لا يخفى على أحد تردّي الأوضاع السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية في مصر , و هو ما أدّى إلى فقدان الثقة في حاضر و مستقبل البلاد فلم يعد لدى المصريين سوى إجترار ذكريات الماضي , و هو ما يبدو واضحا في الإعلانات التليفزيونية التي تستعيد مشاهد و شخصيات من الماضي , و في أحاديث المصريين التي أصبحت معظمها تدور عن ( فاكر أيام زمان ) , و هو ما إنعكس أيضا على الحياة السياسية فأصابها بما يمكن أن نطلق عليه ( نوستالجيا سياسية ).
و يمكن رؤية مظاهر هذه النوستالجيا ( و هو مصطلح يستخدم لوصف الحنين للماضي ) في عدة مشاهد :
1- العصر الملكي :
لم تدّخر حركة الضباط الأحرار جهدا لتشويه صورة العائلة المالكة خصوصا الملك فاروق , ذلك التشويه الذي ما لبث أن بدأ يخفت قليلا بعد تولي الرئيس السادات الحكم و إعطائه جوازات سفر مصرية لأفراد الأسرة المالكة السابقة إلى أن ظهرت العديد من المسلسلات و الكتب على مدار العشرين سنة الماضية التي أبرزت إنجازات العصر الملكي , الأمر الذي جعل العديد من المواطنين يشعرون بالحنين لذلك العصر بل وصل الأمر لمطالبة البعض بترشّح أحمد فؤاد الثاني ابن الملك فاروق لرئاسة الجمهورية .
2- حزب الوفد :
الحزب الذي كان قديما رمزا للصمود و السعي نحو المستقبل , الحزب الذي ذهب لعرض قضية إستقلال مصر أمام مؤتمر الصلح في باريس , الحزب الذي أصدر قانون إنشاء الجامعات و أنشأ البنك المركزي و حدّد ساعات العمل و أصدر دستور 1923 الذي يعتبره الكثيرون أفضل الدساتير التي صيغت في مصر , أصبح الآن غارقا حتى أذنيه في الماضي و هو ما يبدو واضحا في إعلانات الحزب التي يفتخر فيها الحزب بإنجازات الماضي البعيد دون أن يقول لنا ماذا سيفعل إذا وصل للحكم في المستقبل .
3- الحقبة الناصرية :
رغم مرور أكثر من أربعين سنة على وفاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلا أنه الوحيد بين رؤساء مصر الذي لا تزال أفكاره باقية حتى الآن في عقول عدد ليس بالقليل من العرب و المصريين منهم شباب لم يعاصروه , إلا أن مشكلة الناصريين الرئيسية تكمن في تمسّكهم المبالغ فيه بأفكار عبد الناصر القومية الوحدوية فلم يحاولوا إدخال أي تعديلات عليها لتناسب العصر مما حوّل هذه الأفكار لمجرد شعارات جوفاء جعلتهم خارج الزمن .
4- الإخوان المسلمون :
بين ليلة و ضحاها وجد الإخوان المسلمون أنفسهم خارج السلطة , ليس هذا فقط بل وجدوا أنفسهم مطاردين من جانب أجهزة الأمن و الجيش و قطاع كبير من المواطنين , فلا شك أن الإخوان يعيشون أسوأ أيامهم منذ تأسيس الجماعة على يد حسن البنا عام 1928 , الأمر الذي يجعلهم دائما يستعيدون أيام الماضي القريب عندما كان الدكتور محمد مرسي رئيسا للجمهورية فلا تكاد تتحدث مع أحد منهم إلا و تجده يحدثك عن ( أيام الدكتور مرسي ) و الخير الذي كان سيأتي على يديه إذا استمر دون أـن يفكروا في ما يمكن أن يفعلوه في المستقبل .
5- الشباب :
حالات إنتحار , إعتقالات , محاكمات .. أصبحت هذه هي الأخبار التي تتناقلها الصحف و مواقع التواصل الإجتماعي عن الشباب , هذه الأخبار التي تعكس حالة الإكتئاب التي يعانيها الشباب الآن بعد أن تبخرت أحلامهم التي نزلوا من أجلها الشوارع في الخامس و العشرين من يناير , و هو ما دفع الشباب إلى الهروب من هذا الواقع و إسترجاع ذكريات الثورة و الثمانية عشر يوما في أحاديثهم و جلساتهم بل دفعهم للهروب من البلد بأكملها و الهجرة , و عزوفهم تماما عن المشهد السياسي .
6- النظام الحاكم :
رغم أن النظام السابق – أو الذي كان سابقا – كان أول الخاسرين في الثورة بعد أن أجبرته المظاهرات على إسقاط رأس النظام و عدد من مساعديه و تقديمهم للمحاكمة , إلا أننا إذا نظرنا للوضع الحالي بعد أكثر من أربع سنوات من قيام الثورة سنجد أن هذا النظام هو المستفيد الأكبر من الثورة بعد أن إستطاع أن يلتف عليها و يعود للحكم و يسيطر على جميع مفاصل الدولة و يخرج جميع رموزه من المحاكمات بالبراءه .
إن النوستالجيا تسيطر على هذا النظام مثلما تسيطر على الباقين فهو لا ينسى الأيام التي كان يسيطر فيها بشكل كامل على البلاد دون أي معارضة تذكر , لكن الفرق بينه و بين الآخرين أنه لا يكتفي بتذّكر الماضي فقط لكنه يسعى لجر البلاد لماضيه في أبشع صوره بينما يكتفي الباقون بتذّكر أمجاد الماضي فقط دون عمل .
و هناك العديد من المظاهر الأخرى لهذه النوستالجيا السياسية مثل تمسّك الإشتراكيين الثوريين بمبادئ الإشتراكية التي تجاوزها الزمن , و تذّكّر أبناء الجماعات الإسلامية لأيام التمكين و النفوذ في الثمانينات و التسعينات , و غيرها .
و في غمرة هذا الحنين للماضي الذي يعيش فيه معظم الشعب و الأحزاب , نكاد لا نجد من يفكر بما هو قادم من إنتخابات برلمانية و تشكيل الحكومة و إنتخابات المحليات سوى النظام الحاكم و هو ما يجعله اللاعب الوحيد على الساحة في الوقت الحالي .
-
عمرو يسريمهندس مصري يهتم بقراءة التاريخ وسِيَر القدماء. أرى أن تغيير الحاضر، والانطلاق نحو المستقبل يبدأ من فهم الماضي.