النظرة الذاتية في تقييم الآخرين - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

النظرة الذاتية في تقييم الآخرين

  نشر في 10 يوليوز 2018 .

كتب المقال: أحمد بن جعفر الصارمي

مقدمة:

التقييم هو أمر في غاية الحساسية والخطورة وهو في ذات الوقت لا يخلو من أن يدفع بالبعض لإرتكاب أخطاء فادحة في تقدير القدرات الذاتية للآخرين من منطلق المقارنات المنطقية الفاشلة، على أن التقييم لا بد منه فهو أساسي في مختلف البيئات العلمية والعملية وبه يتم اكتشاف المهارات الحقيقية والتي بمعرفتها يتم تحديد موقع ومستوى ووضع الأشخاص كل بحسب ما آتاه الله من قدرات، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تتشابه هذه القدرات والمهارات والمواهب لدى مجموعة أو فئة معينة بنسبة تطابق (100%) وإلا لكن الجميع يعملون في نفس المجال ويقومون بنفس الأعمال، فحكمة الله اقتضت بأن يكون هناك تفاوت في المواهب بين الناس لكي يكون هناك مجتمع حقيقي فيه أشخاص يعملون كل في مجاله وبالتالي يستفيد الشخص من مهارات الآخرين ويفيد الآخرين بمهاراته وعمله الذي يقوم به.

التقييم و الحكم على الآخرين من منظور الذاتية:

تقول الدكتورة باربرا ماركوي بأن الحكم على شخص ما لا يحدد من هو بل يحدد هوية من اصدر الحكم، وكما يقال في المثل الدارج (كل يرى الناس بعين طبعه) وهذه حقيقة في علم النفس، فكل شخص له مهارات وقدرات وتوجهات نابعة من داخل شخصيته ومكتسبة من البيئة المحيطة التي تأثر بها مع الزمن، وبعض المهارات تستغرق وقت وعمل شاق من أجل أن يصل فيها الشخص إلى مراحل متقدمة، فالعداء الذي اعتاد الركض باستمرار وتمرس فيه بحيث استطاع أن يبرمج أنفاسه ونبضات قلبه لكي يحتمل العدو لمسافات طويلة وبوقت محدود، لا يمكن له أن يعتقد بأن الجميع يستطيع أن يفعل ما يفعله هو بكل سهولة، هذه الطريقة في الحكم على الآخرين فيها من الأنانية والمقايسة اللامنطقية ما يخالف الفطرة السليمة، فلو أراد شخص اعتاد أن يمارس رياضة المشي أن يتسابق مع العداء المتمرس فلا شك بأن كل المعطيات العقلية تشير بأن العداء سيفوز بالسباق، باستثناء القصة الكرتونية الشهيرة عن سباق جرى بين سلحفاة وأرنب مغرور استطاعت فيه السلحفاة من الفوز ولكن كيف فازت بالإمكان البحث عن القصة ومتابعتها، غير أننا في واقعنا لا يمكن لنا أن نستند على الأفلام الكرتونية في تقييم الآخرين.

وقس على ذلك أصحاب المهارات المختلفة فلا يمكن لمبرمج تطبيقات إلكترونية أن يسخر من الآخرين كونهم لا يستطيعون عمل تطبيق إلكتروني بذات السهولة التي يبرمج بها هو، كما يستحيل لمدرس اللغة العربية أن يهندس ويرسم خرائط للمباني كما يفعل المهندس المختص والذي تعلم قوانين الهندسة والقياسات الدقيقة واستغرق في دراستها سنوات.

وقد يتحجج البعض بأن هناك أشخاص خارقون قادرون على فعل كل شيء فهم يجيدون شتى العلوم ويبحرون بين الكتب ليعرفوا كل جديد، ولكن الحقيقة هي أن كل شخص يوجد لديه شيء يميزه وعمل يتقنه أكثر من أي شيء آخر، وأن قدرته العقلية مهما بلغت فهي تظل محدودة، كما أن طبيعة العقل البشري وبحسب رأي بعض علماء النفس وبعض الفلاسفة هي أن العقل إذا ما ركز على علم أو عمل معين يصعب عليه أن يتقن أو يركز على عمل آخر بنفس الدقة.

