كان الشك يقتلهُ في كل مرة يفتحُ فيها خزانتها ويرى زجاجة العطر الثمينة المخبأة بين الملابس٬ في كل مرةٍ يراها تجلسُ شاردةً وحيدة تبتسمُ. في كل مرة يحاصرها بعينيه فتهرب ..
الشك؛ الشك؛ الشك .. كان يفكرُ بأنها ربما تكون خانته مع طبيبها النفسي، إنه شاب وسيم، أسنانه بيضاء مرصعة وهي كانت دائماً تثني على ذلك، تقول لي بأنه عندما يبتسمُ لها تشعرُ بأنه هناك أملٌ جديدٌ في الحياة. لكنني سرعان ما أنتشل الفكرة من رأسي طبيب ناجح كهذا لن يعرض شرف مهنته واسمه المعروف كي يقضي ليلة أو ليلتين مع امرأة متروجة تعاني من اضطرابات نفسية وحده الله يفهمُ ماهيتها!
إذاً هل يا ترى خانتني مع صاحب المكتبة في الزاوية، إنه رجلٌ مسن لكنه مايزالُ أنيقاً وحسن اللسان، إنها دائماً تقول لي بأنها تشعرُ أن الوقت ينقصي بسرعة معه، وأنها تحب كثيراً عندما يقص لها حكايةً مختصرة عن الرواية قبل أن تشتريها. لكنها فكرة جنونية فالرجل صاحب أخلاق عالية، وهو يعملُ في المكتبة منذ قرون وسمعته الطيبة تسبقه في الحي، كما أنه لا يملكُ لا الوقت ولا الطاقة ليحب، حتى أنه مايزال في كل خميس يشتري باقةَ وردٍ ضخمة ويذهب إلى قبر زوجته يحدثها ويبكي !
إذاً من يكون يا ترى؟!
يأتي على بالي فوراً صاحب متجر العطور، ولمَ لا صحيح أنه رجل متزوج لكنني لطالما استشعرتُ حبه للنساء، إنه يخفي صور زوجته على مواقع التواصل الاجتماعي، ويعلق للنساء بمجاملات ويقدم لهن عروضاً سخية، أكادُ أجزم أنه من قدم لها هذا العطر الفاره الذي تخفيه هديةً كي يوقعها بفخ حبه، لكن هل يا ترى استطاع أن يستبيح جسدها أو قلبها .. لكن لا، مهما يكن فزوجتي لا يمكن أن تغرم برجل مثله، رجل سطحي كل ما يهمه في الحياة هو مظهره، ثم إنه لا يمكن أن يخون زوجته لأنه فقير معدم وكل ما يملكه من ثروة هي لزوجته ولن يغامر ابداً بكل هذا العز والجاه مقابل علاقة عابرة مع زوجتي العادية .. إذا ما قارناها بزبائنه!
مرت أيام وأنا أحاول أن أحصي عدد الذكور في حياة زوجتي اللذين من الممكن أن تكون قد خانتني معهم لكنني لم أجد أحداً مناسباً لعلاقة كهذه.
بقيتُ أراقبها حتى رأيتها ذات يوم ظهيرة تخرجُ فستانها الأسود الأنيق من الخزانة، ثم جلست أمام المرآة تترسم وتضعُ مواد تجميل كان قد مر وقتٌ طويلٌ منذ أن استعملتها. لم أشعرها بأنني أشك بشيء، بل أدركتُ أنه الوقت المناسب حتى أوقعها بالفخ. تعاملتُ معها بشكلٍ أكثر من عادي .. حتى طلبت مني أن أخرج من المنزل في حجة أنه لديها استقبال؛ لكنني بالطبع لم أكن مغفلاً لأصدق كذبة كهذه. لكنني جاملتها وخرجت من المنزل وبقيتُ أنتظر حتى المساء ولم يأتِ أحد!
وأخيراً جاء اتصالها وطلبت مني أن أحضر إلى المنزل بحجة أن صديقاتها قد غادرن المنزل وأن بإمكاني العودة. شعرتُ بارتباك شديد يا ترى ما الذي حصل هل شكت بأمري، هل كان واضحاً علي طوال الفترة التي مضت أنني كنتُ ابحثُ وراءها وأفتش ..
صعدتُ إلى المنزل، كانت تنتظرني بذات الملابس وقد حضرت مائدة رائعة ووضعت الكثير من الشموع، فكرتُ لوهلة أنها ربما فعلت كل هذا لتبدد الشك الذي في رأسي، حين اكتشفت أنني رأيتُ زجاجة العطر.. حينها فقدتُ صبري وقلتُ لها عندما مدت يدها لتراقصني ..
" كفاكِ تمثيلاً! لقد عرفتُ كل شيء، لقد رأيتُ زجاجة العطر، أنا لستُ أحمقاً أنتِ لم تعودي أنتِ منذ فترة طويلة، لقد تغيرتِ كثيراً، تمضين وقتكِ شاردةً، تخرجين في حجة أنك تذهبين إلى الطبيب النفسي للمعالجة .. تبتسمين عندما تشردين، الآن أريدُ الآن أن أعرف من الذي استحق أن تخوني عشرة السنين التي بيننا لأجله؟!"
جلست على الكرسي صامتةً لبرهة، وضعت يدها على وجهها وبدأت تبكي ..
"تشعرين بالذنب أليس هذا ما ستقولينه. ستخرجين الآن بأي حجة لتبرري عملتك الرديئة هذه؛ لقد أحبتتكُ كثيراً .. وصبرتُ عليك طوال هذا الوقت، كنتُ أتحمل بحجة الحالة النفسية التي تمرين بها، كنتُ أعزي نفسي بأنكِ بعد زواج ابنتنا الوحيدة وسفرها تشعرين بالفراغ، لكن .. تخونني؛ بعد كل هذه السنين، ألم يخطر في بالك أنني سأكتشف الأمر مهما طال الزمن، أنكِ مقابل علاقة عابرة ربما لا تكون مدتها ساعة تطعنين شريك أحلامك الذي أمضى معك عشرات السنين .. ".
وقفت فجأة وصرخت في وجهي .. :" توقف .. أرجوك توقف! .. " كانت تبكي بشدة وقهر. توقفتُ لبرهة وقلبي يدقُ بسرعة بين ضلوعي، عيني تملؤها الدموع، والقهر في قلبي ..
ثم نطقت :" زجاجة العطر هذه أنتَ أهديتني إياها منذ خمسة سنين، لكنك بالطبع نسيت كعادتك، وعدتك يومها أنني سأتعطر منها في أجمل ذكرى ستجمعنا لاحقاً، لكن اليوم هو لاحقاً؛ أنا أعاني من مرضٍ عضال.ولم يتبق لي الكثير من الوقت، واليوم هو ذكرى زواجنا الأخيرة قبل أن أموت .. لقد كنتُ طوال الوقت أخفي عنك حتى لا أقهر قلبك، حتى لا أجرحك، حتى لا أدعك تعاني معي كل يوم هذا الشعور الحقير .. كي لا تشفق علي، لكنك فكرت بالخيانة .. يا إلهي .. إنني الآن أتمنى حقاً لو أن الموت سبقني إلى هذه اللحظة، أتمنى لو أنني سقطتُ على أي رصيف قبل أن أسمعك تتهمني بالخيانة .".
للحظة توقفت الدماء عن العبور في عروقي. جلستُ على الكرسي قبالتها لا أملكُ كلاماً ولا فعلاً؛ شعرتُ بالضعف.. بالضياع .. بكيتُ دون شعور. ثم لأول مرة لاحظتُ على ضوء الشموع الباهتة اصفرار وجهها وشحوب عينيها، ملامح الموت التي كانت بادية عليها. شعرتُ بالبرد يتسللُ إلى كل جزءٍ من جسدي ..
قلتُ لها :" يمكننا أن نحارب المرض معاً يا ماري، كما حاربنا القدر في السابق عندما اجمع الطب الغربي والعربي على أننا لا يمكن أن ننجب سويةً ورزقنا بعدها الله بابنتنا ريتا؛ عليكِ أن تحاربي لأنني لا يمكن أن أعيش بعدك، لأنني ظلمتكُ وعلي أن أكفر عن خطيئتي هذه .. لأنني لم أكن معك في الوقت الذي كنت فيه حقاً بحاجة إلي .. ".
اقتربتُ منها وأمسكتُ يدها، فوجدتُ عروقها بارزة، جسدها هزيل، يرتجفُ برداً وذعراً، وضعت رأسها على كتفي وراحت تبكي بحرقة ..
" إن أقسى شعور يمر به الإنسان هو شعور الظلم؛ عندما أخبرني الطبيب أنني أعاني من المرض وأن حياتي على وشك الانتهاء شعرتُ بالألم والقهر والخوف، لكن عندما اكتشفت أنك لوهلة شككت بي .. كان شعوراً لا يوصف، لم يكن ألماً أو قهراً ولا خوفاً، كان ضربةً مهلكةً !".
ثم شعرتُ بجسدها الهزيل وهو يسترخي على صدري. وأنفاسها التي كانت تختفي شيئاً فشيئاً؛ حملتها بين ذراعي فتحتُ باب المنزل ورحتُ أركدُ كالمجنون بها وأنا أصيحُ في الشارع ..:" فليطلب أحدكم الاسعاف .. ماري تموت بين يدي .. يا الله .. فلينقذنا أحد هنا".
توقف على الفور سائق عربة أجرة فتح لي الباب وهو يساعدني على إدخالها إلى السيارة. عندما وضعتُها على صدري واقتربتُ منها شممتُ رائحة العطر .. تذكرتُ ايميلي الصحفية الفرنسية التي خنتُ ماري معها قبل خمسة سنوات عندما كنتُ في مهمة عمل في باريس، أهدتني يومها هذا العطر في ليلتنا الثالثة والأخيرة وقالت لي لقد أمضيتَ كل الوقت هنا تتسكع معي ونسيتَ أن تحضر هديةً لزوجتك؛ خذ هذا العطر أنا متأكدة من أنها ستحبه وسيليقُ بها، كذلك في كل مرة ستقتربُ منها ستتذكرني بها من خلالهِ.
- تمت -