هذا العالم .. بكل أرجائه , بكل قاراته , بكل أجناسه , من وضع له بصمة واضحة فيه يكاد يُعد على أصابع اليد ! .. هل تتخيل ذلك معي ؟ , كوننا الفسيح المتسع الذي لا يتوقف عند حد , أهله في زيادة مستمرة , ولادة كل لحظة , تمحي موت كل ثانية , وبالرغم من كل هذا تجد أسماء المؤثرين في كوننا وفي عقولنا وفي فكرنا أقل ما يمكن ! , وتقف أمام هذه الحالة حائراً مضطرباً , كيف لنا نحن البشر أن نقف مُقيدين الفكر والعلم والعمل لهذا الحد ؟ , وكيف لنا بكل ما اوتينا من عبقرية للعقل أن نُلقيها خلفنا كأنها لم تكن من البداية ؟! , أين الطاقات المخبئة ؟ , أين الإبداع الفياض ؟! , كيف تسير الحياة بهذه الروتينية المهلكة ؟! , وكيف نستطيع أن نُجاريها بإرادتنا هكذا ؟! ,والأغرب أننا نجد في هذه المُجاراة الرضا ! ..
قديماً كان تسارع البشر على التأثير قوي , تسارع مفزع حقاً , وإن بحثت قليلاً ستجد العالم القديم كان يمتلئ بالعلماء والمؤثرين أضعاف مضاعفة من عالمنا الحالي , في كل المجالات وفي كل بقاع الأرض تجدهم , ومع تسارع الحياة , أخذت النمطية الفكرية تتسارع على عقولنا هي الأخرى , فأصبح الطالب مجرد " آلة " تتلقن الكلمات , لهدف سامي ألا وهو " إجتياز الإمتحان " ! , هذا هو الهدف الأوحد لدى طالبنا اليوم , أين الإبتكار ؟ , أين حب المعرفة ؟ , أين روح التحدي ؟ , أين التشرب بالعلم ؟ , لن تجد إجابة لتلك الأسئلة بكل أسف ..
أصبح حجر أساس الإبداع مُهشم ! , مجرد فُتات لن تستطيع تجميعه لتصل به لقطعة كاملة تبني على أساسها وبها عالم التميز والتقدم , فأصبحنا في هذا العالم مجرد آلة ! , تعمل دون أن تدري ما هدف عملها , وما قيمته على البشرية , وما عائده على الكون نفسه , وأصبح الطالب مُتلقي للعلم وليس عاملاً به , ليس شغوفاً بما يحويه من دراسات وأبحاث وضعها القدامى " الذين قد إنقرضوا من عالمنا الحالي ولازال البحث عنهم قائم " , مجرد أداء مهمة وفقط والثمن " إغراق سفينة التقدم والإبتكار " !!
الإنشقاق من النمطية ليس بالأمر اليسير , ويتطلب جهداً كبيراً حتى نستعيد من جديد ما رسخناه في نفوسنا منذ القدم , منذ القدم كان الإبتكار هو الهدف والنجاة , النجاة من بحر ظلمات ضيق الفكر , والنجاة من تيار الجمود الجارف , قديماً كانت أحلام الفتى أن يصبح عالم فيزياء أو كيمياء , وكان يحارب من أجل حلمه , بالعلم الحقيقي وليس بالتلقين المزيف كما الآن , أما الآن , أقصى طموحات الفرد أن يتجاوز مرحلة دراستة دون أن " يشيل مادة " ! , وبلغة الشباب " يعدي صافي " , كلها أحلام للأسف قادرة على تدمير شغف الجميع بما يود أن يكونه , مجرد درجات بأرقام قادرة على محو الحلم بأكمله من جذوره , تبديل الطاقة والحماس ليأس وخمول وتكاسل , فلا أحلام بقيت ولا أهداف تُحقق , فلمَ أحلم إذاً ؟! , هذا هو التفكير السائد الآن , إذا كانت الأحلام محكوم عليها بالإعدام , فلمَ أحلم من الأساس وأرسم طريقاً أنا على يقين أنه سيُبتلع ومعه ستبتلع أهدافي ؟! .. تلك هي مأساة عصرنا ..
نتيجة .. درجات .. تدمير " أحلام " .. تأخر " حياة " .. تسلسل منطقي جداً في هذا الزمن , ابحث عمن حقق هدفه ووضع لنفسه كيان وأثر ستجد أنه نادر الوجود , والسائد هو " كان نفسي أكون " !! ..
ولكن وبرغم كل هذه التحديات , وكل هذه الصعوبات على البشري المسكين الذي لا حول له ولا قوة , تظل الإرادة نابضة فيه , فمن وجد أنه لم يحقق ما كان يتمناه يوماً ما , فعليه بسلك طريقاً آخر والهدف " ترك البصمة فيه " , هي شعلة إنطلاقة الآن بعد أن كان حبيساً في سجون الظروف , فكيف تأتي لهذا العالم السحري وتخرج منه دون أن تضع فيه بصمتك وأثرك حتى وإن كان بسيط ؟ , لا تتوقف الأحلام مهما كانت عرقلة الظروف قاسية , من يمنح القسوة للظروف هو أنت , من يجعلها تسيطر عليه وتتحكم في خطواته هو أنت , فلا تدعها تُقيدك بقيودها وتقف مُتفرجاً عليها , كن ثائراً عليها ..
حرر الإبتكار من سجونه , اجعل الإبداع يغرد من جديد في حياة العقل , ادرس بشغف , لا تتوقف عند حد التعلم الذي تتلقاه وحسب ؛ فالعلم لا حد له وإن لم تجد في ذلك سوى الدهشة , دهشتك حينها ما هي إلا بداية لمعرفة جديدة تفيض على وعيك بما يجعله قادراً على منحك معنى وجودك ..
تشرب منه ولا تقل لقد إكتفيت , فبعدها ستجد عقلك ظمآن للتشرب من جديد .. ولن يكف عن هذا , وحتى منتهاك أنت .. يبقى هو بلا منتهى !
اترك بصمة لك وحدك لا يُميزها غيرك ولا تنتمي إلا إليك , لا تكن من ملايين البشر الذين لم يُذكر اسمهم في التاريخ بعد .. ولن يُكتب برضاهم كونهم من القطيع !
يكفيك أن تُضئ أقدامك بخطوات أنت وحدك من إتخذ قراراً بضياءها , وحدك من أراد الإختلاف , وحدك من أراد الوجود ..
فمن تعهد بتنفيذ هذا , قد إقتلع جذور الجمود من ذاته واتخذ أرضاً جديدة بستاناً من زهور التميز , وهو مالكها الذي وجد فيها عالمه الذي لطالما طمح أن يستقر به منذ أن وجد البشرية تحكم قبضتها عليه وتسحبهُ إليها ليتماشى معها بتيارها , وكأنها الأم التي أهون عليها أن تُفنى على أن يضيع الإبن منها .. فإن حدث هذا يكون عندها بمثابة الشقاء الأبدي الأوحد !
لا تقبل بتيار جارف لا تجد ذاتك تتبلور من خلاله , بل تُهشم وتصبح سراباً وكأنها لم تكن من البداية , فمن إستطاع أن يهزمه بحق فهم المؤثرون قولاً وفعلاً .. وما عليك سوى أن تصبح فرداً منهم .. يكفيك أن تعود لموضعك الأصلي بعد إغتراب وترحال أدمى إدراكك , يكفيك أن تعود بدايتك الحقيقية .. يكفيك أن تتفرد ببصمتك الخاصة ..
التعليقات
رائع..أشعر أنك ستكونين ممن سيكون و يكون ايضا باذن الله لأنك صاحبة مبدأ و ارادة فولاذية.
حفظك المولى عزيزتي..
" أو قد يجيبك بشكل أكثر عقلانية بأن شروط الحياة أصبت قاسية حتى لم تعد تتيح له التفكير في نفسه و راحته فما بالك بالأحلام وماإلى ذلك (وهذا هو هدفهم الأول و الأساسي أن يبقونك تحت ضغط و توتردائم وهي في الحقيقة مؤامرة كبيرة الكل الآن يعرف عنها ) و الذي قلته أيضا أعلاه ليس لغرض تبرئة من يفكر بهاته الطريقة بسبب خلفيته المجتمعيه و لا حتى لألومه لأنه ليس سببا بأي طريقة أو بأخرى في الذي هو فيه، لكن أيضا لا يجب أن نبقى مكتفي الأيدي و أن نرضى بما صوره لنا الناس على أنها حياة، ففي جميع الحالات الله سبحانه وتعالى وهبنا عقل نميز به الصواب من الخطأ وقد منحنا أيضا حرية إرادة لنختار ماهو الأصوب لنا و أن نعيش هذه الحياة وفقا لمعتقداتنا وأفكارنا التي ليست بالضرورة أن نكون قد اكتسبناها من الموروث الثقافي... أعلم أن الموضوع ليس أبدا سهلا لكن محاولة خلق شيئ جيد مختلف وبسيط ( يا فكرة يا فلسفة حياة كل حسب منظوره الشخصي) ،بإمكانه أن يبدل حياتنا وحياة الأخرين معنا ،فدائما وسبحان الله كل شيئ عظيم وصلنا له اليوم سببه فكرة بسيطة بل ويمكن أن تكون في أولى مراحل تطورها تافهة بالنسبة للآخرين...أخت نورا بصراحة وددت أن أعلق على مقالك تعليقا مقتضب في بضعة كلماتك لكنها هي جرة القلم و مدى تماسك أفكارك و طرحك لها بأسلوبك المعهود الفريد من نوعه... مزيدا من التألق إن شاء الله..تحياتي
تحياتي لك ، استمري ، كتاباتك لامستني بشدة ، كل قطعة من المقال كانت رسالة عميقة للنفس ، أتمنى لك كل التوفيق نورا.
للأسف في زمننا هذا -زمن التطور التكنولوجي- بدلاً من أن تكون التكنولوجيا وسيلة للإبداع صارت وسيلة لقولبة البشر في قوالب متشابهة.
أري ان هناك الكثير من العادات اليومية التي تقتل وقتنا
ان تحكمنا بها، حتما سيتغير حالنا الى الافضل
أرى أنه يوجد الكثير من عادتنا اليومية يمكن التخلي عنها
واستبدالها بطلب العلم كما تحدثتي
اذا استطعنا التحكم بها، حتما سيتغير حالنا الى الافضل
الحل السحري المعهود من عقل مفكر مثلك يا نورا... العقل والكلمات ... هو...
(حرر الإبتكار من سجونه , واجعل الإبداع يغرد من جديد في حياة العقل , ادرس بشغف , لا تتوقف عند حد التعلم الذي تتلقيه , فالعلم لا حد له , ولا تقل لقد إكتفيت منه , , اترك بصمة لك حتى تكون ضمن هؤلاء الذين هم مؤثرون قولاً وفعلاً .. فكن منهم الان ومستقبلا .