تهافت "فكرة الإله" بين سداجة المؤمنين و جموح الفلاسفة و العلماء
مهدي جعفر
نشر في 14 يوليوز 2016 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
إننا واعون بركوب الخطر في مساءلة المستقر و تحريك الراكد و تهديد إجماع المعتقد مما يعتبر مقدسا عند معظم البشر المتمثل في فكرة "الإله" الزئبقية التي تأرق بال و تقض مضاجع الإنسان مفكرا كان أو شبه مفكر ، كله من أجل مقاربة الحقيقة فقط التي لا يمكن لأحد أن يبلغها كاملة ، و عليه يحفزنا على ذلك إيمان عميق بأننا يجب أن نصدق الذين يبحثون على الحقيقة و أن نشك فيمن يجدها ، لذلك لسنا دعاة للتوفيق و لا للتلفيق ، نناشد فقط إعمال الفكر و التساؤل شوقا لشروق شمس الحق في دنيا قناعاتنا ، لذلك في هذا المقال نود أن نرمي حجرا فكريا فيما ركد و تخشب في عقولنا حتى يتسنى لنا ذلك , فنحن أقرب إلى من ينتمي إلى السؤال و الحيرة قبل الجواب و الإطمئنان .
حسب حدس علماء الإجتماع و المؤرخين المطلعين على حركة الفكر و الحضارة ، فإن كل ما تشهده الساحة الإسلامية -التي أنتمي إليها- من ضحالة معرفية و اقتتال سياسي و صراع مذهبي و تقهقر حضاري في تعبير صارخ عن التخلف بكل ما تحمله الكلمة من مضمونات و معاني ، فكل هذا الخراب سيعقبه إعمار و تحضر و تنمية و تنوير ، فإحدى الطرق إلى هذه الأماني و المنتظرات تتجسد في **موضوعية و عمق الأسئلة التي نطرحها في كل ضروب معارفنا و على مختلف مشاربنا الفكرية و الثقافية **، و عليه سنحاول مساءلة فكرة مهمة ممكن عبرها سنعيد صياغة أكثر عقلانية تليق على الأقل بسموها و بعدد السنوات بل القرون التي ضاعت تطلعا لاستجلاب رضاها و درء غضبها ، هذه الفكرة هي " الإله " .
نستهل المساءلة برصد الأبعاد التيولوجية ( اللاهوتية ) لفكرة الإله في المخيال البشري ، فلم أعرف مفهوما أكثر شيوعا وانتشارا بين الناس ، كبيرهم وصغيرهم ، جاهلهم وعالمهم ، كلاسيكيهم أو معاصرهم كفكرة الإله ، ولا أرى للعقل صورة للإله في أذهان العلماء أوضح من صورته في أذهان العوام ، فلو سألنا شيخا أو مراهقا أو قاصرا " كيف ترى الله ؟ " ، لأجابك بأنه هو الذي خلق الكون و هو من يدبره ، هم من خلقنا و أمرنا بالصلاة و باقي الفرائض و ودعنا بالجنة أو النار في الحياة الأخرى بعد الموت ، فهل هذا تصور صحيح أو أعرج أم فج فارغ لا قيمة له من الأصل ، لأن ذلك يسقطنا في سؤال حول مصدر و أولى بدايات فكرة الإله عموما - ليس إسلاميا فقط - على أنها تطورت إلى حد وصولها إلى هذا المؤمن حتى يجيبنا على هذا الغرار ، ليس لدينا خيار سوى الرجوع إلى التاريخ و علم الأنسنة ( anthropology ) في شقه الثقافي حتى يتسنى لنا مطالعة أولى شرارات تعامل الإنسان و استخدامه لفكرة الإله ، فكيف كان اللقاء إذن ؟
الطرح الأنثروبلوجي و السيكولوجي :
في بداية حياة الإنسان على هذه الأرض، كان الإنسان بسيطاً في تفكيره خائفا من الوجود من حوله ، سادجا في استيعابه للظواهر الطبيعية مثل الليل والنهار، والمطر والرعد والبرق وما شابه ذلك. وكانت هذه الظواهر تثير الخوف والرعب في نفسه، ولما عجز الإنسان البدائي عن تفسير هذه الظواهر عزاها إلى قوة خارقة تتحكم فيها وفي حياته. هذه القوة الخارقة لم تكن محسوسة لديه، أي بمعنى آخر، كانت قوة وراء طبيعية أي قوة "ميتافيزيقية Metaphysical". وبالتالي اعتقد الإنسان البدائي بوجود "كيان روحي Spiritual Being" يتحكم في الظواهر الطبيعية وفي حياة الإنسان، هذه كانت بداية فكرة الإله عند الإنسان البدائي حسب اعتقاد خبير علم الأنثروبووجيا الإنكليزي (1) "تايلر E.B.Taylor" .
فقد ألف هذا العالم كتاباً يدعى "الثقافة البدائية Primitive Culture" في العام 1871. ويعتبر هذا الكتاب من أهم المراجع في دراسة تاريخ الأديان. ويعتقد "تايلر" هذا إن الاعتقاد ب "الكيان الروحي" هذا نتج من تجربة الإنسان الجماعية في أشياء مثل الموت والنوم والأحلام، فجعلته هذه التجارب يعتقد ان الكيان الروحي منفصل عن الجسم ويمكنه أن يعيش حياة مستقلة تماماً. وبالتالي أصبح الإنسان الأول يعتقد في ألأشباح والخيالات "Phantoms". وعليه فهذا الطرح يقدم معرفة ثمينة لثقافتنا الأولى التي تولدت عنها فكرة " الإله " من رحم الحاجة .
يركب علم النفس قاطرة الموقف نفسها و يقول " بإن هذه الفكرة ( أقصد الإله ) نتاج اللاشعور الإنساني ، و ليس اكشافا لواقع خارجي ، ذلك أن الإله سوى انعكاس للشخصية الإنسانية على شاشة الكون ، و ما الوحي و الإلهام إلا إظهار غير عادي لأساطير الطفولة المكبوتة (2) ( Chilhood Repression ) " ، امتدادا لذلك يقول (جوليان هكسلي) " لقد خلق الإنسان فكرة الإله و الدين في حالة جهل و عجز عن مواجهة القوى الخارجية " ، كاستنتاج لهذا ممكن أن نقول حسب موقف العلمين أعلاه فضلا عن تخصصات أكاديمية أخرى كسوسيولوجيا الأديان ، * بأن فكرة الإله نتيجة لتعامل خاص بين الإنسان و بيئته (3) ، حيث تخضع هذه الفكرة لمنطق الرغبة لا لمنطق الحقيقة * ، إذا كان الأمر على هذا النحو فما هو المسوغ الفلسفي لذلك ؟
الطرح الفلسفي :
يغص التاريخ بأسماء الفلاسفة الذين لم يتقبلوا فكرة الإله أو الآلهة ، و أبرزهم فلاسفة اليونان ففيهم من تركها جملة و تفصيلا نظرا لبدائتها و قصورها التفسيري و افتقارها للموضوعية و العقلانية -التي تعتبر مربط الفرس عند الفلاسفة - فهذا أنكساغوراس مثلا عندما ناهز 40 سنة قدم إلى أثينا عاصمة العبادة و الكهنوتية و استقر فيها لوقت قصير ثم خرج منها مطرودا مهددا بالإغتيال و القتل ، لأنه أنكر أن الشمس إله، و الأثينيون يعتقدون أن الشمس أعظم آلهة بلاد الإغريق ، لكنه انساق خارج معتقدهم و قال أن الشمس جرم مشتعل ملتهب ليست أكبر بكثير من شبه جزيرة "لابروبونيز" . فضلا عن ذلك كان من الفلاسفة من لم يلحد و دعى إلى توحيد الآلهة مثل " سقراط Socrate " و كان ذلك إذانا بالحكم عليه بتجرع سم الشوكران من أجل إعدامه .
ذكر "جون ستيور ميل" في سيرته الذاتية : أن أباه قد علمه أن سؤال *من خلقني؟* لا يكفي لإتباث وجود الله ، إذ ينجم عنه تلقائيا سؤال *من ذا الذي خلق الله بدور حتى يخلقني أنا؟* ، و قد اعتد "برتراند راسل" هذا الإعتراض الثاني كافيا لرفض مدلول السؤال الأول (4) .
نأتي الآن إلى طرق الإستدلال الفلسفية على صلاحية فكرة الإله ، أكثر من فصل فيها ببساطة هو الباحث في تاريخ و فلسفة اللاهوت " سامي لبيب " ، و فحوى موقفه يدور حول " هل الله فكرة خيالية أم وجود مادي ؟ للإجابة عن السؤال طرح هذا الباحث الشاب مجموعة من الترابطات المنطقية و في النهاية حصل على الجواب ذلك كالتالي :
- لا وجود بدون ملامح وتكوينات ومحتويات مادية فيستحيل أن يتواجد وجود بدون أن تتحدد ملامحه المادية , فشفرة الدماغ لا تتعاطى ولا تستوعب إلا الوجود المادى ليقفز السؤال عن ماهية الله .
الإله بالنسبة للإنسان لن يخرج عن معطيين لا ثالث لهما , إما وجود وإما فكرة , الوجود يستلزم أن يكون وجود مادي مستقل يمكن إدراكه بالحواس المادية وما يسعفها من تقنية ووسائل مساعدة تُعين على الإدراك أو يكون الله فى إطار فكرة كمُنتج من منتجات الذهن البشرى .
- الفكر هو حركة الواقع وقد إنتقل لذهن الإنسان فلو لم يكن هناك حركة للواقع المادى ما كان هناك فكر ولا حياة لذا من الخطأ تصور أن الفكرة مُبدعة الواقع فهذا هو الهذيان بعينه ، هى إنتاج حركة الواقع لتصاغ فى منتج فكرى يُبدل من مشاهده ويعاد ترتيبه فقط لتتجادل بعد ذلك مع الواقع .
- الوعى نتاج التفاعل بين الدماغ والوجود المادى وهذا الوعى يشبه المرآة التى ينعكس عليها الأشياء , فالجسم الذى نراه فى المرآة لا يكون موجوداً بذاته بل إنعكاسه عليها لذا لا وعى خارج مرآة الوعى المُدرك للمادة .
- الأفكار المنظمة أو الخيالية على السواء هى منتجات من تأثير الواقع المادى فيستحيل أن تجد أى فكرة إلا وتكون مفرداتها وكل محتواها من صور مادية سقطت على الدماغ , فحتى الأفكار الخيالية الفنتازية أو ما تُدعى بالميتافزيقية ستجد مكوناتها من صور مادية تم لصقها بشكل عشوائى , فعروس البحر تصور خيالى لكيان غير موجود ولكن مفرداته المادية موجودة فهناك الرأس والصدر لإمرأة وهناك الجذع والذيل لسمكة ومن هنا نستطيع أن نرسم صور وأفكار خيالية متوهمة كثيرة أىّ منها لن تخرج عن مكونات مادية موجودة فى الطبيعة حصراً , فلا إستثناء لأى صورة من ذلك بل يستحيل وأكرر "يستحيل " أن تجد صورة منطقية أو خيالية لا تحتوى مكوناتها على الصور المادية فهكذا الوجود وهكذا الدماغ صاحب التكوين المادى المتعامل مع المادة حصراً.
* من هنا نرفع السؤال الصادم هل الله وجود ام فكرة .؟!
من الطرح السابق لن يخرج الله عن كونه فكرة نسجها ذهن الخيال الإنسانى من مفردات مادية فكما إرتسم فى خيالى ملامح الله من خلال الغيوم , فالإنسان القديم رسم وتخيل فكرة الإله ولم تخرج تخيلاته عن مشاهد مادية ومن هنا نُدرك لماذا إعتبر مظاهر الطبيعة آلهة , فكما تصورت بذهنى الطفولى "الله" على شكل ملامح لشيخ كبير ذو لحية بيضاء فى الغيوم فهكذا تراءى له صور من خلال علاقته مع الطبيعة ليست بالطبع بنفس رسوماتى وخيالى ليقوده خياله إلى الشمس والقمر والجبال فيتصور إلهه على هذه الشاكلة أو كامناً فيها .. لذا يمكن تفسير لماذا إعتبر التابو والطوطم والصنم آلهة أو حلول للإلهة فيها .. كما لن نستثنى الأديان والمعتقدات الحديثة من وجود فكرة الإله كتكوين مادى حتى ولو حاولوا تنزيه الإله عن هذه الهيئة المادية فلن نجد صورة أو آية واحدة فى الأساطير والميثولوجيات والقصص الدينية تخلو من الشخصنة والحضور المادى , فالإله لديه عرش يجلس عليه ويمارس عملية الخلق بيده علاوة على تحكمه فى الطبيعة ليتكلل حضوره من خلال صفات وسمات وأفعال إنسانية مثل القوة والعدل والرحمة والإنتقام والغضب ألخ .
في الأخير يستنتج الباحث أن الإنسان هو الذي خلق فكرة الله و ليس العكس ، وفق تقديري هذا طرح محترم لكنه معلب بالإرتياب , ذلك لأن هناك من الفلاسفة و منهم المسلمين من قدم استدلالات فلسفية منطقية قوية جدا على وجود الله ربما أكثر عقلانية من استدلال " سامي لبيب" ، أقل ما يمكن أن أقول عنها أنها عبقرية ، من بينها " برهان الصديقين لإبن سينا Avicenne " في القرن 11ه ، و "برهان النظم " (5) .
فضلا عن ذلك فقد إنوجد من الفلاسفة من له اعتقاد فلسفي خاص عن فكرة الإله ، مثل"باروخ سبينوزا " الذي اعتبر أن الكون و الله شيء واحد ، بأنها فكرة الوحدة المبدئية لعالم يتجاوز كل تطوراته خلافا لكل لاهوت منزل " (6) ، " ذلك بأن نجعل الله في كل مكان بحيث لا يكون في أي مكان " (7) ، هذا المذهب الفلسفي العجيب يسمى *وحدة الوجود* و قد تفرد به اسبينوزا أولا و تبعه في معتقده مفكرين كذلك من بعده أمثال "رومن رولاند Romain Rolland ، و إروين غيدو كولبنهاير Erwin Guido Kolbenheyer " . و عليه يبدو أنه طرح فلسفي اقتنع به صاحبه و بعض معاصريه ، لكن ظاهر أنه تجاوز يفتقر للدقة ، هذه الأخيرة لا تعنى بها إلا العلوم التجريبية ،لذلك بعدما عرضنا منظور العلوم الإنسانية ، ما موقف العلوم التجريبية و الطبيعية من الموضوع ؟
طرح علم الفلك و البيولوجيا و تقزيم الأديان للنزيلة :
البيولوجيا :
يقول أحد علماء طب الأعضاء الأمريكي " لقد أتبث العلم أن الدين و الآلهة كانا أقسى و أسوء خدعة في التاريخ " (8) ، فما مدى صلاحية هذه الفكرة حسب علم البيولوجيا ؟
الذي لم ينتبه إليه هذا العالم هو أن موضوع هذا العلم هو الطبيعة ، لكن بديهي القول بأن الطبيعة من حقائق الكون و ليس تفسيرا له "(9) Nature is afact , not an exoplanation " لأن ما كشفت عنه الطبيعة من قوانين تشتغل وفقها ، ليس برهانا على أن الله لم يخلق الكون و إنه غير موجود ، عندما تقول ذلك كمثل إدعائك عندما تفهم كيف يشتغل الراديو تقول لي ، عرفت القانون الذي يشتغل وفقه الراديو لذلك فلم يصنعه أحد . عجيب ، فهذا فخ سقط فيه و لا يزال معظم علماء الطبيعة ، و آخرهم عراب الإلحاد في العالم " ريتشارد دوكنز " و كذلك حتى عالم الفلك " ستيفن هوكنغ " ، لذلك أن تعرف قانون الطبيعة هذا لا يعني أنه لا وجود لخالق الطبيعة ، على أن السؤال يمتد بالأحرى إلى " من خلق هذه القوانين حتى تشتغل حلى حسابها الطبيعة ؟ غالبا ما يجاب عن هذا السؤال "بالصدفة " ، و لا عجب بعد ذلك ، يقولون متبنوا هذا الموقف " أن لا شيء خلق شيء ، بتعبير آخر إن العدم خلق الوجود صدفة " ، لكن الواضح أن هذا طرح غير منطقي لأن الصدفة لا قانون ولا نظام لها ، لكن الطبيعة عكس ذلك تماما كل شيء يعمل وفق قانون و نظام محدد ، عندما يختل يعقبه خلل في النظام البيولوجي كله . الخلاصة أن هناك منطق و ذكاء في الطبيعة ، وهو ما يجعل فكرة " الصدفة" فاقدة لكل اعتبار . و عليه نعود و نقول أن دراسة الطبيعة لا يمكن أن تبخس "فكرة الإله" على الأقل وجوديا ، لعل هذا ما دفع البروفيسور " سيسيل بايس هامان" إلى الإعتراف قائلا " إن الطبيعة لا تفسر شيئا من الكون ، بل هي نفسها تحتاج إلى تفسير "(10) ، و ذلك ما صفع العلماء بالهوة الذين سقطون فيها إذا اتبعوا بسداجة التفسير المادي بإطلق للكون ، هذا ما جعلهم يتوقفون متأملين قليلا ، حيث ذكر " سير جيمس جينز " الذي يعتبر بلا مواربة أعظم علماء العصر الحديث ، ذلك و في كتابه *عالم الأسرار * يقول : " إن في عقولنا تعصبا ينزع دائما إلى ترجيح التفسير المادي للحقائق و هو ما لا يصلح دائما " (11) .
أخيرا فحسب أقوالهم فإن علم الطبيعة لا يقدم الإجابة بل لا يمكنه ذلك ، فضلا على أن التفسير المادي للكون لا يصلح دائما حسب تعبير جيمس جينس . فقضية العصر الحاضر المنتفية للإله بناءا على علم الطبيعة لا تعدو أن تكون " سفسطة علمية Science Sophism " ، ممكن أن نتفهم أكثر إذا وسعنا دائرة معارفنا إلى علم الفلك ، فما موقفه من الموضوع ؟
علم الفلك و سعة الكون :
حتى لا نتيه و نركب أميال أنفسنا حول فكرة الإله يجب استحضار عظمة و سعة الكون المفترض الذي هو من خلقه ، أذكر حسب علم الفلك فإن قطر شمسنا يبلغ نحو مائة مرة قطر كوكب الأرض. ويبلغ حجم أكبر نجم معروف وهو "في واي كانيس ماجوريس" (VY Canis Majoris) نحو ألفي ضعف حجم الشمس، فقطره يعادل نحو 2.89 مليار كيلومتر مقارنة بقطر الشمس البالغ 1.384 مليون كيلومتر.يقدر العلماء عدد النجوم في مجرة درب التبانة بأنه يتراوح بين مائة مليار إلى ثلاثمائة مليار نجم . يقدر بعض العلماء عدد المجرات في الكون بنحو 200 مليار مجرة في الكون .كما يوجد أكثر من 100000 مجرة لصنع خريطة ثلاثية الأبعاد للكون المعروف، بحسب عالم الفلك "كارن ماسترز" من جامعة كورنيل . كما يقول الأستاذ المساعد في علم الفلك والكواكب، "جون جونسون" ، إن هناك على الأقل 1,000,000,000 مئة مليار كوكب في مجرتنا درب التبانة فقط ، و لكم أن تخيلوا إجمالي عدد الكواكب في المجرات الموجودة في الكون كليه شيء لا يصدق يعبر عن عظمة الصانع !!
حري بالإشارة إلى أن الكون عبارة عن قياسات و فروض ، ذلك ما يصرح به الدكتور "الكسيس كيرل" قائلا : " الكون الرياضي شبكة عجيبة من القياسات و الفروض ، لا تشتمل على شيء غير *معادلة الرموز* التي تحتوي على مجردات لا سبيل إلى تفسيرها " (12) لكن العجيب هو وجود آراء قطعية عند بعض الفلكيين .
هناك بعض النظريات العلمية في ساحة " الكوزمولوجيا Cosmology " تفيد بأن الكون سرمدي أي أزلي ليست له بداية و لا نهاية و لا خالق، بل انبثق تلقائيا حسب ما أفاد به العالم الشهير "ستيفن هوكنغ" ، لقد كان لهذا الإستدلال قابلية في الأوساط العلمية حتى القرن 19م ، أما المعاصرين فيجترونه فحسب ، مات هذا الطرح بعد اكتشاف "القانون الثاني للحرارة الديناميكية Second Law Of Thermo Denamics " حيث يسمى كذلك *بقانون الطاقة المتاحة أو ضابط التغير (12 شرح القانون في الإحالة أسفله) Law Of Enetropy * ، بناءا على هذا الكشف تبث بالقطع أن الكون ليس أزليا بل له بداية في وقت معين من التاريخ ، لعل ذلك ما دفع العالم الأمريكي "إدوارد لوثر كيسل" إلى القول * هكذا أثبتث البحوث العلمية تلقائيا أن لهذا الكون "بداية" فأتبثث دون قصد وجود خالق له ، لأن كل شيء ذي بداية لا يمكن أن يبتدئ بذاته ، و لا بد أن يحتاج إلى المحرك الأول " (13) .
على أن حصاد القول يفضي بنا إلى الكشف عن لاأزلية للكون وأن له بداية ، ذلك هو ما يحفزنا على ضرورة التفكير في من بدأ الكون و الخلق .
تقزيم الأديان لفكرة الإله :
كل ما سبق عبارة عن تمهيد لتساءلات كثيرة حول جدلية منطق الأديان القاصر و سعة مفهوم الإله ،لذلك فل نقارن هذا مع ما تدعيه الأديان لله ، فهل هذه العظمة يعكس سعتها منطق الأديان ؟ السؤال الآن ، بما أننا تعرفنا على منطق الله انطلاقا من الأديان ، لو افترضنا وجود إله خلق كل هذه العظمة من أكوان و عوالم و تنوعات خلابة في الطبيعة و الحياة، هل هذا الخالق البديع خلق كل هذا الكون و هذه العوالم ، ليأتي إلى بقعة صغيرة جدا جدا هي كويب الأرض الذي لا يمثل حتى حبة رمل في كل شواطئ العالم مضروبة في أكثر من 10 , و يرسل أنبياء و رسل من البشر ، و معهم كتب من عنده بلغة بشرية ؟ هل هذا الرب يتكلم بالعربية أو السريانية أو العبرية !!
ناهيك على أن الأديان تصور أن الله "ذكر" و ليس أنثى ، حيث جاء في إحدى آيات كتاب المسلمين المقدس " ليست له لا صاحبة و لا ولد " ، فمن خلال الآية يتضح أن من تكون لن الصاحبة هو الذكر و ليس العكس ، لذلك نتسائل هل للإله جنس معين ؟ أم أن هذا لا يعتبر إلا قصور ديني لمقاربة الله ، فدمغته الأديان بدمغة الذكورة فجنسنته ، ذلك يعود و بلا شك للمجتمعات الذكورية التي خلقت فيها هذه الأديان تاريخيا .
فضلا عن ذلك ، بالأمس و أنا أقرأ مؤلف جميل للدكتورة التونسية الألمعية "ألفة يوسف" كتاب "حيرة مسلمة" ، حيث وجدت في فصله الأخير حول المثلية الجنسية ، حديثا يقول" إذا ركب رجل على رجل تزلزل عرش الرحمان " ، فانصدمت و تعجبت متسائلا : "هل هذا الإله ليس لديه شغل سوى مراقبة ما يفعله إنسان صغير جدا بجهازه التناسلي ؟" زائد أمره بأن نصلي له و أن نسجد و نرفع ، و نذبح قرابين له ، و نصوم و نقتل من يخالف ذلك ، ماذا يستفيد الله من أن نمرغ وجوهنا 5 مرات في اليوم ؟ المسلمين يقولون الله أكبر لكنه يبدو على أنه لفظ ليس إلا تجاوز يفتقر للدقة .
هل هناك تقزيم فاحش لخالق الكون أكثر من هذا ؟ هل الله ليس لديه ما يقوم به غير الوحي للأنبياء بقتل هذا و تقطيع الآخر ، و إرسال روح إلى إمرة بجوار شجرة لتحمل بولد و هي عذراء ، فيصبح بذلك إبنها ابن الله عند المسيحيين !! هل الله بعظمته متفرغ حتى يرسل بغلا مجنحا إلى نبي المسلمين ليوصله إلى السماء !! عجيب كيف سيصعد و نحن نعلم أن الأكسجين يقل كلما ارتفعنا جوا ، كيف تنفس هذا النبي ؟ كيف إبتلع الحوت النبي يونس و لم يمت بداخل معدته ، كيف لم تمسسه أنزيمات الهضم داخل بطن الحوت ؟ كل ما سبق و غيره كثير , نتساءل هل لكل هذا سند عقلي أو منطقي ؟للأسف تدعي الأديان أنه حدث برعاية الله ، و أي إله هذا ؟ لماذا لم يتسائل هؤلاء عن الغاية وراء كل هذا ، يجيبون بحتى يؤمن الإنسان بالله ، عجيب طيب سواء آمن أو لم يؤمن ما الذي سينقص و ما الذي سيزداد ؟
بالإنتقال إلى الديانة اليهودية التي تعتبر أم الأديان التوحيدية ، فمنها خرجت المسيحية و من رحمها خرج الإسلام ، يكفي أن تطالع الإنجيل و القرآن و تقارنه مع ما جاء قبلا في الثوراة حتى تندهش بتشابه غريب ، و كأنه تلاقح لاهوتي ، نضرب مثالا بمقطع جاء في "سفر التثنية" حيث يقول الله : ( أنا أميت و أحيي ، سحقت و إني أشفي ، إذا سللت *سيفي* البارق و أمسكت بالقضاء يدي ، أسكر سهامي بدم و يأكل سيفي لحما بدم القتلى و السبايا و من رؤوس قوات العدو ) (15) . و كأنه جنكيز خان من يتكلم ، نتسائل بدهشة ، هل لله سيف كالبشر ؟ هل الإله الذي خلق الكون له أعداء من البشر و يتحارب معهم دائما ؟ أي منطق هذا ؟ هذا الإله واضح أنه بشري ، و الدليل على ذلك أن وصفه ينطبق على زمانه حيث يحمل سيف ، و هو آلة حرب كلاسيكية ، لماذا لم يقل سأرسل عليكم صوارخ عنقودية أو إنني أحمل كلاشنيكوف .. قال سيف و هو ما يتبث أنه إنسان أله نفسه و لا زال من يعتقد به على أنه رب .
أما المسيحية فربهم إنسان -حتى لا نطيل - و أفضل ما قيل في هذه الديانة هو ما انفلجت به شفتا الفيلسوف العريق الألماني " فريدرك نيتشه" حيث قال : ** آخر مسيحي كان هو أول مسيحي عاش متألها و مات على الصليب **
تسائل مهم جدا :
فضلا عم ما سبق ، يلاحظ القارئ إن جميع الديانات التوحيدية نزلت في الجزيرة العربية. فالهند والصين واليابان وجنوب شرق آسيا، مثل كوريا وفيتنام مجتمعة تمثل اليوم أكثر من نصف سكان العالم، أي حوالي اثنين مليار ونصف المليار شخص. كل هؤلاء الناس يدينون بالديانات البوذية أو "الهندوس" وهي ديانات وضعية غير منزلة. وسكان الجزيرة العربية مجتمعة، لا يتعدون المائة مليون شخص. فلو رجعنا بتعداد سكان العالم إلى الوراء بطريقة عكسية "Regression" نستطيع أن نقول قبل حوالي 4000 سنة، لو كان سكان الجزيرة العربية مليون شخص -افتراضاً- فإن سكان الهند والصين واليابان مجتمعه، يكون تعدادهم ما يقارب *250 مليون شخص*. والسؤال الذي يطرح نفسه هو : لماذا أرسل الله كل هؤلاء الرسل إلى مليون شخص في منطقة فلسطين والجزيرة العربية وتجاهل المائتين وخمسين مليون الآخرين ؟ أين الحكمة في ذلك ؟ لم ينزل ولا رسول واحد بلغة الصين أو الهند أو اليابان ، فقط هناك لغات الجزيرة و ما جاورها ، و كأن في هذه المنطقة الفلاسفة الوجودية الذي وجب إرسال الأنبياء إليهم ، و في إقتناعهم اقتناع كل الناس ، أي منطق احتكاري غير عادل مثل هذا ؟
أخيرا أقول مستعيرا ما ذكره " مشيل أونفريه" ( إله الأديان لم يمت ، و لا يحتضر ، و لن يموت في أي يوم ، سيموت آخر إله عندما يموت آخر إنسان ، لأن الخرافة لا تموت ما دام الإنسان حيا ) (16) ,لذلك يجب أن نكون صريحين مع أنفسنا على الأقل , فالله ليس ذكر و لا أنثى ، لا يحمل سيفا و لا مدفعا ، الله ليس إنسان عاش بين الناس يأكل و يمشي الأسواق و ليس اسمه المسيح ، الله لا يمكن أن يكون إلى متساميا عن هذا كله ، عندما أشاهد صورة عن "الكون" و بعد أفقه ، شيء ما في داخلي يقول : *كل هذا أبدع و أكبر و أعقد بكثير من أن تفسره فلسفة أو علم أو دين* ، يبدو لي وراء كل هذه السعة و العظمة ما هو أكبر بكثير مما نظن و نعتقد ،لذلك أتمنى أن أعرفه يوما ما .
----------------------------------
المراجع :
1- Encyclopaedia Britannica، 1994، "History of Religion"
2- Iqal Review.April 1962 p.58
3- Man in the Modern World, p.130
4- Norton White, The Age Of Analysis, pp.21-22
5- مطرقة البرهان و زجاج الإلحاد ، ذ.عدنان ابراهيم ، سلسلة من تفريغ منال الذيباني ، ص 9
6- اسبينوزا و الإسبينوزية تأليف فرونسوا مورو ، تعريب ذ.جورج كتوره ، ص.131
7- رسالة في اللاهوت و السياسة ، تأليف باروخ اسبينوزا ص.213
8- Quoted by C.A.Coulson.Science and Belief, p.4
9- الإسلام يتحدى مدخل جديد علمي للإيمان ، تأليف وحيد الدين خان ، ص 19
10- نفسه ص 21
11- Mysterious Universe, p189
12- Man The Unknown, p.15
13- قانون الطاقة المتاحة أو ضابط التغير يتبث بأن الكون ليس أزليا ، ذلك من خلال وصفه للحرارة التي تنتقل دائما من "وجود حراري" إلى "عدم حراري" و العكس غير ممكن ، و هو أن تنتقل هذه الحرارة من من "وجود حراري قليل" إلى "وجود حراري عدم" إلى وجود حراري أكثر" ، و عليه فإن ظابط التغير هو التناسب بين *الطاقة المتاحة* و *الطاقة غير المتاحة * ، بما أن الحرارة من مركبات الكون و حسب هذا القانون فإنه غير ممكن أن تنتقل من عدم إلى وجود بل العكس هو الحاصل ، لذلك إذ أسقطنا القانون على الكون و بما أن الحرارة جزء منه ، فإنه كذلك مستحيل أن يخرج من العدم إلى الوجود ، بل له بداية و هو ما يقتضي التفكير في أول من بدأه .
14- The Evidance Of God, p.55
15- سفر التثنية ص, 32.39.42 .
16- نفي اللاهوت. مشيل أونفريه ،ص 126