وفي ذلك يقول الغزالي: "والعلوم العقلية تنقسم إلى دنيوية و أخروية. فالدنيوية كعلم الطب والحساب والهندسة والنجوم وسائر الحرف والصناعات، و الأخروية كعلم أحوال القلب وآفات الأعمال والعلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله. وهما علمان متباينان. أعني أن من صرف عنايته إلى أحدهما حتى تعمق فيه، قصرت بصيرته عن الآخر على الأكثر... ولذلك ترى الأكياس في أمور الدنيا وفي علم الطب والحساب والهندسة والفلسفة، جهّلا في أكثر علوم الآخرة. لأن قوة العقل لا تفي بالأمرين جميعا في الغالب. فيكون مانعاً من الكمال في الثاني...".

ما يجب الامتناع عنه في الحكم على الآخرين:

دائما ما تحكي الخبيرة النفسية تارا براس هذه القصة وهي: "تخيل نفسك تمشي في الغابة وفجأة شاهدت كلبًا صغيرًا مظهره جميل، وعند اقترابك منه لمداعبته كشر الكلب عن أنيابه وأراد أن يهجم عليك، عندها يتولد لديك شعور بالغضب والحزن تجاه الكلب، حيث قابلته بمودة وقابلك بغضاضة، وفجأة تهب ريح فتتطاير الأوراق المحيطة بقدم الكلب فترا قدم الكلب وقد دخلت في فخ حديدي، حالا سوف تشعر بالتعاطف مع الكلب وتدرك أن تصرفه كان بسبب الفخ والألم الذي سببه له".

لذلك يجب قبل اصدار الأحكام في تقييم الأشخاص معرفة الظروف التي يمرون بها قبل أن تظلمهم بحكمك الظاهري لهم، فقد ترى شخص مسرع وتحكم عليه بأنه متهور ويسوق برعونة في حين أنه طبيب تم الاتصال به لإنقاذ حياة شخص تعرض لانتكاسة صحية تستعدي تدخل فوري وعاجل، فأنت لو عرفت الحقيقة لتعاطفت معه وأفسحت له المجال، لذلك لا يجب اصدار احكام مستعجلة على أي شخص دون احاطة تامة بكافة الظروف حتى لا تقع في سوء الظن بالآخرين.

الدكتورة باربرا ماركوي ذكرت في مقال لها عشرة أسباب تجنبنا من التسرع في الحكم على الآخرين وهي مختصرة على النحو التالي:

1. عدم لوم النفس: فالإنسان متشبث بالحياة وعنده شعوره بأي تهديد خارجي عندها يدخل في حالة الدفاع لا إراديًا، لذلك يجب علينا أن نتأنى قبل اتخاذ أي رد فعل مباشر تجاه تهديد معين.

2. كن ذا عقل متفتح ومتسامح: لا ترد مباشرة حتى على شخص أخطأ في حقك، فأنت مازلت تجهل السبب وراء تصرفه أو سلوكه تجاهك، أعلم أن كلامك وردك لا رجعة فيه بعد أن يصدر منك، وكن ايجابياً وحاول أن تجد المبررات.

3. اعادة تقييم الشخصية: عندما يتعارض شخص مع أفكارنا أو يضغط علينا أو يجعل حياتنا صعبة فتأكد أن المشكلة لا تكمن بك أنت بل هي في الغالب بسبب ما يمر به الشخص الآخر وما يعانيه، الجميع يعاني من شيء ما ولكن هناك تفاوت بين الناس في مدى مقدرتهم على إخفاء معاناتهم.

4. ابحث عن الأشياء الايجابية: يحتاج هذا الأمر إلى ممارسة فطبيعة الأشخاص البحث عن سلبيات الآخرين، ولكن لو حاولت البحث عن أمور جيدة في الآخرين فلا شك بأنك ستعثر عليها.

5. كرر عبارة "مثلي تماماً": عندما تريد انتقاد شخص ما دائما طبق هذا القانون، هذا الشخص يوجد لديه عائلة يحبها "مثلي تماماً"، هذا الشخص يعاني من ظروف معينة قاسية "مثلي تماماً"، والأهم أن هذا الشخص غير معصوم من الخطأ "مثلي تماماً".

6. إعادة برمجة: عندما يقوم شخص بعمل لا تحبه تذكر دائمًا بأن هذا الشخص يؤدي عمله بطريقة مختلفة عن طريقتك، أو أن هذا الشخص ملتزم بجدول زمني وعملي يختلف عن جدولك، أو أنه يتبع طريقة لحل مشاكله تختلف عن طريقتك، وتذكر مقولة دالاي لاما "يتبع الناس طرق مختلفة لتحقيق أهدافهم وسعادتهم، وإذا كانت طرقهم مختلفة عن طريقتك فهذا لا يعني أنهم تائهون أو مخطئون".

