انعتاق - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

انعتاق

قصة قصيرة

  نشر في 11 يوليوز 2016 .

انعتاق

صدر الحكم بالسجن سبع سنوات، سبع سنوات بعيدة عن بيتي، عن أهلي وحضن زوجي الذي عشت معه صباً ظننته لن يشيخ، سبع سنوات سأكون فيها غريبة عن كل شيء، حتى عن ذاتي ، فخلف القضبان ما نحن إلا أجساد يبثونها حقدهم الأسود، لا يفرقون بين رجل وامرأة، هناك فقط تعيش النساء المساواة التي تطالب بها منذ دهر ويزيد مع نصفها الآخر، فيصبحان نصفاً واحداً تنقصه الروح التي ظلت عالقة ما ببن حدود الحياة والزنزانة.

فربما كانت غرفة التعذيب واحدة، تمتزج فيها دماؤنا، تلتصق بها جلودنا المسلوخة على أطراف السوط اللئيم، هناك فقط تتحد كل الفصول في فصل واحد اسمه الجحيم، فلا زهر ينبت، ولا سماء تمطر، ولا شمس تخرج من مخبئها تنثر النور، ويتبدل الكلام صرخات وتأوهات وبكاء مكتوم.

كيف خُلق كل هذا الحقد في النفس البشرية، ومتى بدأ؟ أتراه ابتدأ مع ابليس حين دس حقده في التفاحة التي أخرجت آدم من الجنة؟ أم كان يوم استباح الأخ دم أخيه فأورثه أبناءه فيما بعد؟ كلنا يخشى الوحوش ولا ندرك أننا حين نتجرد من آدميتنا نتحول لوحوش ضارية غايتها الفتك بالآخر فقط، فتلك تقتل لتعيش، أما نحن فلم نعذب، ونقتل، ألنعيش أيضاً؟!! تباً.. كيف نستطيع مواصلة الحياة وقد دُسنا، وأحرقنا، وانتزعنا أرواح الكثيرين دون وجه حق، علمتني جدران الزنزانة الرمادية أن الإنسان هو الغول الذي طالما حدثتنا الجدة عنه في الصغر.

أتدرين فيروز !! لن أحدثك عن تلك السنوات، فالصورة من حكايا السابقين واضحة، أو ربما لأننا مع مضي الأيام في المعتقل ننتزع ذاكرتنا حتى لا نزداد عذاباً فوق عذاب، والأحلام نقمعها، إلى أن نعود للديار، ظناً منا بأننا سنعود لحياة ما قبل الاعتقال، فننسى ما كان، ونمارس الأحلام التي خبأناها في شقوق الغرف الصغيرة لندرك فيما بعد أن كل شيءٍ قد تغير، حتى نحن ..

عند الأسوار، كان الاحتفال بنا عظيماً ما بين الأهل والصحافة وبعض القنوات التي سجلت الحدث وكأنه انتصارٌ تاريخي، وحين وصلت لحجرتي بعد عناء العناقات وترهات الترحيب، اقتربت من مرآتي، نظرت إلى صورتي المعكوسة فيها، فلم أجدني، وسمعتك من داخل المرآة تغنّيني:يا طير يا طاير على اطراف الدني

لو فيك تحكي للحبايب شو بني يا طير

روح اسألن ع الي وليفو مش معو

مجروح بجروح الهوى شو بينفعوا

موجوع ما بيقول ع الي بيوجعو

وتعن عبالو ليالي الولدنة يا طير

واشتقت لذلك العمر الذي مضى، ولامرأة كانت تسكن داخلي، تنمو على شفتيها الابتسامات، تتراقص رغم الحرب؛ في قلبها الأمنيات، فأمسكت فرشاتي، سرحت خصلات شعري التي تقصفت كما عمري، وأمسكت أحمر الشفاه ألون به شفتاي التي صارت بلون كانون، لكني أصبت بالذعر حين رأيت حمرته القانية التي تشبه لون دمائنا النازفة على جدران غرف التعذيب ، فهشمته قبل أن تعود ذاكرتي للذاكرة ، وجلست باكية على أطراف سريري ،تحسسته، احتضنت وسادتي القديمة، لكنها لم تعرفني هي أيضاً .

مضت الأيام الأولى مابين استقبال المهنئين، وسهرات الأهل المتعطشين لسماع حكايات السجن، رغم أنها كانت محفورة على جسدي بأدق تفاصيلها، ولا حاجة للسان للنطق بها .

كنت أنتظر انتهاء تلك الاجتماعات الحمقاء كل ليلة منهكة، متلهفة أن أضع رأسي على صدره كما اعتدت في الماضي الجميل، وبداخلي حاجة إليه ليعيد إليَّ الشعور بأني أنثى مازال هنالك رجل يحمل الحب لها، ينسيها وحشة السنوات التي عاشتها هناك، لكنه في كل مرةٍ تذرع بأني مازلت بحاجة للراحة والسكينة، فتركني ووحدتي ودموعي، وصراخ صمتي، ليغفو هو في الحجرة المجاورة وأبقى أنا والبرد ينخر الروح بداخلي.

حائط اسمنتي يفصلني عنه، يشبه تلك المسافة التي كانت ما بيني وبينه حين كنت في الأسر، كان يبتغي راحتي، ولا يعلم أنها بين يديه، كنت أرى الأسئلة كما موج البحر في عينيه دون أن يتكلم، فأحترق أكثر، وأهوي لقاع ذكرياتي السحيقة لتطفو صورة كل ماحدث من جديد،

كم من المرات استباحوا جسدك العاري بنظراتهم ؟

كم من المرات مارسوا ذكورتهم عليه ؟؟

لكنه لم يسأل كم من المرات جلدوه، أحرقوه، داسته عفونة أقدامهم؟ لم يسأل كم من المرات صرخت عظامي المسحوقة، وكم من المرات حفرت اسمه على الجدران، ورسمت طيفه لأهرع إلى خيال حضنه كلما أوجعني البعد. بل سأل كشرقي اعتاد أن يقف على المنابر يشيد ببطولات نساء الوطن، ليعود بعدها لأصوله البدائية تأخذه بعيداً عني، وظلت عجلة الأيام تمضي وذلك الجدار يكبر أكثر فأكثر، لا بيني وبينه فقط، إنما بيني وبين العالم أجمع. فحتى الأهل ابتعدوا وكأني الطاعون قادم إليهم، وكأني كنت في سنوات أسري أسطورة تناثرت شظاياها حين فُك قيدها.

كثيراً ما أتساءل؛ متى خُلقت تلك المعتقدات فينا،فجعلت من الرجل قديسًا لا وزر عليه، وجعلت الأنثى قطعة لحم تنهشها الكلاب كلما حاولت تخطي عتبة الدار، لقد كنا كلنا مقاومين أبطال إلى أن سقطت في أيدي من سرقوا الوطن وسرقوا عمري الماضي والآتي معه، فحولوني لمسخ لا هو رجل ولا هو أنثى، جعلوا مني مخلوقًا مجرداً من المشاعر إلا غريزة البقاء على قيد حياة لا تُشبه الحياة، فانزويت بنفسي عن الجميع كما كنت أفعل في زنزانتي حين يَمِنّ السجان بلحظات ألتقط فيها أنفاسي فأحاكي صورهم الموشومة على جدار قلبي، حتى جاءني يوماً حاملاً صندوقاً تفوح منه رائحة غريبة مرت بي من قبل ألف ألف مرة، لكنني استنشقتها هذه المرة بصدر مفتوح، وقلب ينتظر الحياة أن تطرق بابه من جديد.

اقترب مني وابتسامة على محياه.قدم إليّ الصندوق هامساً أن قومي وتجهزي فالليلة عرس أنت فيه العروس، شعرت بروحي تولد من جديد، رأيت صباي يورد كأزهار اللوز، ووجنتاي تتلون بحمرة الدحنون في نيسان الجميل، عدت أنثى في لحظة، بعد أن كنت نسياً حتى النسيان ماعاد يذكره .

نفضت عني الحزن وتجهزت كعروس عذراء في عمر الزهور، احتضنتني أمي والدموع تترقق في مقلتيها، فتذكرت يوم زفافي وظننتها تذكرته معي فابتسمت وعانقتها بقوة وكأنه العناق الأخير، ودعتني أمي وغابت خلف باب حجرتي، لكنها لم تكن وحدها، كنت أسمع هسيس نساء أخريات كأنهن ينتظرن الراية البيضاء مطرزة بشرف العائلة العريقة، كانت لحظات تشبه لحظات زفافي منذ أعوام، نفس المنظر يتكرر لكن الرائحة تشبه رائحة شيء آخر غير بخور العرس، ثم جاءني كما فارس من فرسان الحكايات القديمة، اقترب مني يضمني إليه، واقتربت منه مدفوعة بشوقي اللاهث للحياة، شدني إلى صدره وأغمضت عيناي ملقية برأسي على كتفه بعد أن أهداني في ليلة عرسي طعنة من خنجره في ظهري، معلنًا للنسوة الواقفات خلف الباب أن شرف العائلة ما زال بخير.


  • 2

   نشر في 11 يوليوز 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !


مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا