غوستاف يونغ في محالة لفهم سيكولوجي للإنسان المعاصر
قراءة في كتاب
نشر في 18 يونيو 2017 وآخر تعديل بتاريخ 09 نونبر 2022 .
من أكثر العلوم التي تلقى مصنفاتها و دراساتها إقبالا كبيرا من طرف القراء هو علم النفس ، لما يعتقد الناس (خصوصا في مجتمعاتنا) بأنه علم يدرس شيء اسمه "روح" أو "نفس" و هذا خطأ شائع ، لذلك يجمل بنا أولا أن نصحح ما تخشب في عقول بعضنا خطأً ؛ لنؤكد أن العلم ابستمولوجيا -أي علم- لا يدرس شيء رمزي غير قابل للتجريب و الملاحظة و القياس و إعادة التحقق ، أو بكلمة "لا يدرس العلم شيء لا يدخل للمختبر" ، لذلك فبما أن الروح أو النفس شيء رمزي لا يمكن ملاحظته أو لمسه و بالتالي لا يمكن دراسته علميا ، فما موضوع دراسة علم النفس إذن ؟ هناك أكثر من 60 فرع تخصصي في البسيكولوجيا حسب الجمعية الأمريكية لعلم النفس ، إذ يدرس هذا العلم مجموعة من الموضوعات منها : دراسة السلوك الإنساني و الحيواني - الذكاء و اللغة - المخاوف - الشخصية -الإندماج و التكيف - التَّعلم - الإحساس و الإدراك و غيره من العمليات العقلية - الذاكرة ثم الأمراض العقلية كالفصام و الذهان و الصرع (...) و به يتضح أن موضوع علم النفس ليس رمزيا بل ظواهر سيكولوجية قابلة للقياس و الملاحظة و بالتالي الدراسة العلمية .
اخترنا في هذه المشاركة قراءة في أحد كتب أهم علماء النفس في القرن العشرين ، و هو "كارل غوستاف يونغ" الذي ولد سنة 1875 في كسويل بسويسرا ، بحيث التقى مع "سيغموند فرويد" الغني عن التعريف ، لكن سرعان ما افترقا سنة 1913 نظرا لاختلافات نظرية بينهما في بعض التفسيرات السيكولوجية ، ما جعل يونغ يرسم طريق تفكيره السيكولوجي بعيدا عن أب "مدرسة التحليل النفسي" . إذ اختطت يداه الكثير من الكتب لعل من بين أكثرها قيمة كتابه الذي يحمل عنوان "التنقيب في أغوار النفس" ، الجميل فيه أنه يحمل أفكارا مستفزة و في حجم لا يتعدى 106 صفحات ، موزع على سبع فصول تتعالج مسائل اجتماعية و دينية و فلسفية من زاوية سيكولوجية .
يمكن أن نجمل أطروحة الكتاب أن : " كارل يونغ يحاول فهم الإنسان بشكل عميق و غير علموي ناضح باللااعتبارية لسيكولوجية الإنسان ، ما يدفعه إلى التأكيد أن بقاء حضارة الإنسان تتوقف إلى حدّ كبير على سدّ الفجوة المتسعة بين جانبي الواعية و الخافية في النفس الإنسانية ، إذ يحذر بشكل جدي من اختزال الإنسان إلى أرقام و إحصاءات تُغَرِّبه عن كينونته باسم العلم ، ما يساعد الدولة على تغوله و الحد من فاعليته . بحيث وصف يونغ الإنسان مطولا ليُبيَّن أن و هو يعيش في عصر لم تعد تهدده فيه الكوارث الطبيعية ولا أخطار الأوبئة العالمية ، بات عرضة لأخطار التغيرات التي تحدث داخله ، فقط عندما يفهم الفرد ثنائية طبيعته -قدرته على إتيان الشرّ كقدرته على إتيان الخير- يستطيع أن يفهم ويكافح الخطر الذي يأتي من قبل من هم في السلطة" .
يستهل غوستاف يونغ كتابه كما هي عادة مؤسسي فروع العلوم الإنسانية "بالنقد" ، نقد المناهج العلمية في زمانه التي تدرس الإنسان بطريقة يراها يونغ اختزالية ، إذ ثرَّب (استنكر) بشدة المنهح الإحصائي الذي يساوي الإنسان برقم ليس إلا ، ما يجعل هذا المنهج يَعدم القدرة على تقديم صورة حقيقية للإنسان و للظواهر السيكولوجية بشكل عام ، هذا كميا أما نظريا فيؤكد يونغ أن معرفة النفس لا يمكن أن تتأسس على مسلمات نظرية ، هنا يقول: "تقدم لنا المناهج الإحصائية و العلوم بما فيها الطبيعية ، العالم و كأنه خال من البعد النفسي السيكولوجي عكس العلوم الإنسانية " ، ما يدفعه إلى التصريح بأن الرغبة في فهم الإنسان يجب أن يسبقها طرح لجميع المناهج الإحصائية و النظريات التخيلية جانبا ، و مقاربة الإنسان من زاوية عميقة أكثر ، هنا يقترح يونغ أن "معرفة النفس الإنسانية مسألة تحصيل معرفة وقائع فردية" ، غير أن "الدولة" في نظره تَعتور هذه المقاربة لتحصيل معنى الإنسان ، إذ تماهى معنى هذا الأخير مع الدولة و مقتضيات المجتمع ما شوه معناه أكثر فأكثر أو زاد بعداً على أبعاده ، نقتبس هنا توضيحا لذلك بتعبير يونغ : "لم يعد هدف و معنى الإنسان كامنا فيه ، بل في سياسة الدولة التي تجنح إلى انتزاع حياته لنفسها" ، لا يتوقف الأمر هنا بل يمتد ليظهر في معالجة الإنسان سيكولوجيا ، ينبه يونغ و يربط تعقد ذلك بتعقد وضعية الطبيب النفسي مع المريض ، إذ يتلخص عَملُه في "فهم" الإنسان المريض قبل معالجته و هو أمر ليس باليسير .
ينتقل بعد ذلك يونغ إلى فصلين جميلين يحلل فيهما "المسألة الدينية" في علاقة ذلك مع الدولة الحديثة و المعرفة العقلانية ، و هو ما أصابني بدهشة خصوصا و أنني كنت أعتقد أن يونغ شخص "لاديني أو ملحد" كصديقه "فرويد" و كأغلبية معاصريه من العلماء ، غير أن كتابه هذا يوضح مدى و شكل إيمانه العميق ، إذ يشجب في الفصل الثاني بشدة حلول الدولة محل الله في أوربا خصوصا في شكل الدولة الإشتراكية السوفييتية (لا يقصد بذلك العلمنة) ، كما يستنكر قضائها على الفرد و على قواه الدينية عبر تجريده من الأسس الميتافيزيقية و الروحية لوجوده ، يقول يونغ في هذا الصدد "لا يجد الإنسان تبريرا حقيقيا لوجوده و لا لاستقلاله إلا عبر الإيمان بمبدأ غير دنيوي (أي ديني)" ، غير أن تحريف هذا المعنى بسبب بعث الدولة الحديثة أدى بيونغ إلى تمييز الدين religion عن العقيدة creed ، فالأول يعتبره علاقة شخصية مع الله و الثاني تعبير عن ايمان جمعي ، ما يجعله يلاحظ أن الدولة الحديثة نفخت في العقيدة بل تغولتها و ازدَرت (استهزءت أو حطت من قيمة) الدين ، يقول يونغ "إن الدين يعلم للناس سلطة أخرى غير سلطة الدولة" ، هذا التعارض يجعل هذه الأخيرة تستبعد الدين لكي تستفرد بسلطان الطاعة و جبروت السلطة ، ما يجعلها تجرم في حق الإنسان رمزيا و روحيا .
في الفصل الثالث يقارب يونغ "موقف الغرب من الدين" ، فهو يُقر بأن الدين قيمته تضاؤلت في أوربا و لم يصبح سوى عقيدة موروثة ، ما أصاب الإنسان الغربي بفراغ روحي دائما ما يَتخطَّفه على شكل أمراض نفسية و عقلية ، إذ يلاحظ يونغ أن تضاؤل حضوة الدين جاء بعد تعاظم قيمة العلم و الفلسفة في أوربا ، ما جعل الأوربيين يسقطون في وهم إمكانية تعويض وظيفة العلم لوظيفة الدين ، إذ يؤكد يونغ أن "النقد العقلاني للدين لا ينفي وظيفته السيكولوجية الإيجابية" فالدين حسب رأيه يعمل على حفظ التوازن النفسي بين عالمين مادي و رمزي لا يفتئ التفرغ للإهتمام بأحدهما حصرا حتى يُحدث الآخر مشاكل فكرية وفلسفية و أكيد نفسية و وجدانية ، غير أن المصالحة بين هذين العالمين ليست بالسهلة خصوصا مع المعرفة العلمية التي لا تعترف سوى بالمادي و لا تصدق ما لا يصدقه العقل ، ما يجعل يونغ يؤكد أن الدين مستودع فكر لاعقلاني فعلا إلا أن إمكانية عقلنته قائمة ، كيف ذلك ؟ يقترح غوستاف يونغ تأويل الأفكار الدينية بشكل رمزي حتى نفك التناقض بين العقل و الدين ، يضرب المؤلف مثال قيام "السيد المسيح" من القبر بعد موته ، إذ يفضل يونغ الإعتراف بحصول ذلك بشكل رمزي ، و هو ما يولد معاني و أخلاق و قيم سامية مثلها المسيح عبر تسامحه و وعده بفداء و خلاص المؤمنين ، يحرض على ذلك بقوله: "ألم يحن الوقت لكي نفهم الميثولوجيا المسيحية فهما رمزيا بدل القضاء عليها نهائيا" ، معلوم أن الميثولوجيا هو علم الأساطير ما يوضح أن يونغ يعتبر القصص المسيحية أساطير ، غير أن لها معاني سامية تخلف في من يعتقد بها أثرا سيكولوجيا إيجابية ، هنا نختم بقولة يونغ البليغة : "إن الذي لا يتعلق بحبل الله لا يستطيع بالإعتماد على موارده الخاصة ، مقاومة ثقل العالم المادي و المعنوي" .
يَعرُج بعد ذلك يونغ في باقي الفصول إلى توضيح مقاربته لفهم الإنسان نفسيا ، فهو يوضح أن "الإنسان أكبر لغز بالنسبة لنفسه" ، من أجل فك هذا اللغز يقترح الكاتب شَطر (قََسم) الإنسان وجوديا إلى شطرين و هما : "الوعي= الواعية" الذي لا وجود للعالم إلا بمقدار ما ينعكس في الوعي و تعبر عنه النفس تعبيرا واعيا ، و الشطر الثاني هو "اللاوعي=الخافية" الذي تشكل معرفتنا عنه نسبة قليلة و هو ما يحاول يونغ تحصيل معرفة حوله في هذا الكتاب ، إلا أن فراغ معرفة علمية حول النفس يترك الساحة لتسرب معرفة خرافية أسطورية حولها ، ما يدفع يونغ إلى التأكيد على "إننا يجب تخليص علم النفس من الأفكار الميثولوجية (الخرافاتية)" ، كل ذلك من أجل معرفة علمية بـ"الخافية" الذي أكد فرويد ليونغ أن كشف أسرارها من أهم ما يجب توجيه البحث العلمي باتجاهه ، في سياق متصل يلاحظ يونغ أن الواقع دينامي (متغير) في حين أفكارنا التفسيرية له تبقى ستاتيكية (غير متغيرة) ، ما يخلق هوة بين الفكر و الواقع ، و هذا يتصل بالمعرفة السيكولوجية ، إذ يستنكر يونغ كيف أن المعرفة الحديثة أتبثت خافية و أن الإنسان المعاصر في مسلكياته و طرق تفكيره خصوصا العلمية لا يهتم إلا بالواعية ، فالخطر كل الخطر ينشىء من هذا الإنشطار الذي يصبح مرضيا في اللحظة التي لا تقوى فيه الواعية على إهمال الجانب الخفي الغرزي المقموع ، و هو ما يساعد على ظهور و تفاقم "أمراض العصر النفسية" .
ينبه كارل يونغ أن "داخل كل واحد منا شخصا آخر لا يعرفه" ، هامشيا فالعلم الحديث يتبث أن داخلنا شخوصا عديدة و ليس شخصا واحد فقط ، فهناك أكثر من 70 نوع في الشيزوفرينية لوحدها (انفصام الشخصية) ، يلتقط بتعجب يونغ أن الفلسفة العقلية المعاصرة لم تكلف نفسها عناء سؤال "مدى توافق هذا الشخص الذي بداخلنا و هو الخافية مع مقاصدنا و نوايانا الواعية" ، إذ يعزي يونغ مشاكل العصر إلى هذا الفصام بين الظاهر و الباطن في النفس الإنسانية .
بعد ذلك يحاول يونغ التعريف بأهم عقبات معرفة الذات ، التي جعل من أحد عواملها اللاإيمان و كذا تسييج الدولة لوجدان الإنسان لضمان طاعته ، دون أن يغفل سوء التعاطي مع المعرفة العلمية ، التي فهمها العوام على أنها شيء يقطع مع العالم الرمزي و الروحي ، ما دفع إلى الحط من قيمة ما يسميه يونغ بالخافية ، الذي يجسد عدم توازنها مع عالم الواعية اظطراب نفسي فردي و حضاري ، يردف في آخر فصل يونغ إلى تسليط الضوء على "أهمية و معنى معرفة الذات" ، إذ يؤكد أن الخافية التي وضح فرويد أنها مستودع للغرائز الدنيئة تحمل أكثر من شيء إيجابي و هو ما يجعل البحث و التنقيب في أغواره أهم عمل سيكولوجي للمسقبل ، إذ أن التغاضي عنه يشكل خطرا على الإنسان بل على مستقبل حضارته ، و هنا تكمن أهمية معرفة الذات التي تتجسد في ضمان حد أدنى لتوازن كيان الإنسان بين عالمه الرمزي و المادي ، أو بلغة يونغ حفظ التوازن بين الواعية و الخافية .
أخيرا و على أمل و تمني تقريب أهم أفكار الكتاب ، نُذكِّر بأننا لا ندعي الإلمام كليا بأفكار عالم نفس مثل "كارل غوستاف يونغ" في كتابه هذا . بل يستدعي ذلك احتواء بعض أهم كتب هذا التخصص العلمي فهماً و استيعاباً التي سبقته حتى تتبدى الصورة بشكل واضح ، و لما لا الإستفادة و تملك ثقافة سيكولوجية تساعدنا في حياتنا اليومية .