7. أنظر إلى سلوك الشخص: في بعض الأحيان نحكم على أشخاص بأعمال نحن نقوم بها، الكمال لله ولا يوجد إنسان كامل في تصرفاته وسلوكه، فقبل أن تصرخ على شخص يسوق سيارته بشكل رعن أسأل هل سبق لك وأن سقت سيارتك برعونة بالطبع فعلت.

8. ثقف نفسك: عندما يقوم شخص بإزعاجك بسبب سوء سلوكه تذكر بأن هناك أشخاص يعانون من عقد نفسية وقد يكون هذا الشخص أحدهم، دائما ضع في اعتبارك بأن الأمر غير متعلق بك وإنما هو مشكلة في الشخص الآخر، يقول ألبرت إنشتاين: "الجميع عبقري، ولكن إذا حكمت على سمكة بالغباء بسبب عدم مقدرتها على تسلق شجرة، ستظل السمكة غبية إلى الأبد"

9. امنح الآخرين فائدة الشك: ضع في اعتبارك بأنه لا يوجد شخص يستيقظ في الصباح ويقول بأنني سوف أكون وقحا هذا اليوم، فالكل يتصرف بموجب الظروف المحيطة به وبحسب مقدرته ومهارته، قد يحسن التصرف وينجح ويستفيد ويفيد وقد يخطئ أحيانا فيتعلم من تجربته لكي لا يقع في الخطأ مرة أخرى.

10. اشعر بالرضا عن نفسك: دائمًا كن راضيًا بما قسم الله لك وشاكرًا لنعم الله عليك، كن راضيًا عن شكلك عندها لن تسخر من أشكال الآخرين، كن راضيًا عن خلقك عندها لن تستهزئ بأخلاق الآخرين، كن راضيًا عن بدنك عندها لن تضحك على نحافة أو سمنة الآخرين.

قد تكون هذه أهم الأسباب في عدم التسرع بل وحتى في التوقف نهائيا عن الحكم على الآخرين وانتقادهم أو انتقاد سلوكياتهم وأشكالهم وأحوالهم، فلكل إنسان عيوب ونواقص لو انشغل بها لكفته عن الإنشغال بعيوب الآخرين، والإنسان مطالب بحسن الظن وعدم التسرع في الحكم على أي شخص مهما كانت تصرفاته.

وقد ورد عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه."

لذلك يجب الكف عن انتقاد الآخرين أو نشر أي شيء يتعلق بسلوك الآخرين من أجل التشمت أو السخرية.

طرق التقييم الصحيحة:

قبل التطرق إلى أراء الباحثين في طرق التقييم العملية المتبعة يجب معرفة أن أحد أهم عوامل نجاح التقييم هو الشخص الذي يقوم بالتقييم، يقول فوندر بأن المقيم أو المحكم يجب أن يتصف بصفات متعددة من أهمها أن يكون على دراية وإحاطة تامة بكيفية ارتباط الشخصية بالسلوك ويستحسن أن يكون قد قرأ أو اطلع على العديد من كتب علم النفس والإدارة، ولديه مستويات عالية من القدرة المعرفية والاطلاع والذكاء العام، كما أنه من المستحسن أن يكون المقيم أو المحكم مطلع على كافة المعلومات المتعلقة بالأشخاص المطلوبين والمستويات التي يجب أن تكون متوفرة لديهم، ومن ضمن الشروط الواجب توافرها في المقيم أو المحكم أن لا يحكم على الأشخاص من منطلق شخصي أو من خلال مقارنة المتقدمين للتقييم بصفاته وقدراته الشخصية.

ومن أجل الحصول على تقييم دقيق فإنه يستحسن اتباع أحد نماذج التقييم المتبعة من قبل المؤسسات كل مؤسسة بحسب طبيعة عملها، ومن بين نماذج التقييم المشهور يوجد نموذج (RAM) وهو اختصار ل

Realistic Accuracy Model

Realistic بمعنى واقعي

Accuracy بمعنى دقيق

وهو نموذج يدمج بين الواقعية والدقة في تقييم الأشخاص، وبالنسبة لهذا النموذج فإنه يتبع أربع مراحل من أجل تحقيق الدقة التامة في التقييم وهي:

المرحلة الأولى (Relevance): يجب أن يقوم المتقدم للتقييم بعمل سلوكي له صلة بالسمات الأساسية المطلوبة من قبل المقيم بحيث تعكس تطابق إلى مستوى معين، ويمكن تحقيق ذلك من خلال طرح مجموعة من الأسئلة ومقارنة الأجوبة ومدى صلتها بطبيعة عمل المؤسسة.

المرحلة الثانية (Availability): يجب أن يتقدم المطلوب للتقييم أمام المقيم شكلياً أو صوتياً بحسب ما هو مطلوب، فإذا كان مطلوب لتقديم امتحان فيجب عليه الحضور إلى مكان الإمتحان شخصيًا أو أن يؤدي الإمتحان عبر الأنترنت أو طريقة متفق عليها.

المرحلة الثالثة (Detection): يجب على المقيم أن يكشف ويعرف كل النقاط ذات الصلة بالتقييم المطلوب ويدونها، ويستحسن وضع درجات بمدى من حد أدنى إلى حد أعلى.

المرحلة الرابعة (Utilization): يجب على المقيم أن يستخدم كل المراحل الثلاث المذكورة أعلاه في تحديد وتقييم المتقدم، وبعدها تفرز هذه المعلومات وتحلل ويتم على أثرها انتقاء المتقدمين.

وتوجد هناك نماذج أخرى للتقييم يمكن استخدامها أو البحث عنها كما يمكن لأي مقيم أو محكم أن يصنع نموذج تقييمي خاص به بحسب طبيعة عمل مؤسسته وحسب الشروط التي يطلبها في المتقدمين للتقييم.

عوامل ومؤشرات نجاح التقييم:

أهم عامل لنجاح التقييم وضمان حقوق المطلوبين للتقييم هو ضرورة وجود معايير متفق عليها من قبل كافة المقيمين أو المحكمين وأن يكون هناك معايير دقيقة لتقدير المتقدمين لضمان اختيار الأفضل والأنسب، كما يجب التركيز على وجود مراحل مختلفة للتقييم بحيث تعطى كل مرحلة نقاط معينة وبعد ذلك يحسب إجمالي النقاط المحصلة لإختيار الأنسب، وباستخدام هذه الطريقة يضمن المتقدم استيفاء كافة الشروط فهو لو حصل على نقاط ضعيفة في مرحلة معينة بإمكانه التعويض في مرحلة أخرى يتقنها ويجيدها.

ولا يجب بأي شكل من الأشكال أن يرتكز الإختيار على الأشخاص الذين يجتازون كافة المراحل بل يمكن استغلال وجود مراحل مختلفة للتقييم بتقسيم المتقدمين لمجموعات ومن ثم فرزهم بحسب احتياجات المؤسسة كل حسب تفوقه وبحسب قدراته ومهاراته.

وكما سبق ذكره لا يوجد شخص يتقن كل شيء ولهذا وجدت التخصصية والتخصصات وبهذا يمكن الاستفادة القصوى من كافة المهارات العلمية والعملية لدى المتقدمين، إن التركيز على ناحية معينة واعتبارها أساس لإجتياز المتقدم للتقييم يعتبر فشل ذريع بحد ذاته.

الخاتمة:

خلاصة هذا المقال هي أنه لا يمكن أن يكون هناك نجاح في التقييم دون وجود منهجية في التقييم قائمة على استخدام نماذج تقييمية معتمدة، مما يضمن وجود عدالة وصدق في التقييم دون محاباة لأحد.

كما يجب على كل إنسان أن يحذر ويتجنب سرعة الحكم على الآخرين بسبب تصرفات هو يجهل مسبباتها النفسية والمادية، لذلك على الإنسان أن يحكم على الناس من منطلق كيف يحب أن يراه الجميع.

المراجع:

Funder DC. Personality judgment: A realistic approach to person perception. San Diego, CA: Academic Press; 1999.

Markway, Barbara., "10 Reasons to Stop Judging People", article, (Oct 24, 2014), (https://www.psychologytoday.com/us/blog/living-the-questions/201410/10-reasons-stop-judging-people).

سليمان دنيا، الحقيقة في نظر الغزالي، ص 206-207


  • 1

   نشر في 10 يوليوز 2018 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا