك الأجواء.
ثمّة أمورٌ أتت من الجحيم خصيصاً لإيقاظك؛ لن تبقى دافئاً حتى تقوم الساعة كما ابتغيت، حتميٌ أنك تقذف اللعنات على الدهر في هذا الوقت لكن لعناتك كلها لن تجدي لك شيئاً على الإطلاق؛ في النهاية أنت مجبرٌ على مغادرة صومعتك ومواكبة الأجواء بالخارج داعياً أن لا تستبدل السماء لعناتك بالأمطار كأنها تبصق على أخلاقك الوضيعة، قُضي الأمر .. ها أنت ذا ترتجف في فزعٍ بعد أن غمرتك المياه كُلياً ثم تهرول عائداً إلى صومعتك.
هنا في صومعتك هديتان من طرف المذلة؛ نقّب عنهما!
حسنٌ؛ دعني أنقب معك، ها قد وجدتهما؛ فلتُصغِ .. إليك الأولى:
أنت متسخٌ للغاية ولديك قرحات من الطين علاجها أن تغتسل وكفى؛ لكن الأمر برمّته يعد مجازفة؛ إما أن تنجو وإما أن تنقطع أنفاسك وتموت عارياً، كأنك تصيد أسداً؛ إما أن يلتهمك؛ وفقط .. لا يوجد احتمالٌ ثانٍ .. هذا أسدٌ.
الثانية : أن هناك مخاطاً ينزفه أنفك؛ واحتقاناً لعيناً سكن في حلقك، درجة حرارتك تعلو تدريجياً لتقارب الأربعين؛ لا بدّ أنك ....... أوه نسيت؛ معذرةً .. جسدك بأكمله هزيل أيضاً؛ لا بدّ أنك عرفت علامَ تدلّ الأعراض تلك، جيدٌ .. إنه داء الشيطان؛ الأنفلونزا، أصابتك لتزوّد من الطين بلّة ولتكتمل نشوة الشتاء في تمزيق كيانك.
في النهاية تجد نفسك مستلقٍ بفراشك وعلى يمينك تلّ مصغرٌ شكّلتهُ المناديل الورقية دون وعي، وعلى اليسار حقلٌ من الأدوية لا يجلب أيّا منها شفاءً البتة، يمكث الداء في بدنك العليل أسبوعاً لا يقهره أيّ نوع من الأدوية ثم ينصرف مودٌعاً إيّاك على أن يزورك بعد حينٍ بعدما طرحك وأدويتك أرضاً وربما طبيبك هو الآخر.
ها قد تعافيت وأخذت حذرك من المرض والشتاء والدهر ومضيت في مسايرة أحداث حياتك البائسة قاطعاً العهد أن لا تقذف اللعنات على الدهر ثانية كي لا يصيبك أذاه، هكذا انتهى الشتاء ونسيت ما حلّ بك من أذاه ومضيت في استقبال ربيعك، مؤسفٌ أنك لا تفي بالعهود أبداً .. ها هو موقد الطقوس قد تم إصلاحه وباتت حفلات شواءك على وشك أن تقام؛ ثم أنت تقذف اللعنات على الصيف والدهر مرة أخرى ولا تدرك أن الإنتقام سهلٌ، مرحباً بالصيف؛ جاء ليـ ......... ، كلا؛ لم يحضر بعد، بالطبع سأحدثك عنه في حضرته ولكن في مقالٍ آخر .. فلنا لقاء.
التعليقات
ونعم، هكذا هو ابن آدم ، لا يعجبه العجب .. وفي انتظار الصيف أن يحمل معه نصا بديعا، أتمنى أن نقرأ لك كثيرا .