إشكالية التلقي والتأويل في الشعر الحديث - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

إشكالية التلقي والتأويل في الشعر الحديث

هيام فؤاد ضمرة

  نشر في 26 مارس 2022 .

إشكالية التلقي والتأويل في الشعر الحديث

هيام فؤاد ضمرة

*************

كان الشعر حقاً ديواناً للعرب؛ لأنه كان مادة معرفية تتسم بقدرات خاصة لا تتأتي إلا لمبدع مستغرق بإبداع فريد غير مسبوق، فكانت القصيدة تسبق خطوات الشاعر نفسه في الإنتقال بين المرابع المتباعدة، وتأتت هذه السهولة في الانتقال على أفواة المتنقلين والمتناقلين بسبب ضيق الفجوة بين ثقافة الشاعر المبدع وثقافة المتلقي العادي، واعتماد الطرفين على السُقيا من مخزون معرفي متقارب، وتوضيح معنى يدركه الطرفين، أي الفرقة تكمن بوضوح المعنى إنما في قالب ابداعي جميل ومشوق، لا تفرقهم المستويات إلا بالموهبة والمهارة الإبداعية في الصورة وتنظيم المعنى وفق أناقة ثقافية لافتة للنظر، تمس مشاعر الطرفين وتعزف على ذات الأوتار الموسيقية التي ترتاح لها أذناهما، مما جعل الشعر قريبا من نفوس وذائقة الشاعر والمتلقين على حد سواء، فيتراكب ذلك مع نظرية العدوى التي تحدث عنها تولستوي، حين يُعبِّر الشاعر عن مشاعر المتلقي في الوقت الذي يعبر النص عن مشاعر المبدع ويصبح النص الشعري متداولا.

إلا أن الشعر في الزمن الحديث وقد بات يستوي على برجه العاجي، متسيدا على جميع الفنون الأدبية، وتداخلت فيه الرمزية كفن شعري يمنحه القوة حسب تقديرات الخبراء، فأخذ منهج التعقيد والغموض والاستغراق بالرمزية عند البعض.

انقسم المثقفون بين مدرستين كبريين، رواد مدرسة البساطة والغنائية والمباشرة بالشعر، ورواد فنية التشكيل والتعقيد والرمزية بالشعر إضافة لغنائيته، والتي سار على دربها الكثير من شعراء الزمن الحديث كالسياب والبياتي وأدونيس وعبد الصبور ومحمود درويش وغيرهم كثر.

وقد تأتى هذا النمط الشعري لهدف إشراك المتلقي في التفاعل الفكري فيالوصول إلى المعنى المتداري بفنية جميلة، واختبار قدرة الشعراء اللغوية في تشكيلات اللغة الابداعية، وهذ الصنف من شأنه أن يقطع صلة الشاعر بالمتلقي، والمتلقي بشعر الشاعر لصعوبة النقل، وكذلك من تأثر كافة الفنون الأدبية بلغة الشعرالحديثة باستخدام التشكيل اللغوي الإبداعي والفكر الفلسفي التي حفلت بها هذه المرحلة، فقد أحدث الانفتاح الثقافي العالمي تأثيرا على التفرد في التشكيل اللغوي الإبداعي وظهور أنماط جديدة من الشعر، كظهور القصيدة المقنعة، والقصيدة الدرامية، والمطولات الشعرية السردية، وتجاوز تلك الحدود إلى الإعتناء بتقنيات حداثية في تشكيل النص ذات نفسه من أعماق الشكل الفضائي، ومديات الايقاع اللفظي الحديث.

هذا الحال أحدث جفوة بين المتلقي والعمل الشعري، بخلاف الصفوة من النقاد أصحاب المشرط القدير في العمليات النقدية الذين تمكنوا من التعامل مع النصوص الفلسفية الحديثة وانزياحاتها اللغوية لسعة ثقافتهم وعلو سقف ذكاءهم ولقدرتهم على التعمق في النص، فاخترقوا هذا الغموض وأبرزوا مقارباتهم النقدية وسبروا إشكالات الرمز.

ومصطلح التأويل في النقد الحديث المُعرَّب عن المعنى الغربي؛ ليس جديدا كمصطلح على تراثنا، فقد ورد المصطلح في عدة مواقع من القرآن الكريم.. منها على سبيل المثال:

{ وكذلك يجتبيك ربُّك ويُعلمكَ من تأويلِ الأحاديث} يوسف 6

{وكذلك مكَّنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث} يوسف21

{قال هذا فراقٌ بيني وبينكَ سأنبئكَ بتأويلِ ما لم تستَطِعْ عليهِ صَبرا}الكهف82

{وقال يا أبتي هذا تأويل رؤياي من قبل..} يوسف 100

{وأوفوا الكيل إذا كِلتم وزِنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلا} الإسراء 35

{فيتبعُونَ ما تَشابَهَ منهُ ابتِغاءَ تأويلِهِ} آل عمران7

فمفهوم التأويل في القرآن الكريم هو رد الشيء إلى الغاية المراد المعنى منه، وحسب ابن منصور في كتابه تهذيب اللغة فإن المعنى هو في جمع معانٍ مشكلة بلفظ واضح لا إشكال فيه، وتأويل تفسير المعنى على واقعه وسماته ليقدم واضحا إلى المتلقي.

فالتأويل في المعنى الحديث يأخذ بالباطن والظاهر معاً، وهو ما لم يغفله الغزالي في شعره، فالنص بعضه واضح جليّ يقدم نفسه للمتلقي دون أي معضلات، وبعضه يقدم معنىً منزاحا لمغزى مرتبط بالتغيير بتأويل المعنى حسب الرؤيا التي تتناسب وعمق المعنى فيه، ويعد النص الشعري أكثر الأنواع الأدبية اشتمالا على الرموز والايحاءات وأكثر استخداما للمجاز في التصوير والانزياح اللغوي مما يجعله الأشد حاجة للتأويل وكشف المقاصد التي تكمن في ثنايا المعنى بصورة عميقة من ناحية عمق نفسي وواقع جمالي وزوايا رؤيا ومقابلة مقاربة.

من العوامل التي تتحكم في عملية التأويل هي الحالة التي تكون تحت تأثيرها الشاعر لحظة كتابته للنص الشعري، وهي حالة اللا شعور التي تسيطر عليه بفعل العقل الباطن والعقل الحاضر ومسارهما المتوازي، أي حالة الوعي واللا وعي المسيطران عليه لحظتها، والتمكن الواعي من مفردات التعبير من خلال عمق تجربته اللغوية وقدراته التصويرية، وقدرة الشاعر على المراوغة بالمعنى والانزياح بالتشكيل اللغوي، فالحالة النفسية يظل أثرها واضحا جليا على الانجاز الشعري

الشعر الحديث تأثر بعوامل ترتبط باللغة ذات نفسها، من حيث استعمالات الانزياحات، والعلاقات أو الحالات التنافرية، والجنوح إلى الرمزية، بعضها يمثل جنوحا ذي طبيعة خلافية، كأن تكون تركيبتها اللفظية غير دالة على محمولها المعنوي، ذلك الذي استدعيت الفكرة يشكل التعبير عنها مما وصفه الشاعر البياتي بالرمز القناعي أو الرمز المقنع.

لقد نظر المتلقي إلى الشعر باعتباره ينبوعا متدفقاً بالجماليات التشكيلية للغة، واستيلادا مستمرا للتعابير الفريدة بطاقاتها وايحاءاتها التي تنمُّ عن وعي غير عادي، وعن حكمة مستوحاة من الحياة، لغة قادرة على إنطاق غير المنطوق، وتفجيير لمشاعر جياشة منجزة لحالة تأويلية عميقة، لتتحول الحالة إلى عملية تأويلية تلقائية لا نهاية لها، فتفعيل مهارة التأويل هي حاجة باتت مطلوبة بأدبيات اليوم لا مندوحة من استخداماتها طالما ظل الأدب مُتدفقاً، وطالما الإبداع يَجد من يخترق العادة فيه ويسجل تفرده.


  • 2

  • hiyam damra
    عضو هيئة إدارية في عدد من المنظمات المحلية والدولية
   نشر في 26 مارس 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا