بين الفينة و الأخرى ، تطفوا نقاشات لها من الضوروة ما يبررها على سطح الوطن العربي القاحل من كل مظاهر التأنسن و الحضارة (خصوصا في بعدها الأخلاقي ) ، إذ يعد موضوع "المساواة في الإرث" أبرز هذه النقاشات في العقود الأخيرة ، التي تدار بكثير من التشنج و الشعبوية ، بعيدا عن تأصيل علمي يراعي خصوصية الزمن الذي نعيش فيه ، زمن الحداثة و حقوق الإنسان . لعل ذلك ما سعى مفكرين و سياسيين كثر إلى الإلتحاق بركبه ، عبر محاولة تجديد رؤى و تصورات المسلمين اتجاه الحياة بشكل عام ، تفاديا للتقوقع في هوية مقدسة كابحة لسيرورة التحضر ، أو قل إن أردت الدقة عصرنة و تحديث الثقافة الإسلامية حيث لا يعود الإختلاف متمايزا بشكل فاقع بين الإسلام و الحداثة ، غير أن كل مشاريع هؤلاء لم يكتب لها النجاح ، ربما بسبب الإفتقاد لأرضية التنوير و التوعية التي تقف عليها عادة مثل هذه المشاريع .
آخر هذه البوادر ما عبر عنه الرئيس التونسي "باجي قائد السبسي" بدعوته للمساواة في الإرث و مراجعة المساطر القانونية المتعلقة بالمرأة ، فهذا حقيقةً ليس غريبا على تونس لطالما كانت سباقة بمشروع مجلة الأحوال الشخصية الصادر سنة 1956 ، و الذي منعت من خلاله تعدد الزوجات و ساوت بين النساء و الرجال في حق الطلاق المدني ، غير أنها أدبرت و ارتدت عن هذا النهج الحداثي بسبب الغزو الفكري الوهابي في النصف الثاني للقرن العشرين .
هذا النهج الحداثي ما فتئ يترئى لنا من جديد ، ذلك حيث خرجت علينا تونس في عيد المرأة لعام 2017 من خلال رئيسها باجى قائد السبسي ، الذي أعلن عن ضرورة المساواة في الإرث بين المرأة والرجل و حق المسلمة في الزواج من غير المسلم ، إذ كان ذلك أشبه بقديفة انطلقت من تونس فسمع دُويها في الأزهر ، حيث خرج المتكلمون بلسانه معبرين عن كون دعوة السبسي تتصادم مع الشريعة الإسلامية ، أمر مضحك حقا ، ففي أي شيء تتلاقى أصلا هذه الشريعة مع الثقافة الحقوقية لهذا الزمن ؟ لذلك أخرست تونس الأزهر بأن المسألة شأن داخلي لا وصاية لأحد في تقييمه إلا للتونسيين .
تذكرني نزقية مشايخ الأزهر ، بمثيلتها عند علماء المملكة العربية السعودية حينما ألغت الأمم المتحدة العبودية و الرق و اعتبرته جريمة ، طلع علينا حينها مشايخ المملكة صادحين بأن ذلك يتناقض مع تعاليم الشريعة الإسلامية ، فلو اتبعنا قول هؤلاء لأضحى في كل قبيلة و مدينة سوق نخاسة يباع فيه البشر على سنة الله و رسوله ، قياسا على ذلك فما مظاهر الإعتداء على النساء و استرخاصهم لأنفسهم و من قبل الرجال ، و انقراض المساواة بينهما في كل شيء -بما في ذلك النصيب في الميراث- إلا نتيجة لاتباع المشايخ في تصوراتهم المتقادمة المعششة في القرن الأول الهجري ، و أقوالهم المتدثرة بعباءة الذكورية و الباطرياركية ، فمعارضة مؤسسات دينية مثل الأزهر لهكذا دعوات تحريرية ، تأتي خشية عدوى الحقوق و المساواة بين النساء و الرجال التي قد تضرب المنطقة ، فُتخرج المرأة من تحت سيطرة الأسر المجتمعي و سطوة الموروثات البالية فتكسد بضاعة و تجارة الدين المُسيس بشكل عام .
من زاوية أخرى ، ألم يرى ففقهائنا الكرام التصادم مع الشريعة إلا في الدعوة إلى المساواة في الإرث ، أليس نظام البيعة و الخلافة و طبيعة الدولة التوسعية (الإمبراطورية) و الحدود الجزرية و نظام الجزية و الرق و الجواري و جهاد الطلب و نشر الإسلام بالغزوات و شروط التعامل مع أهل الذمة و غيره من الشريعة الإسلام ؟ أين يطبق هذا اليوم ؟ أين مشايخنا من ذلك ؟ لو كان هذا لوحده فكفى به دليلا و برهانا على كون الشريعة صارت شيءا من التاريخ لا يصلح لهذا الزمن ، بل يتحتم إقرار قوانين وضعية تؤطر ما هو مشترك بين المواطنين .
نعود إلى مشايخنا لنسألهم أين أنتم من ظلم و جور الحكام على الرعية ، أينكم من الدعوة إلى الجهاد في بلاد المسلمين ، تدميرها و إثارة النعرات الطائفية بين أهلها ، أ و هل هذا يتطابق مع الشريعة ؟ أ و هل في الشريعة انتقاء ؟ لكان إذا كنتم تسكتون على شيء و تزمجرون على آخر باسم الشريعة ، فل تحتفضوا بقليل ماء في وجوهكم و تلزموا الصمت إزاء من يريد أن يخرج عن جبتكم البالية .
أما المثير من هذا كله ، هو أن تجد عاميا - شابا أو كهلا - لا يمتلك من الدين إلى الصفة ، لا يصلي و لا يعرف سبيلا إلى الوضوء الصحيح ، يتعاطى المخدرات و يشرب الخمر و مستعيرا لبيت بالربى ، هتاك لأعراض الناس و خائض في أسرارهم و خصوصياتهم ، فحاش و ساب للغير ، لا أخلاق لا أدب لا سيرة حسنة له ، ثم ما يلبث أن يسمع دعوة للإستيقاض من الغفوة إلا و يسارع للإحتجاج بأنها دعوة تناقض الدين و الشريعة ، يا سلام !
هذا النوع من الناس في الأمة العربية و الإسلامية هو الإبن الشرعي للخطاب المشائخي الذي ينتج و يعيد إنتاج مسلمين مخصيي التفكير ، عناوين للتناقض المتسق أو الإتساق المتناقض .
أخيرا لا يمكن إلا القبض على يد تونس و تشجيعها على المضي قدما نحو التقدم و إقرار الحريات و الحقوق ، و كما تنبيهها إلى عدم الإكثراث إلى أصوات الداعين إلى الإنبطاح ، و تجاهل من يتسبب في الشد إلى الوراء ، دون أن ننسى مطالبة المشايخ عن الكف عن الشغب الذي سيجعل التاريخ يلعنهم كآلات بشرية كانت و لا زالت كابحة لارتقاء هذه الشعوب نحو الأفضل ، فحتى إذا أرادوا التقوقع في موروثهم لهم ذلك ، لكن دون فرض رئاهم القروسطية على من يتطلع للحرية و الإزدهار و الرفاهية ، فمصيبة الأمة في مشايخها الذين لا يتقدمون إلا في السن ، و لا يصنعون شيءا غير الإستنكار و التوعد و إسقاط الناس في نعرات بعضهم بعضا ، حتى أضحت بلاد المسلمين خربة ، فذلك لا ضير إن كان المشايخ يقودون الأمة و ليس المفكرين و الحكماء و الفلاسفة .