رسالة لم تصلها (2) .. - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

رسالة لم تصلها (2) ..

  نشر في 23 ماي 2021  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

الأحد ، إنه يوم الأحد

هنا عند المحطة أنتظر الحافلة ..

تماما كما انتظرتك بالسابق ..و انتظرتني أيضا و بقي الانتظار بيننا موقدا

إلى أن أنطفأ برحيلك المبكر .

ربما كانت المحطة الشيء الوحيد الذي لا يذكرني بك ، المكان الوحيد الذي لم نترك به ذكرى ..

بقيت المحطات كالمساجد مقدسة،

لقد كانت الوحيدة التي سلمت من انتهاكاتنا المتواصلة في حق الأماكن .

أنتظر الحافلة و لا زلت أنتظر ، فقد تعودت الإنتظار و أخذت دروسا جمة منك ..

لم تصل الحافلة بعد و لا أظن أنها ستأتي ، أهرب من لفحات الشمس الحارقة و أقف منتظرا تحت شجرة توت ضخمة تكبرني بقرون ، ربما كانت شاهدة على كل المهازل بهته المدينة التعيسة.

في جذوعها الممتدة تتراص القصص و الحكايا و يختبيء جزء من التاريخ بالأعماق هو ماض سحيق ،لم نكن ضمنه .

تمر السيارات من حولي و كلي أمل في ان يراني أحدهم أو يتعرف علي شخص ما.

لا احد كان يعرفني ،بل لربما لم أكن أعرف أحدا ،فقد كنت أتفادى الخوض في أي حديث ، او يأخذني الفضول لأسأل عن الاشخاص و العائلات و تفاصيل كل ما يحدث هنا ، فإحصاء سكان هته المدينة لم يكن عملي ..

لقد كان وجودك يعفيني من كل تلك السخافات والحكايا التي يتناقلها الواقفون تحت الجدران ،لصوص التأليف كما كنت أسميهم ،

كنت تملئينني و تستحوذين على كل دقيقة فراغ برأسي ، تستولين على كل فكرة و تسحبينني مكبلا إليك دون أن أدري .

إقتربت من سيارات أجرة كانت تصطف بجانب الطريق .

كنت المسافر الوحيد المنتظر هناك .

كانت الحرارة تزداد أكثر وأكثر و كأن يوما من أيام تموز تمرد و فر هاربا و أخذ استراحة بهته المدينة هذا اليوم ..

تذكرني هته الحرارة بتلك الأمسيات التي كنا نتحدث فيها عن الطقس حين لا نجد ما نتحدث عنه ..

أخيرا هناك من أنقذني منك و من جنون الشمس

كما توقعت لم أكن أعرفه ،وكان كذلك أيضا

ربما لم يعد لنا مكان مع كل من نعرفهم و حتى الذين نحبهم ،لقد تعودنا على الخذلان من كل قريب، من كل صديق و أصبح الجميع يمارس الخذلان بطريقة ما ..

ركبت في شاحنة كبيرة مع ذلك الكهل الذي عرض علي أن يوصلني و ينقذني من أذرعة الإنتظار الطويلة التي كانت تحيطني من كل جانب ..

كانت أول تجربة لي ، و ما أجملها

تشبه كثيرا تلك البداية المبهرة بقصتنا .

رغم أن قصتنا لم تحتوي على بداية ، و لكني أؤمن بذلك الفاصل الجميل ،ذلك الصمت ،ذلك الهدوء اللذيذ بيننا ، قبل أن تحل العاصفة .

لقد أمضينا لحظات شاهقة لا تجسد بالكلمات ، أحاسيس دافئة تبادلناها و أيام مشرقة تشاركناها ...

لقد كنت فسحة الأمل الوحيدة بهته المدينة،كنت الدافع الوحيد الذي يجعلني أستيقظ بالرغم من أن لا شيء كان يستحق الاستيقاظ بهته الرقعة اللعينة من الخريطة

كنت السند الذي أتكيء عليه و أقف بعد كل سقوط ، و كنت أنا اللص الوحيد الذي يسرقك من غربتك و ينسيك البعد عن الوطن و الأهل و الأصحاب بقربي الدائم منك .

كانت تلك الشاحنة تسير ببطء نحو الوجهة و كان الطريق بالنسبة لي يزداد طولا ، تماما مثلما كان طريق الشوق و البعد بيننا ،أذكر أننا كنا كل يوم و من وراء الشاشة ، نضغط على أزرار قلوبنا محاولين إلتهام المسافات بيننا بكلمات و جمل قصيرة و تسجيلات صوتية نهدم بها معالم الصمت بطريقنا .

فلماذا لم يحاول سائق الشاحنة اليوم إلتهام مسافة البعد مثلما اعتدنا .

لا أدري حقا ..

تكلمت و ذلك الغريب عن الكثير من الأمور الغير مهمة ، المهم أننا كسرنا صمت الطريق .

شكرته و ودعته بعد أن بلغت وجهتي .

لقد كان شخصا طيبا جدا و محبا لفعل الخير بأبسط الأشياء ،هذا ما رأيته في شخصه الكريم و لمسته بقلبه الطيب .

تذكرتك مجددا ،و فور نزولي من الشاحنة

و هل الطيبة تذكرنا بالأشخاص أيضا

يا إلاهي لا تملين من ملاحقتي ، تعاقبينني و تظهرين مجددا أمامي و تستولين على حواف كل مشهد بيومي .

لقد كنت مثل قطعة السكر بقلب أبيض و روح مرحة مسامحة و لا أنكر هذا ..

ربما هذا ماجمع بيننا و ما كان يربطنا و يشدنا بقوة الى بعضنا ،ربما .

كنا نفترق كثيرا و نتخاصم لأجل كل شيء كان صغيرا او كبير

مثلما كان الحرف سببا في لقائنا ،كان هو الآخر سبب في فراقنا ..

أذكر أنك كنت تغارين علي كثيرا أما أنا فلم أبين لك ذلك يوما .

كنت دائما تحملين فأسك و تنبشين بداخلي كل مرة عن ذلك الشرقي بداخلي .

كنت أحاول إبعادك دائما عن التوغل بداخلي أكثر ، ولكنك كنت عنيدة جدا تواصلين الحفر بأنفاقي دون ترخيص مني ..

وصلت بعد طريق متعب إلى منزل عمتي .

أخذت قسطا من الراحة وقررت أن أفر من كل فكرة تقودني الى ذكراك ..

لقد حل المساء بسرعة و اكتست الغيوم سماء هته المدينة الكبيرة .

أقف بالشرفة ،من هذا العلو الشاهق، و أستمتع بالتحديق إلى السيارات و قد فقدت حجمها الطبيعي ،تماما مثلما يفقد بعض الأشخاص حجمهم بحياتنا و يسقطون من قلوبنا فجأة ...

سقط الجميع و بقيت أنت معلقة بداخلي تسكنين الذاكرة وتتمسكين بحواف كل ذكرى

بخطوة إلى الخلف قررت الإنسحاب ، ولكن سرعان ما تلقفني ذلك المشهد و انقض علي فجأة .

أذكر أنك كنت بنيويورك حينها .

أرسلت لي مقطع فيديو لك بالمصعد و انت تصعدين ثاني أعلى ناطحة سحاب بالعالم .

كم كنتِ سعيدة آنذاك و كم كنت سعيدا لأجلك ، تمنيت لو كنت معك بتلك اللحظة نتلاعب بأزرار المصعد ، نقطع الأنفاس معا و نحن بأعلى طابق ،ننظر إلى سماء نيويورك معا من ذلك العلو السحيق ..

نتشارك الإحساس نفسه والتجربة نفسها ، كانت نيويورك من ذلك العلو بسياراتها و جل بناياتها و منازلها الفخمة و كل ذلك الحشد من سكانها و زائريها ،تبدو صغيرة جدا .

هو قانون المسافة ، وفن أتقناه بحياتنا جيدا

رميت كل الأفكار من أعلى ناطحة السحاب تلك و انسحبت من الشرفة تاركا كل شيء ، أنت ،نيويورك ، و أنا ، و أنصاف ذكرى معلقة بشبابيك الشرفة أرص هته الحروف التي لن تصلك و أحاول كل مرة ان أتمرد على الذكرى ، و أعدمها فوق الورقة .

الأحد

23/05/2021

H:13:02

رسالة أخرى ،لن تصلها ..

#موساوي عبد الغني ♤


  • 2

  • Abdelghani moussaoui
    أنا الذي لم يتعلم بعد الوقوف مجددا، واقع في خيبتي
   نشر في 23 ماي 2021  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات

مريم منذ 3 سنة
" نحن لا نشفي من ذاكرتنا" أحلام مستغانمي.
انها بوصلتنا عندما نتوه وتختلط علينا الطرقات.....
2
Abdelghani moussaoui
نحن لا نشفى من ذاكرتنا و لهذا نحن نكتب و لهذا نحن نرسم و لهذا يموت بعضنا ايضا في مدن اخرى تقدم القهوة جاهزة في فنجان وضعت جواره ملعقة وقطعة سكر ...
رائعة احلام و من غيرها ، ضمن قائمة الكتاب المفضلين رغم الانتقادات ..
أشكر مرورك الانيق الرائع ..انرتني ..
تحياتي

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا