روحـــــــي، روحــــــي - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

روحـــــــي، روحــــــي

  نشر في 25 نونبر 2019 .

من الظواهر الاجتماعية التي اختفت منذ سنين طويلة، أولئك الغرباء الذين كانوا يظهرون في قريتنا في الخريف قادمين من وراء الجبال الغربية. يقيمون في الاسطبل مع الحمير والبغال او في المسجد وفيهم من ينصب خيمة على تخوم القرية وفيهم الدرويش الذي حاز ثقة اهل القرية فمكنه احدهم من مخزن متفرع عن سقيفة حوشه او حانوت مستقل...

بيض البشرة، حمر الخدود، زرق العيون، صفر الشعر... كان الكبار يقولون لنا انهم يخطفون الاطفال ممّن كانت خطوط أكفّهم تشق اليد بالكامل ليذبحوهم ويقدموهم قرابين للجن حتى يساعدهم على استخراج الكنوز الخبيئة. كنا مسكونين بالهلع منهم، نتطلع طول الوقت الى أكفّنا لنتأكد من أنّ خطوطها تقف في منتصف الكفّ ولا تشقّه بالكامل... كان حديث الكبار عن الغرابة ينمّي لدينا احساسا مزدوجا بين الخوف والفضول... ولذلك لم نكن قادرين على مقاومة جاذبيتهم. فقد كان لديهم ما يشبه المغناطيس يجعلنا نتقفى خطاهم ونتحلق حول الواحد منهم في بطحاء السوق وهو يبيع العقاقير والزيوت الروحية وزهم النعام وكتب الروض العاطر والايضاح في علم النكاح والفية ابن مالك ونهج البردة... كانوا يقلعون الاضراس ويشفطون الدم الفاسد بالمغايث ويكتبون التعاويذ والحروز... وكان فيهم الحكواتي الذي ينتصب محدثا عن تغريبة بني هلال... وإن نسيت فهل يمكن أن أنسى "روحي روحي" ذلك الشيخ النحيف الوقور النظيف، ذا الصّوت الأبحّ واللّحية البيضاء والوجه المتورد؟ شيخ حاضر البديهة غزير الحكي طريف الكلام، كنا نسميه "روحي روحي" لانه كان كثير الاستخدام لهذه العبارة كلّما خاطب شخصا... كان ينام تحت أقواس المسجد الكبير ليلا، ويتمرفق على كدس من الرمل الناعم بجوار المسجد بقية النهار... كان لا يدعو أحدا اليه ولكننا ماإن يجنّ الليل حتى نتقاطر على مجلس "روحي روحي" الذي يطاوعه لسانه لارتجال ترحيب مختلف بكل قادم جديد، فيه من الشعر والزجل والكلام الملغز ما يزيد من انبهارنا...

اما نساؤهم فكن ينتشرن في احياء القرية حاملات اطفالهن على ظهورهن في صرر من القماش المربوط الى صدورهن. كن يطرقن ابواب البيوت لقراءة الاكف... وكان الشباب يترصدونهن في منعطفات الازقة ويتحرشون بهن ويعطونهن كل ما يملكونه من دنانير من اجل ان يمسكنهم من ايديهم فتتكهرب اجسادهم... وكانت امهاتنا يسارعن الى اخفاءنا عن انظار تلك النساء الساحرات خوفا علينا من الاختطاف...

ثم جاء زمن يباب اندثر فيه هؤلاء الناس الذين كانوا ينعشون خيالنا وينشطون عقولنا وفقد سوق القرية سحره وجاذبيته... وظهر في السوق صعاليك يخطفون الامن والمال والنساء...


  • 2

   نشر في 25 نونبر 2019 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا