أربع حروف - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أربع حروف

بقلم : أحمد خضر أبو إسماعيل

  نشر في 17 يوليوز 2017 .

 في غرفة بالية نجلس فيها أنا وصديقي عمر كانت الرطوبة تقضم خيوط ثيابنا حتى تهلهلت , لم تُبقِ ولم تذر حيزاً من إلا وبسطت جبروتها المتعفن حالها حال رجالات " تنظيم الدولة " في المدينة لم يتركوا مساحة على الأرض أو في دواخلنا وعقولنا إلا وضربوا أنيابهم فيه , تتشابه رائحة التعفن كثيراً برائحتهم وكأنها أضحت قرينة دالة على وجودهم في فضاء ما ... من هذا العالم .

عيونهم تترصد حركة العابرين في أي مكان يطوفون كل الرواقات مثل الأشباح , يتحركون بخفة الظل لا تكاد تلمحهم حتى يتلاشون عن بصرك , يعتريك شعور أنك دائماً تحت أبصارهم مهما حاولت التخفي لا يُغيبك عنهم سوى الموت ... الموت فقط كفيل بأن تهرب بعيداً عن وجودهم .

صديقي عمر هو الذي بلغ ربيعه العاشر كان الله قد أنعم عليه بأنه ولد فاقداً لحاسة البصر , وتنسج حكايات أهل المدينة أن أمه أصابه الذعر لدرجة أنها غابت عن الوعي وهي حامل بشهرها التاسع وروايات آخرى تقول : بأن نسل العائلة مُصاب بلعنة تطاردهم فلا ينجو أحد من شر تلك اللعنة .

أهل المدينة يجدون دائماً في حياكة القصص مجالاً للترويح عن النفس منذ أن دخل " تنظيم الدولة" إلى البلاد ومنع عنهم أي شيء إلا الهواء والثرثرات الجانبية , فكل الأحاديث يجب أن تنتهي بعيداً عن براثنهم التي تتربص بأي كلمة أو تصرف .

عمر صديقي في حصص تحفيظ القرآن الكريم , كنت دائماً أنظر إليه بعيون الحاسد فهو لا يرى ما نرى من وحشية هؤلاء المقنعين ولحاهم السوداء الطويلة وعيونهم الجاحظة التي تكاد تهرب من تفاصيل وجوههم , هو لا يرى أسلحتهم ولا كيف يتم تدريبنا على إستعمالها ولا حتى يلمح التماع نصال سيوفهم ,لا يرى تلك الأعلام السوداء التي ترفرف مثل غربان الشؤوم في سماء المدينة , لا يرى تلك الأسلحة الثقيلة التي تُنبت الهلع فينا , كان الله قد أنعم عليه بأنه ولد ضريراً , الظلام الدامس كان أجمل بكثير من رؤية هذا الصنف البشري .

كانت مهمتي مساعدة " عمر " على حفظ القرآن وبقدر ثواب هذه المهمة كانت صعوبتها فكنت أتلو آيات الذكر الحكيم وهو يعيد خلفي ما أقول الأصعب ليس القراءة والإعادة وإنما أسئلته التي لا تستكين , كل الأشياء يجب أن أرسمها ضمن كلماتي حتى يتيسر له فهم مايقرأ , في غالب الأحيان عندما يسألني يظن أن فرق عامين بيننا كفيل بأن أجد تفسير وأجوبة لكل أسئلته إلا أني كنت أستعين بشيء من خيالي حتى أجد له مايقنعه ولم أفلح دائماً في ذلك , ربما لأنني لست مقتنعاً بما كانوا يلقنونا إياه من تفسيرات لكلام الله .

كان لحوحاً يريد فهم كل شيء في ظل حكم " التنظيم " الذي يريد إقفال عقولنا , كان دائماً يتعثر بلفظ كلمة " الدولة الإسلامية " ويقول " داعش " وكنت أسارع دائماً لأضع يدي على فمه وألجمه بالحديث عن قطع الرؤوس واغتصاب النساء ويشهرون بجثث القتلى ويقتل الأطفال والأبرياء ويستسيغون قتل الحجر أيضاً ربما كان كل ذلك عصياً على إدراكه , وأقول: لا تقل داعش " ألفظها بهمس الهمس " فهم يفعلون كل شيء يردد خلفي ببغائياً كما اعتاد ولكن متسائلاً : كل شيء... كل شيء ؟

أرد جوابه بذعر أكبر حتى أزرع الرعب بداخله : نعم كل شيء , على العكس كان يضحك ويقول : أربع حروف فقط وما إن يضع الدال على الشفاه أكظم غيظي وأمد يدي مجدداً وأغلق فمه وأنفاسه معاً وأقول : أربع حروف نعم لكن لا تنطقها متتالية .

اليوم كان يقرأ أمام أحد الشيوخ " هدياً إلهياً من سورة هود " فقال :

{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }

أعاد قراءة الأية وكأن سؤالاً استفاق في أعماقه , اشتم رائحتي بقربه تحسس وجودي بحواسه التي لا يملكها سواه و وجه عيناه اللتان غطاهما السواد نحوي وارتسمت ابتسامته التي تسبق أسئلته الخطيرة عادة , ورائحة الموت تفوح من السؤال الذي راح يتدرج على شفتيه كانت رائحة الموت هي الآخرى تشبه رائحة رجالات التنظيم الذين تشربوا جل أنواع القسوة وأعلنوا صياماً عن الرحمة وقال : داعش لماذا تقتل الناس إذاً ؟

أربع حروف لا تنظقها متتالية هذه آخر كلماتي وآخر إجابة عن سؤاله .


  • 8

   نشر في 17 يوليوز 2017 .

التعليقات

منه حازم منذ 7 سنة
مقال أكثر من رائع, فكره وسرد ووصف.
النهايه مُبهره ,, بالتوفيق
0
أحمد خضر أبو إسماعيل
شكراً لدعمك ومرورك الراقي .......تحياتي
ايناس مهدي منذ 7 سنة
أسلوبك في الوصف و استخدام الكلمات جدا مشوقة رائعة استمر .
0
أحمد خضر أبو إسماعيل
شكراً لدعمك ومرورك الراقي ......تحياتي

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا