عودة الغزال الشارد
عودة الغزال الشارد
نشر في 21 يونيو 2017 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
دوائرٌ صفرٌ و حمرٌ و زرقٌ و خضرُ, لولا الألم في رأسهِ لظنَ أنه يتأرجحُ في قوسِ قزحٍ . فتحَ عينيهِ و لكنِ ستائراً من النورِ الضبابيةِ حجبت ما حوله من الرؤيا ,و لكنه أحسَ بيديهِ و قدميهِ تتأرجحان في الهواءِ و تصدمان كلَ مرةٍ بشيءٍ صلبٍ، فيرغمهُ الألمُ على أن يغمضَ عينيه ثانيةً. و ما أنْ أغمضَ عينيهِ حتى أشرعتْ ذاكرتهُ عن المشهدِ الأخيرِ الستائرَ ،حينَ قفزَ من قمةِ الجبلِ هرباً من الضباعِ , و قد كانَ السقوطُ من علٍ آخر ما يذكر. فتحَ عينيه ليدركَ أنهُ معلقٌ على شجرةٍ ليس بينها و بين الأرضِ إلا قفزةً واحدةً. “إضغط بجسدكَ على فرعِ الشجرةِ بكل ما أوتيتَ من قوةٍ" الصوتُ آتٍ من أسفلِ الشجرة , ذاك الأرنبُ , هو نفسُ الأرنبِ الذي سبقه في القفزِ من قمةِ الجبل. استعجلهُ الأرنبُ قائلاً: أسرعْ الوقتُ يمضي و عدوك سريعاً يأتي , و لا تتردد ْو إفعل ما أقول و عليك بسرعةِ النزول و مغادرةِ هذه السهول , قبل أن تولي شمسُ النهارِ و تزول”. ألقى بكلِ القوى الباقيةِ في جسدهِ المتألمِ على الغصنِ الذي انكسر فسقطَ على الأرض يأنُّ من جراحهِ , و لأول مرة يبكي نفسَه و يبكي قوته و شبابه و يسألُ نفسهُ فيما أفناه و أذابه.
تذكرْ قولَ الأصيلِ (و رافقْ الأرنب، فهو لخطى الليث أسمع , و إجري في متسعِ الهضبِ و تجنبْ السيرَ في الظلِ و تحت الشجرِ , فبين غصونها يختبيء عدوك , و يخونك سمعكَ و بصرك. و حين ذاك ليسَ بينكَ و بين وادي البنفسجِ سوى النهر تجتازه.) تمنى أن يمضى هذا اليوم من عمره سريعاً , و أن لا يكونَ هذا اليومُ آخرَ عمره. حثهُ الأرنبُ على الركضِ السريع الذي لم تعدْ -قدماه اللتان قطعتا الفيافي و الديار عدواً كأنها نزهة – أن تسرعا أكثر. أرادَ أن يستريحَ تحتَ ظلِ الشجر , و لكن الأرنبَ حذره من ذلك , لئلا يحملَ الأثيرُ رائحته الى الليثِ , فيجدهُ بين برهةٍ و انتباهتها إلى حتفهِ أقرب. ركضَ و ركضتْ الصورُ التي ركنها في قاعِ الذاكرةِ طويلاً , تترآى له , تثيرُ في نفسهِ البكاءَ حيناً , فتهتزُ الطريقُ أمام ناظريهِ , و حيناً تملأُ نفسَهُ بالفرحِ و روحهُ بالنشاطِ و القوةِ , فيحسُ كأنما الطريقَ تطوى من تحتِ قدميه طيا. صورُ الصغيرِ الذي يتنقل راقصاً بين والديهِ و في عينيهما ألفَ متفرجٍ يشجعهُ , و يستحلي رقصهُ , و حضنهما الدافيء عندما يعانقانه سويا ًعند المساءِ ،فينامُ و لا زالت قبلاتهما تحكي له كلَ قصةِ حبٍ سطرتْ على هذا الكوكبِ , و يرى أول ما يرى النورَ في عينيهما اللتين تهديان قلبهُ كل فرحٍ و بشرى بنهارٍ كلهُ حبٍ و أمل. أتراني أعود؟ … أتراني أصلُ الى أرضِ البنفسجِ سالماً ؟ أتراهما لا زالا أحياء ؟ قطعَ عليه الأرنبُ شريطَ الذكرى ,و قال :يجبُ أن نتوقف عند طرفِ النهرِ لنأكلَ و نرتاح و بعد ذلكَ عليك قطعُ النهرِ و العودةُ الى ديارك.
وصلَ الى حافةِ النهرِ يجرُ قدميه جرا و قدْ تسارعتْ أنفاسهُ ،و تكادُ ستائرُ أجفانه تنسدلُ على المشهدِ الذي لمْ ينتهِ بعد , و نهاهُ الأرنبُ عن الاستسلامِ و حثهُ على مواصلةِ مشوارهِ الذي شارفَ على نهايته. لم يعدْ يسمعُ أو يرى و قد غلبَ عليه التعبُ و إلى النوم انتهى. إستيقظ على صوت الريحِ الغاضبِ , و على تدفقِ النهرِ الصاخبِ , و على صوتِ الطيرِ الخائفِ , و لأعشاشهِ و نومهِ الهانيء هارب. أدركَ أن عدوهُ قريبٌ و مباغت, تاهتْ خطاه و اضطربْ منه الفكرُ , و قد أسدلَ المساءُ رداءه الثقيل , فلم يعدْ يبصرُ الطريق , و قد أمسى وحيداً دون رفيق. ليتني أخذت بنصيحةِ الأرنب! و ما على الماضى أندم و لكن على مطاوعةِ هوى النفسِ أعتب! قفزَ بكلِ قوته , و أمسى يركض و ليسَ يدري أيّ عدوٍ خلفهُ و يركض و بإتجاه صوت النهرِ , و ما إن لامستْ قدماه الماءَ ,أحس بجسمٍ ثقيلٍ يندفع فيمسكٌ بذيلهِ و مؤخرته , و لكنهُ قفزَ قفزتهُ التي أدركَ أنها الأخيرةُ قبلَ النجاةِ أو الهلاك. سمعَ زئيرَ الليثِ و قد إنزلقتْ رجله في النهر فأرخى قبضته عن مؤخرةِ جسده , فأخدَ يقفزُ من صخرةٍ لأخرى , و يرتمي مع الماءِ الجاري المتدفق تارةً ثانية إلى أن لامستْ قدماه الجانبَ الآخرَ من النهر .
أحس ببردٍ شديدٍ إنتفضت له كل سُلامةٍ في جسدهِ من الألمِ ,فرفعَ رأسهُ للسماءِ بالدعاءِ : يا ربِ إرحم جهلى , و مطاوعتي هوى نفسي , و غروري بقوتي و شبابي و اجمعني بوالديّ . و غاب الجسدُ مع الألمِ و غابَ الوعي مع شدةِ الندم , و أفاقَ على رائحةِ البنفسجِ تداعبُ أثيرَ الصبحِ الذي لبسَ ثوبَ النور. إستيقظ كلُ ما فيه من الفكرِ و الذكرى و الأماني , كما الألم .نظرَ إلى جسدهِ مذعوراً من كثرةِ ما به من جراحٍ لا زالت تدمي , و لكنْ ما أوجعَ قلبهُ أكثرَ .. ذيلهُ الذي إختفى جزءاً منه بينَ أنيابِ الليث. بكى كيفَ غادرَ المكانَ يملؤه الخيلاءُ و هو الرشيقُ الخطى جميلُ القدِ ,عادَ اليومَ كسيراً ًجريحاً و مشوهاً. تعالتْ أصواتُ الكائناتِ من كلِ جانبٍ. نهضَ يجرُ الخطى , و شارفَ على التلِ , و إمتلأتْ عيناهُ بالدمعِ حين رأى الغزلان الجميلةِ التى تناثرتْ في كلِ مكانٍ كفراشِ الربيعِ , نزلَ التلَ و لكنَ الغزلانَ كانت اليه أسرعُ ترحبُ بعودتهِ إلى الديار.
تباعدتء صفوفُ المرحبين لقدومِ الغزاليين العجوزيين , لم يصدقْ عينيه أنهما لا زالا أحياء , إحتضناه في صمتٍ طويلٍ خيمَ على كلِ الأرضِ و السماء , و لما هطلَ الدمعُ من عينيه قالتْ له أمهُ: بكينا من العمرِ زمناً طويلاً و حانَ دوركَ للبكاء . يا ولدي إبكِ ان شئت , فلو كانتْ الدموعُ تمحو الخطايا لما ترددَ كائنٌ عن ارتكابِ الذنوب و الدنايا , و لكنكَ عدتْ و في قلبِ الوالدين متسعُ للمغفرةِ , إقتربَ منه غزالٌ فتيٌّ صغير ُسكن شهابٌ ثاقبٌ في عينيهِ , قد إستقر في قلبهِ ذاتَ يومٍ و سأله في فضولٍ : ما يكونُ خلفَ مرجِ البنفسجِ ما عساه؟ قالَ له الغزالُ العائدُ: أرضٌ جميلةٌ لا يمكن أبداً أن يكونَ لك فيها مستقراً و خلفَ كلِ خطوةٍ عدو ينتظرْ , و عند المنعطفِ صحبٌ ينبذونك عند الخطر. و أنَّ منْ يتركَ بإختيارهِ الوطنُ لابد أنْ يدفعَ الثمنَ من راحةِ البالِ و صحةِ البدن, و ندمٌ لا يمحوهُ الوقتَ و لا الزمن.
-
راوية واديكاتبة و رسامة فلسطينية .مدونتها الخاصة علي الإنترنت Rawyaart : (https://rawyaart.com) متفرغة للكتابة و الرسم في الوقت الحالي.