لاطالما راق لي قول المتنبي "وَما الخَيلُ إلاّ كالصّديقِ قَليلَةٌ، وَإنْ كَثُرَتْ في عَينِ مَن لا يجرّبُ" حيث تتزاوج جمالية اللغة وعمق المعنى،فيما معناه ان ندرة الخيل الجيدة شبيهة إلى حد كبير بندرة الصديق بمعناه الحقيقي ،ولسان حال اليوم ابلغ من يصف هذا الحال ،فليس سهلا ان تجد كما يقال صديقا صادق الوعد منصفا .
وليس فيما قيل نكران لوجود الصديق بقدر ماهو إشادة بعلو المكانة التي يختص بها الصديق دون غيره ،فالصديق من تلمس وجوده وإياك في أحلك لحظات الحياة قبل المبهجة منها ، إنه الاخ الذي لم تلده لك امك ، السند والعضد حين تجد نفسك واقفا واحدا وحيدا إزاء عواصف الحياة لينتشلك من دوامة الرياح التي قد تعصف بك ايما عصف ،فيمد يد العون بنصح تارة و سؤال تارة اخرى ،انه ذلك الانسان الذي لا يتوانى عن وضع عيوبك امام ناظريك ،ولايسعه مدحك ليرضيك فقط ! انه ذلك الانسان الذي قد لا تسعفك الظروف ان تراه كل حين غير ان وثاقة ومتانة الثقة بينكما اكثر ما يمد حبال الوصال بينكما ، انه الذي يشاطرك الكينونة بجميع تفاصيل ذاتك قبيحها وجميلها ،معه قد ترسم لذكريات ملؤها العفوية و اقصى ما يمكن ان يبدو به المرء إنسانيا وكونيا،لاتسع الكلمات بغزارتها وصف مناقب الصديق ،من جميل الحظ ان يكون للمرء صديق بمعنى الكلم دون تلبس بمعنى المعارف ،انه بوصلة المرء حين يتيه فجأة ،قد يكون موجودا بصفة الندرة غير ان امتلاكه من صور امتلاك الحياة للمعنى ،فليس الصديق فقط من تشاطر معه معظم وقتك بل هو ذاك الذي فيه ماسلف ،الذي تتجاوز معه حدود المعهود من سطحيات الامور وعمومها ،ليكون الحديث ساميا فيه مافيه من عمق يغري بالاستمرار فيه دون انقطاع ،حديث العقل للعقل ،شحن الهمم وشحد الجهود ،وتدارس العميق من حيثيات الوجود حتى و ان كان مجرد سؤال قد يبدو طفوليا للغير .
وللقاريء العزيز ان يدرك مكانة الصديق في زمن يضيق بكثرة المعارف وان بدت قريبة ،فطوبى لروح الصداقة فقد كانت الدافع وراء ما خطه وجداني قبل قلمي ،وهو اهداء لمن كانوا لي سندا في محني وخير العضد ولعلهم ادرى الناس بما اقول ،كانوا هنا ولازالوا ! وليت قلمي ينقل مدى امتناني لوجودهم وكذا لاقول اني محظوظ ان نالني من ندرتهم عدد قليل ،يغنيك عما سواهم ،فلا يذخرن المرء جهدا للحفاظ عليهم .