تداولية القصد والمعنى: زلاَّت اللسان مثلاً..!! - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

تداولية القصد والمعنى: زلاَّت اللسان مثلاً..!!

مقالة بحثية

  نشر في 27 يوليوز 2021 .

تعد اللغة شكل من أشكال الوجود، فكلّ معرفة بهذا الوجود إنما تؤدي إلى إعادة فهمنا للّغة نفسها، فأن يكون الإنسان موجودا فهذا معناه أن ينطق ويتكلّم، ويدلّ ويرمز، كما يفكّر ويتأمل، ويستدلّ ويبرهن، بل معناه أنّه لا يمكن أن يفكّر ويتأمّل إلا عبر اللغة.

بيد أن اللغة المنطوقة والمكتوبة لم تعد موثوقا بها كل الثقة، في إيصال الدلالة الدقيقة وتحقيق التواصل، ولقد درست هذه المواضعة الفكرية منذ أمد بعيد، وكان الفلاسفة أول من اعتنوا بدلالة الكلمات، وعلاقة اللغة بالفكر وحين اتسع نطاق التواصل مع اتساع الوسائل الإعلامية، ظهر السؤال بقوة هذه المرة انطلاقا من فكرة مؤداها، أن اللغة في إطار الاتصال قد لا تسهم في نقل المعرفة الحقيقية والأفكار المؤدية إلى بناء اتصال فعال، يعول عليه في التقدم الحضاري، وقد تقصر في نقل المجتمع إلى حالة من التميز الفكري، يعالج مواطن الخلل في البنية الفكرية التي تعاني منها المجتمعات . وحين يدرس الاتصال تدرس اللغة إلى جانبه، ولقد توسع معنى اللغة، من الرموز اللفظية إلى الرموز غير اللفظية، ومنها الصورة ودلالاتها، فارتبطت الكلمات بدلالات جديدة، بعد أن فقدت علاقتها اللغوية المفترضة بمآلها التاريخي[[1]].

وفي إطار اللسانيات الحديثة والمعاصرة، أجمعت النظرية التأويلية الفلسفية وبعض فلاسفة اللغة، والتداوليون، على أنه لا غنى للمؤول عن مفهوم القصد والقصدية لإدراك معنى النص، وتأويله تأويلا ملائما ومنسجما. وقد راعى بعض الدارسين استعمال النصوص الموازية للمؤلف نفسه رفعا لإبهام النصّ، على غرار تناولات "هوسرل" الغنية في هذا الشأن.

في تناوله للإشكالية التأويلية، كان "هوسرل" ينقل مفهوم التحليل إلى سياق يصبح فيه موضوع التحليل القصدي هو كشف الممكنات الثاوية في الوعي، كشف غرضه الشرح والتبيين والإيضاح لكل ما هو مقصود من جهة الوعي. وبمطابقة قصدية الوعي للتحليل القصدي مطابقة صناعية ومنهجية صارمة جعل "هوسرل" فلسفته الظاهرية فلسفة المعنى، أو فلسفة تأويل المعنى من جهة التحام الفكر بنفسه[[2]].

إن القصدية عند "هوسرل" تعبّر عن خصوصية الوعي باللغة، وجعلها شأنا من شؤون هذا الوعي. وهي أدخل في الدلالة على حال الأنا عند اليقظة بوصفها حالا نموذجية لوصف حياة الوعي، كما أنها أقرب للدلالة على ما بين الذات المتحدثة واللغة من قرب وتدانٍ. فالأمر لا يتعلّق بالكلمات في حدّ ذاتها، بل بكونها غرضا للنظر، حيث يكون إنجاز الفعل آية على حضور الأنا قرب الموضوع الذي هو موضوع مقصدي. فإنجاز الأفعال على نحو مخصوص يدلّ على أنّ ما اتّصل بالوعي منها هو غرض تجب نسبته إلى الأنا. وينبغي توحيد الأفعال المقوّمة للألفاظ، والأفعال المقوّمة للمعاني وفق نظام الإحالة على المقاصد، أي أن تتّجه الأنا إلى المحتويات المقصدية بوصفها القاعدة القصوى لكلّ إنجاز عبر اللغة- وهذا يعني أن القصدية - وفق هذا التأطير الفلسفي- تتحكّم بكلّ فعل لغوي، من حيث أنها تحدد شكله وتعطيه معناه.

كما يؤكد "هوسرل" على أنّ المواضعات الاجتماعية والقواعد وسياقات المنطوق تؤدي دورا أساسيا في تحديد الفعل الكلامي، فليس المعنى حصيلة للقصدية الفردية حسب، وإنما هو نتيجة للممارسات الاجتماعية أيضا. فالقدرة على فعل الكلام تتحقّق في عقل المرء، أما إنجاز هذا الفعل فهو تعبير عن القصدية، وكلّ من القدرة والإنجاز ممارسة اجتماعية[[3]]- مما يعني أن العملية الكلامية تعكس مواقف الذات وأفعالها وحالاتها العقلية، وتمثّل في الوقت نفسه العلاقات الإنسانية المتفاعلة. وهو بذلك ينبّه إلى أهمية المجتمع الذي يخلق التعابير اللغوية ويعطيها معناها.

وهكذا، فإن القصد في الدراسات التي عنيت بتقصي المعنى، يعد واحداً من أهم الأساسات التي عليها يبني البعض تفريقا بين مجال الدلالة ومجال التداولية. وهذا التنصيص على القصدية في اللغويات التداولية بما هي فعل ذاتي في الخطاب ترجع كل دلالة ملفوظية إلى المتلفظ بها ويحتكم في الختام إليها. في حين أن الدلالة التي مدارها على معرفة القصد تدور مع التوجه حيث تتأثر بالرضا والغضب وغيرها مما يعتري المتكلم من أحوال نفسية طبيعية، وربما مع التجلي، لأن الكلام لا يتجلى قط في صورة واحدة لشخصين، ولا في صورة واحدة مرتين. فيتقلب من متلق لآخر، لأن الناس متفاوتون في إدراك اللغة آما هم متفاوتون في إدراك مقاصد الكلام. فكما يدور المعنى مع القصد، فإنه يدور مع معطى آخر تداولي، يؤثر فيه، هو المعرفة المشتركة[[4]].

ونجد في هذا الشأن، أن من الاعتبارات العلمية والتداولية قيام جانب من التخاطب والتواصل بين المتخاطبين في هذا العالم على علاقة متينة بين القصد والمعرفة المشتركة "بحيث يمكننا القول إن المعرفة التي نملكها، كمستعملي لغة ما، عن التفاعل الاجتماعي عن طريق اللغة ليست سوى جزء من معرفتنا الاجتماعية الثقافية العامة. هذه المعلومات العامة عن العالم هي أساس فهمنا لا للخطاب فحسب بل ربما لكل جوانب خبراتنا الحياتية"[[5]].

ومن الأمور الممتعة التي اهتم رائد مدرسة التحليل النفسي "فرويد" بدراستها: "زلات اللسان"، ومفيدة جدا تلك الخلاصة التي صاغها في هذا الصدد، من أن الكلمات هي ما يخطئ به الناس قبل أن يصبح خطؤهم فعلاً، وفي هذا تفريق بين الكلام الذي نصدره بوعي وبقصدية، وبين الكلام الذي يسبقنا، قبل أن نزن ما إذا كان قوله مناسباً أم لا.

في ضوء الدراسات التي قام بها فرويد على بعض الظواهر الكلامية، كان التركيز واضحاً على "زلات اللسان" باعتبارها موضع قصدي كامن يجري تجاهله دوماً، رغم أنه يكشف عن دلالات قصدية عميقة، قد لا يمكن الحصول عليها في حالات الكلام الواعية. وبحسب "فرويد" فإن "زلات اللسان" هي كلمات تُذكر بطريقة لاواعية في مجرى الكلام، والأفعال التائهة (الناقصة) أفعال تجري من غير قصد فاعلها والتداعي الحرّ هو ترابط الأحوال النفسية في مسيرة لاواعية. فقد اهتمّ "فرويد" اهتمامًا بالغًا بظاهرة زلاّت اللّسان، ففي حين نعتبرها نحن كلمات بريئة وغير مقصودة، فإنّ فرويد يتوقّف عند معانيها الباطنة الدقيقة. بحيث يمكن القول بأنّ زلات اللسان تكاد تكون أمراً محتوماً، إذ تشير الدراسات إلى أن مقابل كل ألف كلمة يتلفظ بها الشخص يرتكب خطأ أو خطأين على أبعد تقدير. فبالنظر إلى أن متوسط كلمات الحديث العادي يبلغ (150) كلمة في الدقيقة، لابدّ أن تحدث زلة اللسان كل سبع دقائق من الحديث المتواصل. وهذا يعني أن كل إنسان يرتكب يومياً ما بين (7 – 22) هفوة لفظية أو زلة لسان[[6]].

إن فكرة القصدية تضعنا أمام مسألة بالغة الأهمية تتعلق بالعلاقة الكامنة بين المقاصد والدلالات اللسانية، وبين المعاني اللغوية والقصد السياقي أو الظرفي، مع الأخذ بكافة الأبعاد المحيطة بالكلام، فضلاً عن أن "زلات اللسان" تعد ظاهرة غير ممكن التنبؤ بها مسبقاً أو توقع حدوثها لاحقاً، وبالتالي فإنها تظل ظاهرة موقوفة على الموقف الذي جرت فيه، بحيث يبدو أن ثمة تواشج بين الدلالة اللغوية والقصدية[[7]].

بدأ الاهتمام بالنظرية التداولية، باعتبارها ردة فعل على معالجات تشومسكي للغة بوصفها أداة تجريدية أو قدرة ذهنية قابلة للانفصال عن استعمالاتها ومستعمليها؛ والسبب الآخر هو التوصل إلى قناعة مفادها أن المعرفة المتقدمة بالنحو والصوت والدلالة لم تستطع التعامل مع ظواهر معينة ذات أهمية بالغة؛ ويمكن اعتبار الإدراك المتزايد بوجود فجوة بين النظريات اللسانية من جهة ودراسة الاتصال اللغوي من جهة أخرى سبباً آخر في الاهتمام بالتداولية. ومن الأسباب الأخرى، اتجاه معظم التفسيرات اللسانية لتكون داخلية بمعنى أن السمة اللغوية تُفسر بالإشارة إلى سمة لغوية أخرى أو إلى جوانب معينة من داخل النظرية، وظهرت الحاجة إلى تفسير ذي مرجعية خارجية وهنا ظهرت الوظيفية اتجاهاً ممهداً للتداولية[[8]].

وفي السنوات الأخيرة، أصبحت التداولية موضوعاً مألوفاً في اللسانيات وفي الدراسات الأدبية بعد أن كانت السلة التي ترمى بها العناصر والمعلومات التي لا يمكن توصيفها بالأدوات اللسانية التقليدية. يقول جفري ليج بهذا الصدد: "إننا لا نستطيع حقيقة فهم طبيعة اللغة ذاتها إلا إذا فهمنا التداولية: كيف نستعمل اللغة في الاتصال"[[9]]. إذ تؤكد التداولية على السياق لأغراض تفسير الدلالة وتأويل القصديات المتراتبة في حقل الكلام، باعتباره ذلك النسق الذي يتضمن هويات المشاركين في الحدث الكلامي والمحددات الزمانية والمكانية والمعتقدات ومقاصد المشاركين، وبالتالي فإن الدلالة وأيضاً المقاصد يمكن أن نجد لها صوراً لانهائية في فضاء من المعاني التأويلية.

والجدير بالذكر أن هناك تواشجاً وثيق العرى بين التداولية واللسانيات الاجتماعية في حقول اهتمام مشترك فقد ساهمت الأخيرة في مجالات معينة من التداولية وخصوصاً في دراسة المفردات الإشارية (الرمزية) الاجتماعية وأفعال الكلام واستعمالاتها. وفي المقابل، تمتلك التداولية الكثير لتساهم به في اللسانيات الاجتماعية خصوصاً في تحليل المحادثات والخطاب والأدوار الاجتماعية ودورها في تحديد صيغ المخاطبة. فضلاً عن ذلك تمتلك التداولية علاقات مهمة وحيوية مع اللسانيات النفسية فهناك علاقة بينها وبين علم النفس الإدراكي وخصوصاً نظريات معالجة وإنتاج اللغة وتطور مفاهيم القوة الإنجازية والتضمينات والافتراضات المسبقة[[10]].

والأمر لا يتوقف عند زلات اللسان وحسبـ بل أن النظرية القصدية في ضوء الطرح التداولي تضعنا في مجال البحث عن معاني ودلالات خارج مجال المعاني القاموسية والمعجمية، والبحث أيضاً عن مقاصد كامنة وخابئة خارج نطاق الملفوظ الاعتيادي وخارج نطاق الكلمة والعبارة التقليدية، إن حركات الجسم أثناء الكلام أو التنقيط وطرق استخدام علامات الترقيم في الكتابة، وكذا تغيرات ملامح الوجه، وتغير سياق الحوار نفسه، والهفوات الكلامية والإنزياحات اللفظية وغير ذلك مما لا يمكن أن نجد له معنى أو نحصره بفهم مقاصدي معين، صارت عناصراً ومكونات هامة لا يمكن استبعادها عند تحليل الكلام وتفسير المقاصد، فضلاً عن معضلات الوصول الى المقاصد نفسها في فضاء لا منتهي من المعاني والتأويلات.

ختاماً، وعلى أساس اهتمام النظرية التداولية بدراسة المعنى والمقاصد الكامنة وراء الكلام كما هو موصل من المتكلم ومُفسر من قبل السامع أو القارئ. وكنتيجة لذلك فإن التداولية تعمل أكثر على تحليل ماذا يريد الناس بخطبهم عوضاً عن كلماتهم أو عباراتهم، فهي إذن دراسة معنى المتكلم، وهذا النوع من الدراسة يشمل تفسير معنى الأشخاص في سياق ما، وكيف يؤثر هذا الأخير على المقال، مما يتطلب العناية بكيفية تنظيم ما ينبغي أن يقال طبقا لنوعية السامع والمكان والزمان والظروف...

ويبقى هنا واحداً من آخر الأسئلة، ترى ما الذي إلتفتنا إليه من هذا كله في دائرتنا العربية؟!- إنه بلا شك سؤالٌ محرج جداً..

*** ***

الهوامش:

[[1]]. مبارك، د. محمد رضا: اللسانيات المستقلة من الدلالة التمثيلية الى الدلالة التواصلية، مجلة الباحث الإعلامي، العدد (6-7)، جامعة بغداد، العراق، حزيران، 2009. ص 64.

[[2]]. الزغلول، سلطان: (المقصدية) .. نظرية المعرفة وآفاق اللغة والأدب، ملحق الثقافة، صحيفة الرأي، 20 أبريل 2012: على الموقع الالكتروني:

http://www.alrai.com/article/507251.html

[[3]]. المرجع السابق.

[[4]]. مقبول، إدريس: في تداوليات القصد، مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الانسانية) المجلد (28) (5)، 2014. ص 1211.

[[5]]. Brown and yule. (1997). Discourse Analysis , (trans by mohamed lutfi and mounir atariki), saud university: anachr al- ilmi, p279.

[[6]]. الزغلول، سلطان: (المقصدية) .. نظرية المعرفة وآفاق اللغة والأدب، المرجع السابق. (بدون ترقيم الصفحات).

[[7]]. Ibn Hichm. A., Mughni al-Labib an Kotob al-A aarib , tahkik mazin al-mobarak and all, Beirut: Dar al-fikr, 1992. 2/274.

[[8]]. روبول، آن وَموشلار، جاك: التداولية اليوم، ترجمة: سيف الدين دغفوس وَمحمد الشيباني، الطبعة الثالثة، دار الطليعة، بيروت، 2003. ص 43.

[[9]]. أرمينكو، فرانسواز: المقاربة التداولية، ترجمة: سعيد علوش، مركز الإنماء القومي، الرباط، المملكة المغربية، 1986. ص 10.

[[10]]. روبول، آن وَموشلار، جاك: المرجع السابق، ص 20.


  • 2

   نشر في 27 يوليوز 2021 .

التعليقات

بالرغم من أني بعيد عن هذا العلم ولم أهضم جدواه وثمرته إلا أن طرحك له كان مميزا خصوصا زلات اللسان، وعلامات الترقيم أرجو أن توسع فيهما
0
فكري آل هير
إن شاء الله

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا