في البهو المخصص للإنتظار ، كان يقلب عينيه بين المسافرين ، و يرمق الطائرة الرابضة في ساحة المطار كلما سنحت له الفرصة ، و كأنه كان يحاول أن يرتشف كل النظرات من بلده قبل أن يستقل الطائرة ، كان المسافرون كأطفال صغار ، ينتظرون الحصول على لعبة طالما رمقوها و انتظروها بشغف ، و كان هو ، كالثمل ، لا يدري فيم يفكر ، و كيف يفكر أصلا ، في ظل الخوف من هذه التجربة الجديدة التي ستحمله فوق السحاب لأول مرة ! كان الوقت لا يزال مبكرا نسبيا ، و يلزمه الإنتظار ساعة إلا ربع في قاعة الإنتظار ، الشيء الذي زاد من تبرمه ، فانتظار وقوه الشيء ، أسوأ من وصوله ، خاصة إذا كان مزعجا .
حان وقت صلاة الظهر ، و آثر على نفسه إلا أن يصليها هناك ، أخرج سجادته التي تأبطها في حقيبة ظهره ، هي و مصحف متوسط الحجم أهداه له صديق طفولته قبل توديعه ، ثم شرع في تأدية الصلاة ! لم يبال بأنظار الناس ، فقط دخل في صلاته ، و حاول قدر الإمكان أن يخشع فيها ، كونه لا يعرف هل سينزل من السماء جسدا واحدا أم أشلاء ! و من يدري !! ألي من قضوا في حوادث الطيران كانوا قبل صعودهم الطائرة يخططون لما بعد سفرهم ، و لم يكن الموت ليخلد لهم في بال ؟ لم يبال بأنظار الناس ، نصارى هم أو مغابرة ، هؤلاء الذين سيستقلون معه نفس الطائرة ، لا بد أنهم يطرحون في أنفسهم تساؤلات شتى حول هذا المغربي ذو التاسعة عشر عاما ، الذي قام و اتخذ مصلاة أمامهم ، و العالم للتو خارجا كان من ضربات غيرت وجهه ، و صفحات خطاه ! لم يهمه ذلك ! كل الذي كان يهمه في تلك اللحظة ، ربه الذي كان يعبد ! كان يقينه فيه عاليا ، أنه سيكون ملجأه الوحيد في غربته ، و أنه هو من سيسبب له الأسباب التي ستعينه في غربته ! هنا ابتدأ ذلك الشعور بالتساؤل عن معنى حياته ، و عن كل هذه الأعوام التي قضاها منذ ولادته ! عن معاملته لوالديه ، عن الحياة ككل ، عن معنى أنه مخلوق في هذي الدنيا ! كل هذه الأسئلة كانت تدور في خلده ، طيلة الأيام التي سبقت سفره ، و التي قضى أغلبها وحيدا ، كعادته منذ صغره ، يجال الكتب و يحاورها ، كما يجادل الأصدقاء أصدقاءهم و أحباءهم !
قضى صلاته ، ثم طوى سجادته و أعادها إلى حقيبة ظهره ، ثم عاد إلى بدوره إلى مقعده الذي فيه ينتظر كان ، لم يلبث فيه كثيرا ، كانت الساعة تشير إلى الثانية إلا ربعا ، و نصف ساعة كاملة تتحدى الملل في الإنتظار ! لا يحب الإنتظار ! كان يكره أن ينتظر هكذا بدون فعل شيء ، خاصة حينما يكون متوترا ، و لا يقدر على معاقرة كتاب ! قام من مكانه ، و اتجه نحو الباب ، و أراد أن يتجول في البهو الخارجي للمطار الذي يفصل بين كل ردهة و ردهة ، بين كل رحلة و رحلة ، بين مصائر عديدة ستشد رحلاتها نحو السماء ! رمقه شرطي المراقبة فبادره قائلا :
ـ إلى أين أنت ذاهب أيها الشاب ؟
كانت علاقته بالشرطة في بلده ، تماما كعلاقته بطبيب الأسنان ، لا يعوده إلا في أشد الدرجات ضرورة ، لم يكن يحب التحدث إلى رجال الشرطة ! ليس حكما استباقيا ، و لكنه لم يحب ذلك يوما ! كانت صورة رجل الشرطة في باله باعثا على التسلط ، و القوة ، و القدرة على مداهمة حريات الآخرين ! فرد قائلا :
ـ أريد فقط أن أتجول في انتظار أن أصعد إلى الطائرة ، هل ممنوع هو أم لا يجوز ، و أرفق سؤاله بابتسامة تحد ..
ـ ليس هناك ما يمنع ، بعد أن ختمت جواز سفرك في الداخل ، و لكن من الأفضل لك أن تبقى هنا حتى لا تتوه عن المدخل ! إلا إذا أصريت على التجوال فلا بأس !
لم يدر من أين اكتسب جرأته في ذلك الوقت ، غير أنه بادر الشرطي قائلا :
إذا تهت فأنت هنا لتدلني على المكان ! سآتي إليك ، و أنا متأكد أنك ستساعدني !
رمقه الشرطي بشيء من التعجب ، رسم ابتسامة ماكرة على وجهه ، و رد :
ـ أنت ولد ثرثار ! إلى أين وجهتك ؟
و الحقيقة أنه كان بحاجة إلى مثل هذا الحوار ، فقد أطفأ شيئا من التوثر الذي بداخله ، هو الذي لم يحدث شرطيا في حياته هكذا ، فرد بشيء من الثقة زائدة :
ـ إلى ألمانيا !
ـ أوه ، المانيا ! بلاد جميلة ! أقوى بلد في أوروبا !
ـ نعم هو ذاك !
ـ ذاهب من أجل الدراسة ؟
ـ نعم سيدي ! سأدرس هناك !
ـ و مالي أرى الحزن في عينيك ! ؟
لماذا أيها الشرطي تصر على وضع أصبعك على جراحي في أول لقاء لي بك ؟ خاطب نفسه ، ثم أجاب :
ـ لا أعلم لم سيطر علي الحزن حينما فارقت عائلتي اليوم !
ربت على كتفه برفق ، دغدغ دموعه من جديد ، فأرغمها على الصعود لولا أنه تدارك الموقف ، فقال له الشرطي بحنان :
تذكرني بشبابي يا بني ! أعلم مدى صعوبة موقفك ! ليس هينا أن تهجر عشك الذي فيه ترعرعت كل هذي السنين و تذهب بعيدا لآلاف الكيلومترات ، و تبدأ حياة جديدة ! ليس هينا على الإطلاق ! و لكن ليكن عزاؤك أنك شخص محبوب من طرب والديك ، و لولا حبهم لك ، ما كنت بهذه الأخلاق !
ـ شكرا سيدي هذا لطف كبير منك ! تعرف : لم أكن أتصور أن أقابل شرطيا بهذا اللطف !
قهقه الشرطي و أردف :
و هل الشرطي وحش ؟ الشرطي إنسان في آخر المطاف له عمل يؤديه ! و ما يفرق أفراد الشرطة هي أخلاقهم ! أعلم لماذا قلت ذلك ! لأن سمعتنا في هذه البلاد سمعة سيئة !
لم يجاريه في بوحه ، بل ساءله في غباء مصطنع :
ـ هل هذا صحيح ؟
ـ و كأنك تتغابى أيها الولد ! ألا تعرف هذا ؟
رد يعقوب في استسلام :
ـ بلى أعلم ، و يحر في نفسي هذا الشيء !
ـ اعلم يا بني أن جهاز الشرطة هو في الأخير مثل جميع القطاعات في كل أنحاء العالم ، هناك فيه الصالح و الطالح ! يحدث أحيانا أن يغلب الطالح على الصالح ، و لكن الصالح دائما هنا موجود ، ينتظر فرصته من أجل إثبات ذاته ، هكذا هي الدنيا !
ـ صحيح يا عم ! هل تسمح لي بمناداته بالعم ؟
ـ تفضل يا بني !
ـ جميل ما قلته ، و اعلم يا عمي أن الحياة كل الحياة أخلاق و قناعة !
ـ صحيح ، بارك الله فيك ! أوه يبدو أن عملية الإركاب قد بدأت للتو …
نظر صوب المدخل ، فوجد الناس مجتمعة حول المظيفة كل يريد أن يدخل أولا فأدار وجهه نحو الشرطي ضاحكا و قال :
ـ هل ترى ما أرى ؟ إنهم يحسبون أنفسهم أمام حافلات نقل المدينة ثم انفجر ضاحكا …
قال الشرطي و هو يكتم ضحكته :
صحيح ، نحن المغاربة لا نعرف معنى النظام حتى في الطائرة ! و المشكلة أن كل واحد له مقعد محدد يحمل رقمه ! فما يضرهم لو أنهم التزموا بالنظام !؟
و الحقيقة أن المسافرين المغاربة لوحدهم قاموا بهذا الفعل ، جميع المسافرين الأجانب القاعدين في بهو الإنتظار ، بقوا في مقاعدهم رغم افتتاح باب الإركاب ، الشيء الذي أشعره بالخجل فعلا ، فقال :
ـ يوما ما سيعم النظام هذه البلاد و نعود كما كنا !
ـ إن شاء الله ! هيا ، رافقتك السلامة !
مد يده إليه مصافحا ، و ربت الشرطي على ظهره بحنان و قال :
ـ إلى اللقاء يا عم ، أتمنى فعلا أن أجدك هنا حينما أعود يوما ما !
ـ سنلتقي بالتأكيد ، ابحث فقط عني ، لعلك ستحفظ قسمات وجهي أكثر مني أنا الرجل الخمسيني !
ـ ابتسم و الدموع في عينيه ، و ودعه ! كأنه رجل يعرفه منذ زمن ، استأنس له ، كلمه ، شاركه الحديث ! هكذا في دقائق ، كون صداقة جميلة !
انتظر حتى دخل مع آخر المسافرين إلى الطائرة ، أعطى المظيفة ورقة سفره ، و دخل إلى الممر الذي يربط دور المطار بالطائرة ، أحس برعشة غريبة ، لا بد أنها رعشة الرهبة من هذا الشيء المسمى طائرة ، تثاقلت خطواته ، حتى استعجلته المظيفة في باب الطائرة ، أمسكت ورقة سفره ، ثم قالت :
ـ هل أنت خائف ؟ خاطبته بالألمانية ، كانت مظيفة ألمانية في منتصف الأربعينات ! فاجأته اللغة الألمانية التي خرجت من فيها ، لغة لم يسمعها إلا في قنوات الدولة الألمانية على الساتل ، فتلعثم ، ثم قال :
ـ أوه أبدا ، إنما هي المرة الأولى التي أطير فيها في حياتي !
ـ حسنا ، لا تقلق ، أنا هنا ، لن تشعر بالخوف أنا متأكدة ، السفر بالطائرة شيء ممتع ! ـ شكرا جزيلا لك سيدتي !
ـ إسمي هولغا هيرتسبيرغ !
ـ و أنا مهدي ـ مهدي يعقوب ، شكرا سيدة هولغا ، تشرفت بمعرفتك .
ـ هيا ادخل و اذهب إلى مقعدك ، هناك وسط الطائرة إلى جانب النافذة !
ـ حسنا
ذهب إلى مقعده ، جلس ، و أتى بالأذكار و الشهادتين ، أرهبه ذلك المنظر حقا ، يا لضخامة هذا الجهاز ، غير أنا كانت طائرة جيدة الصنع و كانت شركة لوفتهانزا من الفخامة بمكان ، كانت مقاعد الدرجة الإقتصادة مريحة جدا ، مصنوع غطاؤها الخارجي من الجلد ، مع نسبة مساحة مريحة للقدمين بالنسبة للمقعد التالي ! ربط حزام الأمان ، و نظر إلى أرض المطار ، آخر أرض ستقع عينه عليها من أرض بلاده أرضا ، أغمض عينيه ، و دعا ربه في قلبه أن يسلم قلبه ، و أن ييسر أمره ، دعاه من كل قلبه أن يرضى عنه ، فهو في هذه الدنيا لا يروم إلا ذلك ! تذكر والده ، والدته ، إخوته ، فأحس بحرارة في دواخله ، الأسرة ذلك العالم الجميل جدا ! أصدقاؤه ، اصحاب دراسته ، أطفال حيه ، لعبه ، لهوه ، كتبه ، لحظات خلوته ، كل الوحوه التي قابلها في حياته ، كل هذا ، هجم عليه هجمة المرتد داخل الطائرة ، حتى أحس بنوع من الشفقة على نفسه ، أغمض عينيه مرة تانية ، محاولا أن يتخيل حياته هناك في تلك البلاد البعيدة ، عن الأشياء و المصاعب التي ستقابله هناك ! قطع حبل تفكيره صوت ربان الطائرة ، يخبر الركاب أنهم جاهزون للإقلاع ، و أن الطائرة ستتحرك بعد دقائق قليلة بعد أخد موافقة مركز المراقبة بالمطار ، و بالفعل لم تلبث الطائرة أن تحركت شيئا فشيئا على أرض المطار ، و ذهبت في اتجاه مستقيم بالسرعة نفسها ، سرعة قليلة نسبيا ! كان قلبه تتسارع دقاته ، و بان الإرتباك في وجهه ، فخاطبه رجل مغربي يميل سنه إلى الهرم قائلا :
هل هذه أول مرة تطير فيها ؟
ـ نعم سيدي ، أجابه بارتباك
ـ لا تقلق ، يمكن أن يسبب لك الصعود و الهبوط إزعاجا ، و لكن سترى أنه و فوق السماء لن تشعر بشيء على الإطلاق تمام كأنك فوق الأرض في حافلة للنقل !
لم يدر ، هل أراد هذا الشيخ الهرم تهدئته فعلا و التخفيف من ارتباكه أم أراد أن يزيد منه فأجابه بابتسامة لا تدل على شيء :
ـ شكرا لك سيدي
ـ لا عليك ، انظر ، ستدور الطائرة الآن إلى اليسار ، و تستقر ثم ترتفع سرعتها حتى تبلغ سرعة كبيرة ليتم الإقلاع .
و فعلا كان ما قال الشيخ ، ضاعفت الطائرة الضخمة التي تحمل على متنها حوالي ١٥٠ راكبا سرعتها حتى أحس بالسرعة تجري في بطنه ، بل لم يعد يحس بما في بطنه تماما ، و انبعث القرآن من فيه بشكل أوتوماتيكي ، و شد بأيديه على مقعده في مشهد يثير الضحك ، ثم أحس بنفسه يرتفع شيئا فشيئا ، و رأى من خلال النافذة أرض المطار تبتعد ، و الطائرة تخترق عباب السحاب الذي كان مسيطرا على مدينته ذلك اليوم ! بقيت إشارات ربط الأحزمة مشتعلة لفترة ، و الطائرة لا نزال تخترق الجو مثل الصاروخ ، لتستقر أفقيا بعد ذلك ، و تختفي شارة ربط الأحزمة ، و أحس فعلا أن الأمر لا يختلف كثيرا عن السيارة ! نظر عبر نافذة الطائرة ، و رأى منظرا جذابا ، كومة من السحاب كبيرة تشبه سريرا عملاقا كبيرا ، و فوقها الشمس و الطائرة بينهما ، شيء جميل جدا ، و سبح الله كثيرا ، حتى أخبرهم الربان على أي مسافة يحلقون ، و درجة حرارة الخارج ، فحمد الله على نعمه !
كانت الرحلة ذاهبة إلى مطار فرانكفورت ، ليكمل بعدها رحلته هو في طائرة أصغر إلى مطار مدينة هانوفر ، و هي المدينة التي فيها سيقطن !
لم ينم بالليل ما يكفي من أجل أن يرتاح بدنه ، فأحس بسلطان النوم يداعب جفنيه ، استسلم له سعيدا ، خاصة و أنه جالس فوق مقاعد مريحة فعلا ، سيتبين له فيما بعد ، حينما يدمن ركوب الطائرات ، أن هذه الشركة من أفخم شركات الطيران في العالم ، استسلم للنوم ، و راح فيما يشبه التخذير !
استفاق على صوت المظيفة هولغا تناديه :
ـ سيد مهدي ، سيد مهدي
فتح عينيه ، و ابتسم في وجهها أن : نعم :
ـ ماذا تحب أن تأكل يا سيدي ؟ هناك لحم ، و هناك دجاج ، و كلا اللحمين مذبوح حسب الطريقة الإسلامية حلال !
ـ أختار اللحم من فضلك !
ـ تفضل !
ـ شكرا سيدتي !
كانت الوجبة لذيذة فعلا ، لحم مطهو بطريقة أوروبية ، خضر ، قطعة خبز و بعض الجبن الألماني ! مع عصير عنب أسود ! و كان لأول مرة يتذوق عصير عنب أسود ، ليحبه حد الغرام منذ تلك اللحظة ! و الحق أنه كان جائعا تلك اللحظة ! أكل ، حتى شبع ، غير أنه لم يترك شيئا في الطبق ، انهال عليه كما ينهال المحارب على فريسته ، لا يذرها إلا قاعا صفصفا !
كانت الشمس تميل إلى المغيب شيئا فشيئا ، لقد نام مدة طويلة ، و الحق أنه سر بنومه ، فعلى الأقل لم يحس بالضغط الجوي الذي جعل الطائرة تهتز هزا عنيفا ، الشيء الذي تسبب في ذعر الركاب ، و قد أخبره جاره في الطائرة بهذا ! فسر فعلا أنه كان في قبضة سلطان النوم !
كانت ساعة من الزمن تفصل الطائرة على الدخول إلى أجواء ألمانيا ، ساعة قضاها في الرسم و الكتابة ، و اللعب مع طفل صغير ألماني ، لم يجد متعته إلا في اللعب معه هو ، و بقي كذلك إلى أن أخبر الربان أن الطائرة في حالة هبوط و أن على الركاب أن اتخاذ أحزمتهم استعدادا ، بدأت أرض مطار فرانكفورت تظهر للعيان شيئا فشيئا ، و هاله ما رأى من شساعة المطار و كبره ، مطار لا يقارن بمطار مدينته هو الذي حسبه كبيرا ، فهان في عينيه الآن حد الإحتقار ، و كانت هذه أولى المقارنات التي سقط في فخها حينما اقترب من أرض ألمانيا ، مقارنات ستجر وراءها مقارنات ، مؤلمة بشكل ، غير صحي… و هكذا كان …
الحلقة المقبلة : مطار فرانكفورت ، جوهرة الطائرات
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة