تَغشى البَريةَ كدرةٌ
في وصف ما نشعر به
نشر في 16 شتنبر 2015 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
في ذلك اليوم كنت أشعر أني تجاوزت عمري الفيزيائي بمراحل ..أمشي ببطء كعجوز تمد الخُطى قدر المستطاع لأنها ليست واثقة من خطوتها التالية، في مثل هذه اللحظات تنخفض قيمة كل شئ إبتداء بالغايات والأهداف العظيمة مروراً بالمعاني المجردة والأحداث الروتينية وانتهاء باللحظة الراهنة ..ليس الزهد فضيلة على الدوام
أُقلبُ النظر في الماضين حولي ..للمرة الأولى أشعر بانتماء شديد للكل، للمرة الأولى كان الجميع حائراً بنفس درجة نفسي، خائفاً من فوات شئ لم يعرفه قط، ورغم ذلك – أو ربما لذلك – لم يتوقف أحد عن الحركة ، ربما تخفف الحركة شيئاً من خوفنا أو ربما نفنى فيها فيختفي شعورنا بالأشياء كلياً... الآن أفهمك يا مُطران وأفهم كدرتك التي غشيت البرية وملأت – أول ما ملأت – ذاتك ونفسك،
كانت معلمتي على حق .. الكون يعاجلنا بما نحن عليه، كن سعيداً تُسارع إليك البهجة، كن حزيناً يسارع إليك الحزن، كن خائفاً ترى في كل العيون شيئاً من خوفك، فعقلك يرى الأمور بمرآة ذاتك فإذا قصرت يوماً عن معرفة ذاتك فانظر إلى الكون وقل لي ماذا ترى !
هناك على جانب الطريق .. أخفض نظرك قليلاً..ترى ذلك الصغير يقف ملتصقاً بالحائط كأنه يريد لجسده أن يشغل أقل مساحة ممكنة أو أن يذوب في الحائط تماماً كما تذوب قطعة السكر في الماء ..يحتضن وجهه بين كفيه وبين الحين والآخر يرتفع صدره وينخفض مع شهيقه وزفيره ..تسقط دمعة من هنا وأخرى تهرب من هناك وتعجز أصابعه الدقيقة عن حجز كل هذا، يجتهد ليخفي ماكان من أمره فيصبح اجتهاده لإخفاء دمعه نوعاً آخر من البكاء ..ويزداد التصاقه بالحائط وركونه إليه ..من المخيف أن يرغب أحدهم في أن يتلاشى لا سيما إذا كان أحدهم هذا قطعة صغيرة من البراءة الممزوجة بالجمال الذي لم يختلط بما يشوبه بعد..
هل كان ذاك حائط منزل أم مدرسة ؟ ..لا أذكر تحدياً، كما أنني لا أذكر متى رأيته ..ربما قبل شهر أو أكثر، كثيراً ما تغيب تفاصيل الزمان والمكان عن العقول لكن تفاصيل الإنسان لا تغيب أبداً .. أنا لا أتذكر ملامح الصبي لكني أتذكر حزنه – أو ماخُيل لي أنه حزن - ..لا أتذكر وجهه لكنني أتذكر عينيه المحدوده في تحدبها ..أتذكر كيف كانت تضييق لتنجب دمعة ثم تضيق مرة أخرى لتنجب أخرى، لطالما ذكرتني العيون الضيقة بالبكاء والحنين كأن صاحبها على وشك البكاء أو يبكي بالفعل ..
حين انتبه الصغير إلى وجودي..أبعد ناظريه، اعتدل دون أن ينتصب، كفكف الدمع ما استطاع ..أعرف ذلك الشعور، حين تحاول أن تقول " ما زلتُ قوياً .. مازلتُ ثابتاً " ..أن تُداري ضعفك خلف هالة من الحديث المُختلق، حين ترفض إشفاق أحدهم ولوبنظره ..لأن إشفاقه هو ضربٌ آخر من الألم، وأنت مُكتفٍ بما قد أصابك ولا تريد أن تتحمل مشقة ألم جديد ..أعرف ذلك الشعور ولكن أستغرب أن يعرفه الصبي، كيف وهو حديث عهد بالبشر ولا أُقدر أنه أمضى معهم أكثر من عشر أعوام .
أحاول أن أتوقع قصة الصغير هذا ..قد يكون قصر في واجبه فأنبه المعلم ..ربما أضاع أمه وعائلته فشعر أنه وحيد كآخر زهرة من نوعها فهي تبكي مرتين، مرة رثاء لوحدتها وأخرى رثاء لنوعها .. قد يكون خائفاً من عقوبة أحدهم أو ربما ضربه أحدهم ... أتعبتني يا صغير، كل القصص التي عرفتها يوماً لا تبدو منطقية أمام دمعك الهادئ وحزنك الساكن ..كلها لا تكفي لتبرير ألم الشيوخ الذي رأيته فيك
إبتعد الصغير حينئذ ولم أعرف إلى أين ذهب ولا من أين جاء .. وابتعدتُ لأواصل سيري بغرض الحركة ليس إلا، ولم أعلم أكان الصبي يحمل كل هذا الألم حقاً أم أنني رأيت ذاتي ليس إلا ...
تغشى البرية كدرة آنستها وكأنها صعدت إلى عيني من أحشائي
-
Mariam Mostafaنحن نكتب لننتصر ..لأننا أقوى من كل ما نستطيع التعبير عنه فالحروف هي انتصاراتنا المتواضعه على ضعفنا قبل كل شئ