حرية الاعتقاد في القرآن:

إن الواقف على آيات القرآن الكريم، لاشك أنه سيستخلص أن حرية الاعتقاد مطلب قرآني و مبدأ أساسي من مبادئ الاسلام، كما سيلاحظ أن القرآن تناول حرية الاعتقاد من مناحي كثيرة، نذكر على سبيل الاختصار، تأكيد القرآن الكريم أن اختلاف عقائد الناس و تعدد أديانهم حكمة من حكم الله في الكون، أرادت مشيئة الله استبقاءها حفاظا على حرية الانسان في اختياره الذي سيتحمل توابعه يوم الحساب ففي هذه الحكمة الالهية يقول سبحانه و تعالى: " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"

أي : ولو شاء ربك، يا محمد، لجعل الناس كلها جماعة واحدة على ملة واحدة، ودين واحد

جامع البيان في تأويل القرآن، 15/ 531، تحقيق أحمد محمود شاكر، مؤسسة الرسالة.

فالاختلاف إذن ناتج عن الجبلة التي خلق الناس عليها، إذ ميزهم عن الحيوانات و الجمادات فجعل لهم عقلا و إدراكا يعرفون به الحق من الباطل، تمهيدا لهم للحساب الأخروي إما الجنة و إما النار، فلو خلقهم الله مسيرين في كل شيء لكان حسابهم بعد ذلك ضربا من العبث و انتهاكا للعدل الالهي.

و قال تعالى {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} و قد نزلت هذه الآية في قوم من الأنصار- أو في رجل منهم - كان لهم أولاد قد هودوهم أو نصروهم، فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله عن ذلك، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام.

جامع البيان في تأويل القرآن 5/407.

و هذه إشارة منه سبحانه وتعالى إلى أن الايمان يكون بتبين الحق من الباطل، و ترك الانسان يختار ما يريد.

و قال تعالى "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" أي ليس إلي من ذلك شيء، ولست بطارد لهواكم من كان للحقّ متبعا، وبالله وبما أنزل علي مؤمنا، فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا، فإنكم إن كفرتم فقد أعد لكم ربكم على كفركم به نار أحاط بكم سرادقها، وإن آمنتم به وعملتم بطاعته، فإن لكم ما وصف الله لأهل طاعته

جامع البيان في تأويل القرآن 18/10.

حرية الاعتقاد في السنة:

تعد السنة النبوية التطبيق العملي لأحكام القرآن الكريم، و الفهم السليم لتعاليمه، فإذا كان القرآن الكريم كما سبق أقر بحرية الاعتقاد و جعلها مقصدا من مقاصده، فلا شك أن السنة النبوية ستسير على نفس النهج.

إن شخصا ذاق ويلات الاعتداء و الاضطهاد لنشر فكره و تبليغ دعوته، وكان يطلب قومه بإعطائه حرية الاعتقاد و أن يتركوه يبلغ رسالة ربه لا يريد بذلك جزاء و لا شكورا، لا شك أن هذا الشخص حينما تقوى شوكته، سيكون أول ما يقرره هو حرية الاعتقاد التي ناضل لسنوات من أجلها، وهذا ما تخبرنا به الأحاديث التي سنورد بعضها على سبيل المثال لا الحصر.

فقد روى البيهقي في دلائل النبوة عن ابن شهاب الزهري أنه قال: " كان الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم لا يسلهم مع ذلك إلا أن يروه ويمنعهوه ويقول: " لا أكره أحدا منكم على شيء، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك، و من كره لم أكرهه "

دلائل النبوة للبيهقي تحقيق عبد المعطي قلعجي دار الكتب العلمية الطبعة الأولى 1988، ج2، ص 414.

و لم يكن هذا التعامل السامي منه صلى الله عليه وسلم مقصورا على العصر المكي الذي كان فيه المسملون ضعفاء لا قوة لهم، و لا يملكون آليات الاكراه كما يقول البعض، بل استمر ذلك في كل حياته صلى الله عليه وسلم، ففي العصر المدني الذي بلغت فيه الدولة الاسلامية أوج قوتها استمرت الدعوة على نهجها فقد كتب صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر يدعوهم للإسلام فكان مما قال لهم " هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بحمد؟ فإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا أكره عليكم قد تبين الرشد من الغي فأدعوكم إلى الله و إلى نبيه.

سيرة ابن هشام تحقيق عمر عبد السلام تدمري دار الكتاب العربي الطبعة الثالثة 1990 ج2 ص 186.

تُعتبر معاهدات الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود سواء في المدينة، أو خارجها صورةً شديدة الأهمية من المعاهدات النبوية؛ وذلك لاتساع دائرة احتكاكهم بدولة الإسلام على عهده -صلى الله عليه وسلم-، وذلك إلى جانب ما انتهت إليه أغلب هذه المعاهدات من غدر الطرف اليهودي؛ برغم اتصال الوفاء النبوي العظيم.. وهذا ما يُعطينا اليوم صورة مشرقة للثبات الأخلاقي عند المسلمين، وعلى رأسهم أسوتهم وقدوتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم يهود المدينة.. ومنهم ذوو الأصول العربية، الذين تهوَّدوا بعد اختلاطهم باليهود، كيهود بني عوف وغيرهم، وكلها فروع من قبيلتي الأوس والخزرج ممَّنْ ورد ذِكْرُ قبائلهم في عهد المدينة الشهير، الذي أبرمه -صلى الله عليه وسلم- معهم عقب هجرته إلى المدينة.. ومنهم القبائل اليهودية الثلاث المشهورة: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة. وقد كان هؤلاء ينتسبون عرقيًّا إلى اليهود.

بعد بيعة العقبة الثانية هاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة، وكانت القوَّة المسيطرة فيها لليهود، وكان الأوس والخزرج يعرفون قوَّة اليهود وسيطرتهم الاقتصادية والدينية في ذلك الوقت، وقد سلك معهم النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلكًا يتماشى مع طبيعة المرحلة التي تمرُّ بها الدولة الإسلامية في تلك الفترة، وعقد معهم معاهدة تضمن لهم حقوقهم وتُعَرِّفهم بواجباتهم في ظلِّ الدولة الإسلامية التي يعيشون في رحابها.

بنود معاهدة المدينة:

سنحاول التعرف على بنود عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع قبائل اليهود، التي كانت تُساكنه المدينة في أعقاب هجرته الشريفة.. فقد كان مما نصَّت عليه:

1- إن يهود بني عوف أُمَّة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم

2- وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم‏.

3- وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة‏.

4- وإن بينهم النُّصح والنصيحة، والبرَّ دون الإثم‏.

5- وإنه لا يأثم امرؤُ بحليفه‏.

6- وإن النصر للمظلوم‏.

7- وإن اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين‏.

8- وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة‏.

9- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله –عز وجل، وإلى محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم‏.

10- وإنه لا تُجَارُ قريشٌ ولا مَنْ نَصَرَهَا‏.

11- وإن بينهم النصر على من دهم يثرب‏.‏‏.‏ على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبَلَهُمْ‏.

12- وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم‏ .

ابن هشام: السيرة النبوية 1/503، 504.

ولعل اللافت للنظر من استعراض هذه البنود السابقة أن عناية الإسلام بحقوق غير المسلمين كان مسألة مبدئية لا يعمد إليها المسلمون مضطرين أو مهزومين؛ بل هي ركن أصيل من الفقه الإسلامي جاء به الدين الحنيف من اليوم الأول.

لقيام دولة الإسلام الوليدة، وأن تلك الكفالة التامَّة لحقوق الأقليات غير الإسلامية في المجتمع الإسلامي أمر واقع من قبل أن يخطر على بال الآخرين تفكيرٌ في مثل هذه المبادئ بقرون طويلة.