كلمات فقط
( ليلى بجانبي , كل شيء إذن حضر) , هكذا قال أحمد شوقي على لسان مجنون ليلى في قصيدة له غنتها أسمهان , هنا تنادي ليلى قيس , وقبل أن يسأل عن سبب هذا النداء أو يلبيه , حدث نفسه بما وجد من لوعة لصوتها , ولمجرد إحساسه بقربها , جمع ما يمكن لرغبات الوجود والبقاء أن تأمله , وعلى الأقل ما يتمحور وجوده وبقاءه حوله , مجرد كونها بجانبه في تلك اللحظة , وسماعه لها تنطق اسمه , هنا فقط تتحقق أمانيه ومتطلبات وجوده وكل ما يحلم به , هنا فقط تحضر الأشياء , شوقي عندما استخدم لفظة كل شيء , اختصر ما يمكن للبشر من البحث عنه وتمنيه وبذل الغالي والرخيص في سبيل نيله , كلمة تشتمل على كل معاني الرغبة وحب الاستحواذ التي يمكن لها أن تخطر على بال مخلوق , إنها كل شيء فقط التي لا يمكن لأي أمنية أو رغبة أن تنفلت من عقالها , وربما تذكرني تلك المفردة الشاملة العبقرية بتلك الآية العظيمة (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) , فكلها تعني كل مفردة يمكن أن توجد في ثقافة البشر , ولكن كل شيء عند شوقي محصورة في أبعاد قلب قيس العاشق , والتي تتضمن كل ما يخطر على بالنا من متطلبات السعادة والحب والشوق واللهفة والرضا .
هل جاء قيس عبر ليل الصحراء المهيب فعلا ليطلب نارا من خيمة ليلى , أم ليزيد نار قلبه اشتعالا وتلظي ؟
أم هل جاء ليطفئ نار العشق بنار الحطب ؟
إن الخوف الذي عبر عنه والد ليلى من أن يشعل قيس البيت نارا هو الخوف من الفضيحة والعار من أن تعرف القبيلة أن ابنته عاشقة لقيس كما هي حياتهم في البادية , ولكن وكما حفظت لنا حكايا العشق القديمة أن كل مجانين العشق لم توقفهم تلك المخاوف , بل تحدوها وتحدوا أعراف القبيلة وقاوموها .
اللغة العربية عبقرية في المفردات خاصة التي تعبر عن عالم من الدهشة والخيال الحالم عبر كلمات قليلة , وربما نعرف بعضها وتغيب عنا الكثير منها , وربما يمر بخاطري كلمات لنزار قباني يقول فيها ( قد تغدو امرأة يا ولدي يهواها القلب هي الدنيا ) , فهنا يختصر نزار الدنيا بحبيبة فقط .
الشعراء في كل واد يهيمون , وهم يختصرون العالم في حبيبة , وكأن الوجود خلا من المشاكل والإحباطات والهموم , هم يتصورون كثيرا أن هذه الحبيبة هي كل شيء , هي النعيم والألم , ورضاها هو أقصى ما يأملونه , هي الشمس إذا ابتسمت , والمطر إذا بكت , والقمر إذا نظروا لعينيها , عند أقدامها تنتهي خطوات العمر , وبين أحضانها يتوقف الزمن , وكل الجحيم إذا غضبت , هذه الصور الشاعرية تكاد تتشابه في كلماتهم وأحاديثهم , وتتقابل أرواحهم في خلواتهم بأحلام اللقاء والعناق , يكادون يسبحون في تنهدات حبيباتهم ويحترقون بين آهاتهم .
ربما كان الحرمان والبعد واليأس من اللقاء هو الشيطان الذي يخرج تلك المشاهد الحميمة , فكل أبطال تلك الروايات يصوغون أبهى الكلمات ودرر القول , وأعذب الشعر , لمن لا يُطال غالبا , أو في لحظة مسروقة من الزمن , أو بعيدا عن عيون الرقباء , أو بعد أن يفرض القدر أمره بالبعاد والافتراق , ولا أعرف إن كان هناك شاعر سطر تلك المعجزات اللفظية المعبرة لزوجة هي حبيبة أو حبيبة هي زوجة , بل ربما انتهت مسرحيات البذخ اللفظي بين حبيبين بمجرد الزواج .
إن الشعور بالتملك والأمان من الفراق والفقد , وحتى مجرد التفكير بنيل اللحظات الغرامية الحالمة بسهولة وأمان دون مجابهة لحظات الخوف والجرأة وتجاوز المحاذير بكل أنواعها , ربما يكون قاتلا بغيضا لولادة العشق الصاخب , إن للعشق الممنوع خارج إطار الزواج شيطانه الشقي واللعوب الذي يتلذذ بسكب اللوعة في قلوب البشر , وهو ذات العشق الذي يفجر أنهار الشعر في قلوب البؤساء من الشعراء , والذي يساهم في تشكيل الكلمات المعبرة عن المشاعر الملتهبة , فهذا عنترة يصف حبه لابنة عمه والتي يُقال أنه لم يتزوجها :
وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ ... مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي
فَوَدَدتُ تَقبيلَ السُيوفِ لأَنَّها ... لَمَعَت كَبارِقِ ثَغرِكِ المُتَبَسِّمِ
هنا تشبيه عبقري مذهل , فالرماح والسيوف بعد أن اصطبغت بدماء الأعداء ذكرته بثغر عبلة رغم قسوة المعركة وتحليق الموت على الفرسان , فالشوق والفقد والبعد الذي يعايشه عنترة نحو عبلة حول مشاعر البؤس تلك إلى كلمات خالدة لن تُنسى .
وكذلك محمود درويش يصف حبه بكلمات قليلة ولكنها تجسد عشقه وكأننا نراه كائنا حيا فيقول :
نسيمك عنبر
وأرضك سكر
وإني أحبك.. أكثر
ويقول جرير :
يا أمَّ عمرو جزاكَ اللهُ مغفرة ً
رُدّي عَلَيّ فُؤادي كالّذي كانَا
ألستِ أحسنَ منْ يمشي على قدمٍ
يا أملحَ الناسِ كلَّ الناسِ إنساناً
هنا يراها جرير أملح الناس , ومن المؤكد أنها كذلك في نظره فقط , ويُحكى عن أحد كبار العاشقين أنهم عابوا عليه عشق محبوبته رغم دمامتها , فرد عليهم خذوا عيوني وانظروا بها , فالمحبوبة تحتل عقل ولسان وخيال حبيبها فقط , بل تكون أحيانا مركز الكون بالنسبة له , فهو يصوغ أحلى الكلمات وأكثرها رقة لما يراه هو لا نحن , هناك الكثير من الأمثلة على عبقرية الكلمات التي استخدمها العاشقون في مختلف العصور , وهذا ليس مقام ذكرها , ولكن البعض منهم استطاع أن يعلق بضعة حروف على جبين الدهر كجوهرة من عشق صاغها في حروف قليلة نارها من فراق وفقد , ولمعانها بُعد لا لقاء فيه .
-
adelmolehhttp://adelansare6.blogspot.com/