جُمان - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

جُمان

قصة قصيرة

  نشر في 26 أكتوبر 2018  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

في صباح الواحد والعشرون من ديسمبر ارتدت "جُمان" وشاحاً مصوف خمري اللون، وكان شعرها المقصفة أطرافه ينسدل من تحت الوشاح، قامت بتحضير كوباً من الزنجبيل وجلست على شرفة منزلها الكبير في لندن، وقد صادف هذا اليوم يوم مولدها لكنها نسيت أنها ستبلغ الثامنة والثلاثين من العمر.

أخذت تسرح في طبيعة لندن الجميلة المطلة من تلك الشرفة، ثم بدأ الضباب بالمجيء، كلما نظرت إلى الضباب راودها ذاك الشعور الذي يهدد هدوءها النفسي، جاءت فراشة صغيرة صفراء اللون استقرت على وشاحها، نظرت إليها مبتسمة ابتسامة مبهمة، لأن تلك الفراشة أعادتها إلى ثمانية عشر سنة قد مضت.

في يوم من أيام الماضي كانت “جُمان” تشرب القهوة مع من سكن قلبها واحتل تفكيرها، وفي هذا الوقت جاءت فراشة ذات اللون وقعت في كوب القهوة، من توتر الموقف انسكب كوب القهوة على معطفه، كان ذاك اليوم سمائه ملبدة بالغيوم، شعر صاحب المعطف ببرودة يدي حبيبته “جُمان” ألبسها معطفه الذي عليه بواقي القهوة المنسكبة.

بعد شهور طويلة من تلك العلاقة الجميلة جاء إليها وقال لها: أشعر أني في مأزق كبير، متشتت الذهن، تذهب التفاصيل الصغيرة الجميلة من حياتي إلى فراغ أبدي، أصبح قلب “جُمان” يدق بسرعة كبيرة من هذا الكلام، حيث شعرت أنها ستدخل زوبعة لا تدرك معناها، ثم أكمل كلامه بقوله: عائلتي رفضوا رفضاً قطعياً زواجي منكِ بسبب إصابة أختك “مسك” بالتوحد، حاولت معهم مراراً وتكرارا دون جدوى، رمشت “جُمان” أسرع من المعتاد، وقالت له: أرجوك لا تتخلى عني إنك المحور الذي تدور حوله حياتي.

قام بتقبيل يديها ورحل، في تلك اللحظة شعرت “جُمان” أنها خسرت اللهفة خسارة أبدية، ورأت حياتها عبارة عن أمسية تعيسة يتخللها قدر مغلف بالوحدة..

بعد مرور عدة شهور قاسية تقدم لخطبتها دكتور في العلوم السياسية بجامعة لندن، كان رجلاً أرمل، حاد الطباع يكبرها عشرون عاماً، يعيش في لندن منذ مدة طويلة، ولكنه جاء إلى فلسطين ليحضر جناز أمه، وقبيل سفره أصرت أخته "وداد" على تزويجه لتطمئن عليه، وكانت ترى في “جُمان” فتاة مثالية لأخيها، ولكن “جُمان” رفضت هذا الأمر رفضاً تاماً لأنها لا تريد الدخول بعلاقة خالية من الشغف، ولكن بعد محاولات عديدة من عائلتها بالإقناع شعرت للحظة بالضعف وقررت القبول لأنه بنهاية الأمر لم يكن لديها شيئاً لتخسره، ودخلت تلك المغامرة.

بعد زواجها بمدة قصيرة جداً حملت “جُمان” وقررت أن تسمي ابنتها على اسم أختها لطالما أحبتها كثيراً، ومن الجدير بالذكر أن زوجها كان يُعاملها بفوقية، ولا يسمح لها بوضع مساحيق التجميل.

في يوم من الأيام كانت “جُمان” برفقته في المكتبة لشراء بعض الكتب، ثم لفت نظرها كتاب “الكشاف” للزمخشري فأخذتهُ من الرف لكي تشتريه، وعندما رآها زوجها أخذه منها وأعاده إلى الرف، وقال لها: ماذا تفعلين؟! حسناً سأعتبر قلة ثقافتك عذراً لهذا، فقالت له: أرجوك لماذا تقول ذلك، لم أفهم، قال لها إن الزمخشري كان يعتنق مذهب المعتزلة، وكلامه لن يتوافق مع عقيدتنا، قالت له: أعلم ذلك ولكن البلاغة الموجودة بذلك الكتاب لم يشابهها أي بلاغة لذا أحببت أن آخذه، نظر إليها نظرة مملة وقال لها: من الأفضل لك أن تأخذي كتاباً يتحدث عن الأطفال وما شابه، على الأقل ستستفيد بذلك ابنتنا “مسك” المنتظرة، وكأنهما يعيشان في عالمين مختلفين.

بعد ولادة ابنتها “مسك” بعشرة أعوام، وفي يوم كثيف الضباب، جلس زوج “جُمان” والشيب يملأ رأسه في الشرفة، قام بمناداتها لكي يشرب معها قهوة الصباح، و بدأ يتكلم بصوت رحيم هادئ، وقال لها: يا زوجتي أتعتقدين أنني رجل لطيف؟ صمتت “جُمان” وقالت في تردد: نعم، أظنك كذلك، ثم قال لها: حسناً يا عزيزتي كنت أعلم أن كلماتي كانت تؤذيك في بعض الأوقات. قالت له: أرجوك هدئ من روعك ولا داعي لذلك، ثم قال لها: لكن أريدك أن تعلمي أمراً هاماً، ثم أصبحت يداه ترتجفان ووقع كوب القهوة منه على الأرض، دخل في حالة اللاوعي، وبعدها بساعة فارق الحياة دون أن يذكر ذاك الأمر الهام.

اااه ما هذا قد انزلقت الفراشة في كوب الزنجبيل.. يا لتلك الفراشة قد أعيدت “جُمان” ذكرياتها، ثم سمعت صوت الباب يطرق، إنها “مسك”، فالآن موعد قدومها من الجامعة، كانت “مسك” هي أمل وروح وماضي ومستقبل وشغف “جُمان” فهي من تمد أمها بالسعادة وتُنسيها غلاف الوحدة الذي راهنت عليه في يوم من الأيام.


  • 3

   نشر في 26 أكتوبر 2018  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات

مقااال ممتع وجميل تسلم الاياد ي على جميل ما كتبت أبدعتني وابهرتينا بأبداعك
1
سهام السايح
شكرا لك عزيزتي هذا من لطفك
روحي لله أبثها
العفو عزيزتي

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا