تسألني: أتظنّ أنّ أحداً بحاجةٍ إلى قراءة ما تكتبه؟ وهل تصدّق أن هناك من لديه الوقت ليقرأ خواطرك الطويلة إلى نهايتها؟ وهل تتخيّل أنّ في العالم من هو مهتمّ أصلاً بقراءة مواضيعك المُمِلّة أو سماع مواعظك المنفّرة؟ فلِم تضيّع ساعاتٍ فيما لا يعود عليك بنفعٍ يُنميك ولا مردودٍ يُغنيك؟
أجيب: أعلمُ أن الناس يتفاضلون بالسلوك والأعمال وليس بالكتابة والأقوال. وأنا لا أمارسها ناصحاً أو متفاصحاً بل لعلّيّ أحوجهم إلى النصيحة، غير أنّي اُمارسها لأنها أسلوب التعبير الأقرب لنفسي. فمن القرّاء من هو أبدع بريشته، ومنهم من هو أصدق بشعره، ومنهم من هو أبلغ بقوله، ومنهم من هو أنجح بعمله.
إنما أنا أكتب لأتعلّم!
اقرأ في هذا الصدد: أنت أقوى مما تظن
التفوّق عادة وليس إنجاز - أرسطو
– فمنذ أن اكتشفت أن الكتابة من أفضل الرياضات العقلية، أقبلت عليها كتمرين من خلال العصفٍ الذهني الذي أقوم به أثناءها. فخواطري غالباً ما تبدأ بمقدّمةٍ تُهيّئ لما أنوي طرحه، مروراً بعَرضٍ أقوم فيه بتحليل الأفكار بشكل متسلسل ومنطقي، وصولاً الى خاتمةٍ تكون ثمرة رؤيتي. وخلال الكتابة أمارس الاختزال، إذ غالباً ما تبدأ كتاباتي أطول بكثير من المساحة التي يسمح به الحيّز المتاح ووقت القارئ (550 كلمة).
– وهي ترفع مستوى ذكائي الشعوري: فبها أعبر عن ذاتي وأصف مشاعري وأحسن التعبير عنها، وذلك ضروريّ لتحقيق السلام الداخلي وتنفيس الشحنات المتراكمة.
– وخلالها أحسّن كفاءتي اللغوية: بممارستها أستخدم طيفاً من المفردات من مترادفات وأضداد، وتعابير ودلالات، مما ينمّي ملكتي اللغوية، ويحسّن من قدرتي على النقاش وتبادل الأفكار.
– وهي تساعدني على مذاكرة قواعد النحو والاملاء: فأنا أحرص كثيراً على تفادي الأخطاء، وأعرض نصوصي على مختصّ لغوي ليصحّح لي ما يعثر عليه من ملاحظات.
– وهي تقوّي ذاكرتي وتشحذها: خاصة حين أحتاج استخدام شواهد من مأثورات أو آيات تدعم الأفكار التي أسوقها للقارئ، مما يحسّن الذاكرة وهي أهمّ الكفاءات العقلية.
– كما وتساعد الكتابة على تقويم نفسي: فهي تحرر أوقاتي من السلبية وأشعر لدى إتمامها براحةٍ لإنجاز نصّ يستحقّ القراءة.
– وهي تساهم في تطوير ذاتي: لأن تشجيعي للآخرين من خلالها على التغيير والحلم والطموح والتنظيم والاجتهاد، يعطيني طاقةً كامنة ورغبةً أكيدة لأن أكون صادقاً مع نفسي فأصبح في طليعة المتغيرين.
– والكتابة تجعلني أكثر ثقةً بنفسي يوماً بعد يوم: فلا يخفى أنه كلما أتممنا عملاً، أحسسنا بقوةٍ ورغبة في الإقدام على عملٍ يليه. لأن النجاح سلسلة مترابطة الحلقات لا انفكاك لها.
– وهي مع ذلك كلّه طريقةٌ حضاريّة للتعبير: لأنها لا ترغم أحداً على الاستماع كما أنها لا تسرق وقت أحد. ولا يضطر الناس معها الى مجاملتي أو معارضتي، يل يستطيعون تجاهلي وما أكتبه بسهولة.
– وهي مطواع إذ اّمارسها وقتما اّشاء في المكان الذي أشاء: وليس كما تشاء الظروف.
– وأكتب معذرةً إلى ربّي: فالتبليغ من خلال الكتابة للعموم، طريقةٌ راقية لا حرج فيها.
اقرأ أيضا في هذا الصدد: عشر ممارسات تجلب السعادة النجاح
Flora Whittemore – الأبواب التي نفتحها ونغلقها كلّ يوم ، ترسم طريقة حياتنا
ولي فيها مآرب أخرى:
– إذ أعطتني بطاقة التعريف عن ذاتي: فاكسبتني أصدقاء جمعتني بهم وحدة الإهتمامات واسلوب التفكير.
– وهي وسيلتي لتدوين مراحل العمر عبر محطات وقفتُ عندها وخواطر كتبتها، لتصبح شاهدةً على تطور نظرتي تجاه الحياة ورؤيتي لسبل الفوز فيها.
– وأخيرا تمثل الكتابة وسيلتي الوحيدة التي أرجو أن يَتعرّف بها عليّ، وليدي الذي لم يرَ النور بعد، من خلال حَبلي السري الذي مددته له، لأنسج وشائج محبة. ذلك أنه إن شاء الله له بالقدوم يوماً، فلن يتسنى لي أن أعيش بما يكفي لنتبادل النّصح وطيب الصحبة. فلربما يدفعه الفضول يوماً ليطلع على آرائي ويستمدّ نصائحي منها نصائحي، أو لعلّ الحنين يشدّه إلى البحث عني وقت ضعفه، فيعثر عليّ في طيّات خواطري.
منشورٌ أصلاً في "نافذتي": https://nafithati.blog/2017/05/07/حكايتي-مع-الكتابة/
إن أعجبك الموضوع، فساهم في نشره. فإن عجزت عن ذلك، فشارة إعجاب تكفي.
-
أقباس فخريلا أكتب للناس بل أكتب لذاتي. أحاول العثور على نفسي حين أكتب. لعلّي ألملم شتاتها المبعثرة فأجمعها، أو عساني أعيد تكويني.
التعليقات
ربما لولا هذه الاعترافات السرية لما وجدت القصيدة، لما وجدت القصة، لما وجد الكاتب نفسه» هذا ما قاله الشاعر الإنجليزي تيد هيوز وهو رأي أشاطره فيه .
سلمت يداكم
... لا احد يستطيع اخي العزيز... ان يتجاهل ما تكتبه فهو( وليس مجاملة) كتاباتك كلها كلام صادق نابع من عقل وفكر مستنير ويصل الي القلب والعقل بسهولة ...
فما اجملها من حكاية عن الكتابة . لك منى جزيل الشكر والتقدير.. اخي ابو بلسم
رائع و بالتوفيق .