ماذا أرى - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

ماذا أرى

قصة غريبة

  نشر في 01 نونبر 2021  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

غابت الشمس، و غاب معها احساسي بحقيقة الأشياء، هناك نوع من اللهفة يسيطر علي كلما اقترب المغيب، تلك اللحظة حينما تمتد يد الغيب لتضع ذلك المنظار على عيني، فتبدأ مظاهر الأشياء بالتبدل، أو لربما تعود للتشكل بهيئتها الحقيقية التي لربما قد أخفاها النور أو حتى بدل جوهرها.

غابت الشمس، و لم أعد واقفا أمام مدخل العمارة الهادئة التي أسكن فيها، فالجدران العالية بنية اللون أصبحت متآكلة و مليئة بما يشبه الشظايا، بينما تنز سائلا أصفر اللون من كل بقعة يبدو أن الشظايا قد اخترقتها، و حيث كانت نوافذ الشقق صغيرة الحجم أستطيع أن أرى عيون متلصصة كبيرة الحجم، جاحظة لدرجة التدلي خارج الجدران، و فيما أحاول تجاهل ذلك و أنا أدخل المبنى لاحظت أن الباب الكبير الذي هو بوابة العبور لهذا العالم المنفصل اختفى هو الآخر ليحل محله فم فاغر ظاهرة أسنانه الصفراء فيما يمتد اللسان على الأرض و كأنه سجادة حمراء تشبه تلك التي توضع لكبار الزوار في في التشريفات، او تلك التي يستقبل فيها نجوم السينما و الغناء ليتم تصويرهم عليها.

تم ابتلاعي، هذا ما أحسست به و أنا أتجاوز الباب/الفم لداخل المبنى الذي أسكن فيه، و كنت أنظر لجدران صالة الإستقبال الدبقة في انتظار أن تطبق علي في مجاراة للمشهد الكامل لعملية المضغ غير أنه لم يحدث شي ء من ذلك، كانت الجدران في مكانها إلا أنها كانت أبعد ما تكون عن الثبات، فالجدران التي تغطيها السوائل الدبقة كانت تتموج بحركات الإنقباض و الإنبساط فيما تنتظم حركة إيقاعية تشبه النبض خلالها و استنفرت أذناي لسماع ذلك النبض الذي يصدر من مكان ما في هذا المبنى الملعون بالحياة.

تجاوزت الصالة، و بدأت في صعود الدرج، غير أنه لم يكن الدرج نفسه الذي نزلت منه هذا الصباح، فالدرج الصاعد المنتظم الذي لا يعرف إلا اتجاهين متعاكسين أصبح لولبي الشكل، عبثي المنظر، و لم يعد يتوقف عند كل طابق، حيث يمكنك اختيار الطابق الذي تود زيارته، أو حتى يمنحك الفرصة للتلصص على أبواب شقق الجيران الذي قد يصدف أن يكون أحدها مفتوحا ساعة مرورك و قد ترى منه ما لا يجدر بك رؤيته، أو قد ترى أحد جيرانك مغادرا شقته فترفع له يدك بالتحية و قد تتجاسر أحيانا و ترفقها بكلمة أو كلمتين من كلمات المجاملة التي تحفظها عن ظهر قلب من أجل مواقف مثل هذه إذا ما فرضت نفسها عليك. كان الدرج مثل القدر، لا يأخذك إلا حيث يجدر بك الذهاب، و لا أدري لماذا كنت أتذكر و أنا أصعد الدرجات قصة تلك الدجاجة البلهاء التي حلمت بالطيران، ربما أنا مثلها، أبحث عن شيء خارج هذه الحتمية التي نرضخ تحت ثقلها، نرى عبثية هذا العالم الذي لم يمن علينا بأجنحة لكي نتجاوز ما قد رسم لنا. كنا نحن الإثنان، أنا و الدجاجة، نرى الأشياء بمنظار الرغبة المتوقدة في نوع غير ممكن من الحرية، و ان اختلفت أسبابنا إلا أننا نبحث في العمق عن الشيء ذاته.

هذه الدرجات تقاسم جدران المبنى غرابته و تزيد عليها، هي أيضا يعلوها السائل الدبق نفسه، و كنت لأتمسك بالحاجز الجانبي خشية الإنزلاق و السقوط لولا أن الحاجز الجانبي للدرج يعلوه نفس السائل، فلم يكن هناك مفر من الصعود البطيء الحذر، غير أن ما أثار استغرابي أكثر من غيره، هو أن كل درجة أرقاها لأصعد الدرجة التي تعلوها، تبدو كما لو أنني أدهس الحياة فيها فتموت تحت قدمي و تنطفيء، كم من الحياة سأطفيء تحت قدمي في هذا الصعود الغريب؟ لا أدري كم درجة ارتقيت قبل أن أصل لنهاية الدرجات، أصبح الدرج تحت أقدامي جثة غادرتها الحياة، فهل كان صعودي لمسكني جريمة أخرى تضاف لجرائمي التي أرتكبها للضرورة؟

وصلت للطابق الذي تتقاسمه شقتي مع شقتين أخريين، كان الطابق صورة أخرى من صالة الإستقبال بالأسفل إلا أن أبواب الشقق لم تتغير و لم تتحول هي الأخرى لأفواه، أراحني ذلك، ففكرة أن أذلف لشقتي و أجلس في فضاء فم عملاق أكثر مما أستطيع احتماله. نظرت لباب شقة جاري أحمد فوجدته عاديا، غير أن هناك سائل أخضر كريه الرائحة يسيل من أسفل الباب إلى أرضية الطابق، و كان مثل الشيء يحدث عند باب شقة جاري الآخر عدنان، كانت الرائحة الكريهة تملأ الطابق، غير أنني عند النظر لباب شقتي لم أجد أي سوائل تنز من فتحة الباب فزاد ارتياحي، و أسرعت لأدخل المفتاح في قفل الباب غير أن الباب الخشبي الذي تعودت على رؤيته مرتان يوميا، عند المغادرة صباحا و العودة مساءا، كان على غير العادة يخلو من أي قفل يمكن أن يستقبل المفتاح الذي أحمله في يدي.

توقفت ضائعا أتطلع للباب أمامي بفم مفتوح و عقل شبه غائب، انصهرت كل أحلامي و رغباتي في رغبة و حلم واحد، لم أعد أريد أي شيء في هذه الدنيا سوى فتح هذا الباب و دخول الشقة، تحولت شقتي التي طالما ملأتني بالملل و اعتبرتها عقوبتي الدائمة التي لن أستطيع منها فكاكا إلى الجنة التي لا أريد في هذه الدنيا شيئا غير دخولها، تحول سريع في قائمة الرغبات جعلني أدفع الباب و شفتاي تتمتمان بالصلاة و الدعاء. انفتح الباب، لا كما ينفتح باب غير مقفل، بل كباب ما كان لينفتح إلا عندما تدفعه اليد المناسبة، بدأت راحة كبرى تجد طريقها لي، انفتح الباب، و دخلت لينغلق خلفي، لربما العزلة ليست سيئة تماما، إنما السيء كان احساسي أثناءها، و قد تغير ذلك.

انتهى



  • عصام
    أحب الكتابة بكل أشكالها
   نشر في 01 نونبر 2021  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا