إنسان جذل بلا إنسانيته - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

إنسان جذل بلا إنسانيته

  نشر في 04 ماي 2021  وآخر تعديل بتاريخ 29 أبريل 2023 .

   تبدو لي الحياة بائسة، لكنني أعيشها جذِلا؛ أقضي النهار تلو الآخر مغتبطا بأشعة الشمس وهي تتسلّل من النافذة متخللة أزهار المزهرية ليلتصق ما تبقى من أشعتها المنفلتة على الرف العلوي للمكتبة خلف المزهرية.. لا أخرج إلا ليلا ولِماماً، إذ لا شيء يدفعني لذلك، بالإضافة إلى أن هنالك الكثير من البشر في الخارج، وهم قابلون للاحتكاك. وذلك يخلّف -حال خروجي- مرارة وندما كبيرين في داخلي حين أعود إلى المنزل. فهؤلاء البشر غير صالحين للاحتكاك، رغم قابليتهم لذلك...

نعم! إنني أرغب في البشر أحيانا، أو -بصيغة أدق- في نوع معين من البشر، لكنني أعيش بمنأىً عنهم.. أنظر إليهم من بعيد ومن فوق، من النوافذ ومن السطح؛ فيبدون لي كحشرات زاحفة، وهم جميلون كذلك. لكن عند الاحتكاك بهم... آاه! لا أريد حتى أن أفكّر في ذلك.

كما أن لدي صديقا إنسانيا، تصوّر! إنساني ويحب نيتشه! ألقاه من فصل لآخر، يزورني هو في الأغلب، أربع مرات في السنة؛ ويظل يغدق علي بكلماته وثرثرته طوال ساعتين أو أكثر دونما توقف.. أجدني مُتخماً قدّامه، على وشك الغثيان أمام شروحاته المسهبة مُفرطة اللّينة والتّلطّف، ولا مُتفاعلا أمام حجَجه الإنسانية الخرِعة والمبتذلة تلك... "لم يفهموا نيتشه يا صديقي لم يفهموه، لم يفهمه أحد بعد، بل ولن يفهمه أحد..." يظل يردّد لي بأسى زائف وإدراك مصطنع وهو يُصعّد من نغمة كلامه.

لكنني أحب وجوده أمامي: تقاسيم وجهه وهو يفصّل أفكاره، سؤاله اللازمة ذاك "أفهمتني!" الذي يسألني إياه ليتأكّد من أنني ما زلت معه على الخط، لغته الإنسانية اللّا مُعتَبَرة بالنسبة لي، وابتسامته تلك التي تنبثق حين أقدّم له اتفاقي على بعض أقواله... يُبهجني حضوره الإنساني ذاك. وأنا أتامّل وجهه أفكّر مدرِكا: "إنه إنسان! وإنني قادر على لمسه ومصافحته ومداعبته حتى... يا لها من حديقة!"

ورغم جلوسي معه، وحديثه إياي وتدبّري إياه، إلا انني لا أحتك معه.. لا أعطيه تصوّراتي وأفكاري قط (إذ لا فائدة من ذلك، فهو إنسان بعد كل شيء وليس ورقة) فقط أُحسّسه بأنني أتفهّم تصوّراته، وذلك يمنحه حافزا وحيوية أكبر فيتحمس ويُقدِم دون تحفّظات، بينما أظل أنا أشاهده وأشاهده.. أتفحّصه وأتأمّله.. وهو يسترسل ويسترسل.. إلى أن ينتهي. لا أنهي جلستي معه، فلستُ بالمبادِر، أتركه لِينهيها بنفسه.. فهو إنسان في الأخير، ودائما ما يسأم وسَيسأم وسَتعييه ثرثرته وتُقهقره، لتجعله في النهاية يبدو صغيراً؛ قزما نطناطاً أمام نفسه.

.. أَو َتعلم؟! إنني أرغب حقا في الخروج، في المجانسة والاحتكاك، في التّعلّق وفي الآخر... لكن ما نهاية كل ذلك؟ أفكّر.. وأفكّر. تدفعني النهاية دائما لِلّابداية. لكنني أفكّر، وفي التفكير خيال وتخيّل، خيال أُبحر خضمه وأسافر خلاله، منه، وإليه إلى النهاية، وإلى بداية نهاية أخرى أشهَد خاتمتها. فأنا أعيش النهاية بذلك بطريقة أو بأخرى... فما الحاجة إذن إلى الواقع وبدايته ونهايتها؟ أي متعة وجديد في ذلك؟ " الأحاسيس." أكاد أسمع أحدهم يقول "لكل تجربة أحاسيسها وإحساساتها" يقول صديقي الإنسان. لكنها مبلَّدة لدي، بلَّدها التّخييل، أو بالأحرى أفرغها من مستجداتها ومما يمكن أن تحويه. فهو -أي الخيال- أسبق من الواقع وتجاربه، له أحداثه وتجاربه الخاصة الكفيلة بإسقاط كل تطلّع واقعي وهدف. ومع ذلك، فثمة أوقات يعترضني الواقع فيها عن الاستطراد والاستفاضة والمبالغة في التخييل؛ إذ ما الجدوى من ذلك!- يستنكر علي.

التخيّل مقعِد، وقد عِشتُ مقعداً، وتكيفتُ مع ذلك؛ فلِمَ الخروج، والعمل، والتجانس والاحتكاك، والرغبة، والبحث عن الرفقة، والعلاقات... آاه! إنني بائس تَعس. لكنني جَذل لذلك بالضبط ومغتبط به.. وأحسب أن جذلي هذا وغبطتي هذه أرفع شأنا من كل نشوة ومن كل فرح. بل وأحسبني، أنا التخيُّلي المُقعَد، أسمى قدرا من كل عاملٍ وفاعل وناجح؛ وها أَنذَا، أخرج -حين أخرج- منتصباً بقامتي، ناظراً إلى الآخرين من علٍ.. كما أن طولي يسمح لي، في الكثير من الأحوال، بأن أمارس تفوقي المعنوي في شكل مادي أيضا.

لعل الشارع نفسه مكتوب على مطلعه: "للإنسانيين فقط"، ولذلك لا يسمحون بارتكاب الجرائم والصفاقات فيه، ويساعدون فيه بعضهم البعض، وقد يساعدونني أنا أيضا رغم أنفي إن تطلب الأمر ذلك.. لكنهم لا يعرفونني؛ يرون عينيّ، فمي، أنفي، رجليّ وأذنيّ فيقولون: هذا شريكنا، أخونا في الإنسانية. لا يعرفون أنني، أنا نفسي، وإن كنتُ إنسانا إلا أنني متجرّد من الشّرط الإنساني، خالٍ منه، أو.. وَلِأقول ذلك بعبارة أبسط: لستُ إنسانيا.          


  • 1

   نشر في 04 ماي 2021  وآخر تعديل بتاريخ 29 أبريل 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا