مِنَ الْتَحْتِ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

مِنَ الْتَحْتِ

  نشر في 22 نونبر 2015  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

في الكَراج:

بعد وفاة والدي بسنتين تقريبا، أخذتني أمي إلى ميكانيكي صديق أبي المرحوم. قالت له: "واتهلا فيه راه يتيم آ السي البشير..." لم يجبها السي البشير إلا بهزة رأس عمودية كدليل على الموافقة.

في الكَراج لم يكن هناك أي طفل صغير غيري. كانت الأعمال المنوطة إلي لا تتجاوز إحضار الشاي والسكر والنعناع من عند البقال المجاور للكراج. وأيضا مسح المحركات وبعض القطع الحديدية التي لم أحفظ أسماءها أبدا. كان السي البشير رجلا صلبا، يداه كالحجر، ورأسه صلعاء كبطيخة ناضجة. بعد أن نفطر في الكراج بالشاي وزيت الزيتون، كان يضع كيس البلاستيك الصغير على صلعته ويدهنها بما تبقى من زيت فيه، فتبدو متلألئة كالشمس.

في المنزل:

أعود للمنزل منهكا. أغسل أطرافي بالماء والتيد بصعوبة شديدة نتيجة التعب. وقبل أن أتناول بعض الخبز البائت وأحتسي بعض كؤوس الشاي، أعطي أمي تلك الدريهمات التي حصلت عليها من بعض زبناء السي البشير.

أمي لا تكف عن تذكر أبي وشتمه، لأنه كان سببا وراء هذه الرؤوس التي أنجبها. وكلما جن جنونها تلعنني وتشبهني بأبي الذي مات ربما حسرة على زواجه من امرأة مثل أمي.

في المنزل القصديري الذي أعيش فيه أنا وأمي _بينما باقي إخوتي كانوا قد غادروه قبل وفاة أبي، ولا أدري السبب_ كنت أحس بأنني لست ابن أمي. وحتى "المعلم" السي البشير، كان لا يمد يده علي إلا نادرا. وإن حدث، فذلك من أجل أن أتقن الحرفة، حرفة الميكانيك. بينما أمي، والويل لي إن عدت مساء وجيوبي فارغة من الدراهم، فإنني في الغالب، بعد أن تضربني وتسبني كثيرا، أبيت بلا عشاء.

منزلنا، أو بالأحرى براكتنا، كان مكونا من غرفة واحدة وحمام ومطبخ صغير. كل ذلك من الآجر والقصدير الخالص. لا طلاء في الأعياد، ولا أضحية في عيد الأضحى. الجيران يتصدقون علينا ببعض اللحم، وذلك رأفة باليتيم أنا. بينما أمي، الكل كان يكرهها للسانها السليط وتصرفاتها اللا إنسانية تجاهي.

بلغت العاشرة، حاول السي البشير مع أمي ثلاث سنوات من قبل كي تدخلني المدرسة، لكن من دون جدوى. أمي كانت ما تزال بصحة جيدة، كانت قادرة على الاشتغال بنفسها دونما حاجتي، في الحياكة، أو حتى في "الموقف" أو في أي شيء آخر. بدأت أتعلم أبجديات الميكانيك شيئا فشيئا، وبطبيعة الحال صرت أتقاضى مبلغا أسبوعيا محترما بالنسبة لي كفقير ويتيم وأميّ، كان المبلغ كله يذهب لأمي مباشرة لا لي أنا.

في المقبرة:

الرجل المسن في المقبرة، لأول مرة سألني هل أكون ابن فلان؟ ولما أجبته بنعم مسح على شعري بيده وقال: ليس قاسيا أن تكون يتيم الأب، ولكنه محزن جدا أن تكون يتيم الأم.. كان رجلا مسنا، بالكاد يستطيع الوصول إلى المقبرة انطلاقا من البيت الذي يقيم فيه جوارها، ومع ذلك لم أتبين من كلامه شيئا.

كيف استطعت تعلم القراءة والكتابة؟ ومن كان السبب في ذلك؟ إنها لقصة طويلة طويلة، وسردها يتطلب مني الحديث عن تجربة أخرى أكثر غرابة من التي تحدثت عنها..

في الكراج:

ليس مرة ولا اثنتين ولا ثلاثة.. فوق الكراج يسكن الحاج حسن وعائلته. كان ينزل أحيانا لنا بالكسكس يوم الجمعة، ولكن لم يحالفني الحظ في التعرف إليه والدردشة معه.

عندما كنت أفترش قطع الكارطون وأدفع بنفسي أسفل السيارات المعطوبة لإصلاحها، أذكر في المرة الأولى أنني رأيت رجليها فقط وتركت الزيت ينسكب على وجهي حتى صرت في حالة مضحكة. وكم زادت غبطتي لما طلعت ووجدتها ما زالت لم تدخل المنزل بعد. رأتني وضحكت كثيرا حتى أنها لم تتمالك نفسها وركلت الباب برجلها بقوة كادت تؤذي رجلها.

في الغد وجدت نفسي أمامها مباشرة، في الصالون المفروش بعناية فائقة، فوق المائدة الكبيرة الموجودة فيه، كانت تضع ملصقات عليها صور حيوانات وكتابات لم أكن ساعتها متمدرسا لأفهمها. كانت كما لم أتصور من قبل، أنا الذي أحيا في "الكاريان" رفقة أم سيئة، كيف لي أن أقاوم كل هذا الجمال من حولي؟ لم أبلغ خمس عشرة سنة حتى أصبحت أتقن اللغة العربية قليلا، وصارت دار الحاج حسن مثل دارنا، وزوجته مثل أمي، وابنته العشرينية آنذاك، التي علمتني القراءة والكتابة مثل أختي، أو أعز قليلا.

في المنزل:

اشتد المرض على أمي، وكانت المسكينة في حاجة ماسة إلى علاج سريع، وهو ما تكفل به السي البشير والحاج حسن. لكن بدون جدوى... هكذا صرت أزور المقبرة بشكل يومي. وصرت المسؤول عن كراج السي البشير الذي يثق في ثقة عمياء. وصرت ابنا لعائلة الحاج حسن.. كل هذا كان ناقصا بعدم وجود أمي، ولا الفتاة التي علمتني، فبعد زواجها لم أعد على اتصال بها.

الآن:

أحيا حياة ليست بالسارة أبدا، رغم الحالة المادية الميسورة جدا، ورغم زواجي وإنجابي لطفلين جميلين.. الفيلا التي أعيش فيها تبدو لي أشبه بقبو مقارنة ببراكتنا القصديرية الأولى. صار أمرا ثقيلا أن يخبرني أحدهم، أقصد إخوتي بعد هاته السنين بأن تلك المرأة كانت زوجة أبي. كنت سأقاطعهم جميعا، والأمر نفسه إن أخبرني غيرهم.. كان كلام حفار القبور منطقيا. الآن أحس باليتم البعيد من أم لم أعرف حتى اسمها.


  • 4

   نشر في 22 نونبر 2015  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات

شكرا أستاذ إبراهيم لمشاركتنا هذا النص لقصة حياتك
أتمنى لك التوفيق
1
ابراهيم اراوي
العفو صديقي، شكرا لك أنت على القراءة ورأيك الجميل. رغم أنني ما زلت أرتكب الكثير من الأخطاء أثناء الكتابة... شكرا لك.
Mustafa Abu Kesha منذ 8 سنة
رائعة
0
ابراهيم اراوي
شكرا على القراءة صديقي، كن بخير.

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا