عانسي المفضلة!
"محاولة لتجاوز ألم الفراق عن طريق الكتابة"
نشر في 29 غشت 2017 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
آخر ما دار بيننا كان حوار وداع وبحق كان الوداع الأخير !
قبل عام احتضنتها للمرة الأخيرة فى طريقي لبدء تجربة علمية جديدة !
أخبرتني أني لن اجدها عندما أعود! لانها كانت مريضة جدا !
لم اصدق لانها رغم المرض قوية جدا جدا حد الألم!
بالرغم من ذلك، رفضت الذهاب للأطباء وكانت تكره الأدوية !
فاطمة كانت أقوى امرأة قابلتها فى حياتي، جميلة بشموخ، عاشت أعوامها التي عدت الثمانين ربما! دون أن تخضع للمجتمع لم تتزوج مثل باقي قريناتها و لم يؤثر بها لقب عانس البتة.
كانت العانس المفضلة لى و ستظل كذلك للأبد!
فاطمة الشيخ أكبر إخوة أمي، صوتها عالي و كلامها موجه دايماً و مقصود لا تجامل و لا تفاوض، خاسر من يقف أمامها، يحترمها الكبير قبل الصغير ،ظلت تعمل حتى آخر أيامها بكد و دون تعب، كل من في الحي يعرفها.
ماتت فاطمة! ماتت بعد أن فارقت الحياة تدريجياً !
بدأت بالموت منذ ما يقارب العامين، لقد رأيت الحياة و هي تغادرها كل يوم وهي تقاوم ! لم أراها فى أيامها الأخيرة و لا ادري هل هو الحظ العاثر أو الجيد ،وددت لو أمسكت بيدها و هي تقول كلماتها الاخيرة ،و لكني أيضا ليست لدي تلك القوة لاري الموت يأخذها بعيدا ،لم اراها فى شبابها قط! جئت الى الحياة لارى لقب عانس قد حل مسبقا امام اسمها ! جميلة فاطمة الشيخ منذ أن وعيت على الحياة لم تتغير في نظري بقوامها الممشوق و عيناها الواثقة و لونها القمحي، لم تتعاطى كريمات التجميل يوما و لم تأبه للون الثوب الذي ترتديه مادام ساترا لا يشف.
لطالما تسالت هل احبت يوما؟ و كيف كان شكلها وهي عاشقة ولهانة ،لازال صوتها يتردد في أذني و هي تردد صلواتها و دعواتها ، لازلت اسمع صوت زغاريدها يوم نجاحي في الثانوي و في مرحلة الاساس قبله، عندما علمت انها رحلت الى الابد أخبرت والدي : " لكن من يزغرد يوم نجاحي بعد تحصيل الماجستير؟ "
لان لا احد في منزلنا يجيد ذلك غيرها ، لكن رحلت فاطمة ولازلت لا استطيع ان اتقبل لقب " مرحومة " أمام اسمها، لأنها لازالت حية بداخلي.
المرحومة فاطمة !! هي غاليتي التي احببتها دون ان اخبرها صراحة ،كان صعب علينا تبادل لغة المشاعر، لطالما كانت فاطمة لا تتعامل جيدا في ما يتعلق بالاطفال و المشاعر، لذلك لعبنا و نحن صغار بجوارها و نحن نهاب أن نثير إزعاجها و كبرت لكي أتعلم كيف أجلس إلي جوارها في هدوء و صمت او ان اخبرها عن أحلامي لقد كانت مؤمنة جدا بي! و كانت فخورة.
انا واثقة انها الان في مكان اجمل و أرحب و أرحم كذلك! لانها تستحق ذلك. كانت حياتها ليست بالسهلة و لكنها كانت جسورة تأخذ كل شئ من الحياة المر و الحلو على حد سواء لم تلتفت يوما إلى جموع الصغار المشاغبين في الحي البائس يصرخون بها "عانس "، لم تلتفت إلى النسوة في السوق يضعونها تحت بند " فتاة " كأنه عار ما !
فى مجتمع يصعب على الفتاة ان تحيا به بدون رجل، كانت فاطمة فرحة سعيدة، تشتري بضاعتها من سوق أم درمان كل سبت و تعرضها للبيع فى باقي أيام الأسبوع ،تعمل كل يوم لا اذكر انها جلست يوما واحدا في البيت دون عمل، لم تنتظر معونة أو عطف أو أى مال أو أى عاطفة من أحد ،كانت فخورة و الحديث معها غير ممل.
لقد كانت عانسي المفضلة !
لكن ماتت فاطمة وأنا على بعد أميال من الوطن و لم يخبرني أحد !
حتى حين عودتي إلى المنزل حيث لم أجدها ،فقد ضاجعها الموت على فراشها ! فماتت عانسي المفضلة عذراء بشرف أرعب الموت !
الخرطوم 23 أغسطس 2017
-
فائقة العوضمدونة سودانية فى عشرينيات العمر، تكتب عن الحياة!