نقد النقد الأخلاقي للحضارة الغربية .
نشر في 19 أبريل 2019 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
إن النقد جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان ، خصوصا إذا كان فيلسوفا أو مفكرا ، إذ يحضر عند البعض كمدخل للتحرر كما هو الحال عند "الجابري" الذي يقول: "إننا لا نتقد من أجل النقد و إنما من أجل التحرر" ، كما يشكل عند البعض فعلا لا مناص منه للبناء و التقدم كما هو الحال مع "ماركس" الذي يقول: "النقد هو أساس التقدم ، و نقد الدين هو أساس كل النقد" ، كما يتمثل عند آخرين مرادفا "للإكتشاف" كما هو الحال مع إمانويل كانط و مؤسسي النظرية النقدية ماكس هوركهايمر و تيودور أدورنو . غير أن الإشكال يكمن في أن يتحول النقد إلى فعل نكوصي تقوقعي ، رفضي لثقافة و فكر الآخر ، كما هو الشأن عند بعض من يُكنَّون تجاوزاً بالمفكرين في العالم العربي ، و نريد أن نخص بالذكر هنا الكاتب المصري "عبد الوهاب المسيري" الذي درس في الغرب و تتلمذ على عظماء أدباء و فلاسفة الغرب ، ثم ليشن عليهم حملة نقد شعواء نكوصية انتهت به إلى رفض الفكر الغربي و تجريد هذا الغرب شعوبا و حكومات و مجتمعات و أفراد من أي قيمة أخلاقية .
انتهى علامتنا بعد مدارسة طويلة كما يقول للفكر الغربي إلى تقرير عدة مواقف من بينها ، أن الإشكال بدأ في أول الأمر في عصر النهضة الذي أزال الغيبي (الإله) من مركز الكون و عوضه بالحضوري (الإنسان) المختلف عن الطبيعة و المادة و المتبني لمنظومة أخلاقية مطلقة ، التي -في مرحلة ثانية- سرعان ما تمادت مركزيتها حول الإنسان و العلم إلى درجة نفيها لكل مطلق أو متجاوز و إيمانها فقط بالمادة و الطبيعة ، و هو النموذج المعرفي الذي صار يفسر الوجود عند الغربيين في كل أبعاده ، حتى تحول الإنسان في هذا الفكر الغربي إلى مجرد مادة خالية من أي قيمة أو أخلاق ، فبما أن هذا الفكر نفى المقولات الميتافيزيقية و أعدم المطلقات ، و إذا كانت الأخلاق قيمة و ليس مادة فهذا يعني أن الفكر الغربي ما عادت له أخلاق و لا قيم متجاوزة ، الشيء الذي أدى بدول الغرب إلى القيام بمجازر مليونية و حروب عالمية و حملات إمبريالية لا يمكن أن توصف إلا بأنها لا أخلاقية ، هذا هو حصاد قول مشروع كاتبنا ، و هي ملخصة خصوصا في ما يتعلق بمنظوره للأخلاق، في كتابه "الفلسفة المادية و تفكيك الإنسان" الفصل 8، ص 196-234 .
إن المسيري من خلال قراءة بسيطة لكتبه ، يتبين أنه من جماعة "التفكير الثنائي" الذي يقابل بين ثنائيات متناقضة كـ: نحن/هم ، مادي/رمزي ، مطلق/نسبي ، إنسان/إله ، ضعيف/قوي ، مؤمن/ملحد ، صلب/سائل (التي اقتبسها من زيغمونت باومان) ، عربي/صهيوني ... و هو يعالج كل الإشكاليات الفكرية التي تطرق لها من هذا المنظور الثنائي بشكل حُرُوفِي يذكر بحروفية التفسير السلفي للنصوص الدينية في القرون الوسطى .
بالعودة إلى أفكار صاحبنا ، يتضح بأن الأخلاق عنده مطلقة و لا غنى من إجل إقرارها و التصرف على هديها من مطلقات و متجاوزات، الشيء الذي يتيح إمكان بل يؤكد وجود غيب و قوى ميتافيزيقية (كالآلهة- الشياطين- الملائكة...) ، هكذا فوجود الأخلاق التي بطبيعتها لا مادية و تميز الإنسان فقط في مملكة الطبيعة يتبث شيئين مهمين، أولا بما أن الأخلاق مطلقة فإن هذا يتبث وجود إطار لها هو عالم المطلقات الذي يشكل موضوع إيمانيات البشر الدينية، ثانيا بما أن الإنسان هو الكائن الطبيعي الوحيد الأخلاقي فهذا يعني أن أصله ليس مادي بل مطلق، أو "رباني" وفق وجهة نظر المسيري، هكذا يكون الفكر الغربي بإعدامه للمطلقات قد أعدم الأخلاق و معها أصول الإنسان الربانية. هذه الأفكار بادِيٌّ حجم الصحة فيها ظاهريا، غير أنها ما تفتئ أن تنتفي عنها صفة الصحة و المعقولية، إذا فككناها و عرضناها على الواقع ، إذ يمكن نقدها من 3 وجوه :
-أولا: من "جهة الواقع" الذي يقدم للإنسان المفكر حقيقة لا مناص من الإعتراف بها و هي: أن "التاريخ يقر بعدم تباث أي منظومة أخلاقية أبدا" ، فالكثير مما يعد عند هؤلاء محسوب على الأخلاق يعد عند أولائك لاأخلاقي (على مستوى المكان/الإختلاف بين الشعوب) ، كما أن ما يعتبره شعب من الشعوب في فترة من التاريخ من الأخلاق يرتد في فترة أخرى و يعتبر علاقته بالأخلاق منعدمة (على مستوى الزمان) ، فحتى أحكام الدين الواحد تغير حسب الزمن ، إذا كان الإسلام مثلا يبيح الرق و سبي النساء و بيعهم في أسواق النخاسة و يعتبر هذا غير منافي للأخلاق في الماضي ، فإن الرق اليوم عند المسلمين من مشمولات عدم الأخلاق ، ثم إذا كانت المرأة المسلمة تعتبر أن الحجاب من الأخلاق فإن المرأة المسيحية أو البوذية أو اللادينية لا تعتبر الحجاب من الأخلاق ، كل هذا يعني أن جزء كبير من الأخلاق يختلف من شعب إلى آخر و من زمن إلى آخر، ما ينفي أن كل ما نعتبره من الأخلاق مطلقا، بل هو على العكس "نسبي" مشروط بالزمان و المكان و العادات و القوانين و القواعد الإجتماعية، غير أن هذه النسبية بدورها ليست مطلقة هي الأخرى كما سيأتي بيانه .
-ثانيا: عند الأستاذ المسيري الوجود يُتَلقَّى في ذهن الإنسان في شكل مادة و قيمة، أو حضوري و غيبي ، نسبي و مطلق، و بالتالي أي شخص ينفي الصورة و الغيب ينفي المطلق أي ينفي الأخلاق في نهاية المطاف ، هكذا يصبح في نظر كاتبنا كل شخص لا يؤمن بالمطلقات التي تتركز فيها الخرافات و الأساطير المقدسة إنسان لا أخلاقي و إن تصرف بطريقة أخلاقية فهو يتبث ما ينفيه (المتجاوز/الميتافيزيقا) و يكون بذلك متناقضا ، بهذه الطريقة يطلع لنا شخص كـ"كارل ماركس" الذي عاش حياته كلها مدافعا عن المظلومين و الفقراء لا يملك من الأخلاق فِلساً، و يصبح شخص كـ"ستيفن هوكنغ" العالم الذي لم يقدم للبشرية سوى العلم و المعرفة و الخير لا علاقة له بالأخلاق لأنه لا يؤمن بالمطلقات ، بل إن على الأقل 20% من البشرية ممن لا يؤمنون بالمتجاوز مجرد أكوام من السَّفلة و اللاأخلاقيين و إن لم يقدموا للبشرية سوى الخير . إن هذه النظرة الطوباوية و السَّلَفِيَّة للأخلاق واضح مدى فشلها في تفسير موضوعي لمنشئ الأخلاق، لأن من تحسبهم على جهة اللاأخلاقيين هم في الحقيقة و باعتراف التاريخ و الواقع هم أئمة الإنسانية في الأخلاق، إذ إن عقم هذه النظرة تكمن في رؤية عبد الوهاب المسيري للوجود الذي يقسمه إلى مادة و قيمة و مطلقات، حيث أنه فشل في تمييز أمر مهم يفك هذا الإشتباك من أزمته ، و هو:
إذا كانت تتحتم وُجوبية تأسيس الأخلاق على مطلقات كما يؤكد ذلك بعض فلاسفة الأخلاق كـ"إمانويل كانط" ، فإن هذا لا يعني أن هذا المطلق بالضرورة يجب أن يكون "مطلقا دينيا ميتافيزيقيا" يستوجب إيمانا و عقيدة دوغمائية ، لذلك نميز بين شيئين مهمين غفل عنهما الأستاذ ع.المسيري و غيره من الأنتلجينسية السلفية المعاصرة، هذين الشيئين هما: "المطلق الواقعي" و "المطلق اللاهوتي" ، و الفرق بينهما بالغ الأهمية لموضوعة أساس الأخلاق اللامادي، فالمطلق الواقعي يتجسد في "الحكم الأخلاقي و الجمالي" الذي ليس يشرطه الزمان و المكان، و مثال ذلك مساعدة شخص ما إنسانا آخر في حاجة إلى المساعدة ، لا يمكن أن يكون هذا التصرف إلا أخلاقيا في كل زمان و مكان ، بذلك فإن الحكم على هذا التصرف غير مشروط بمُقيد، بل هو أخلاقي مطلق كما أنه و هذا أهم شيء متحقق في "واقع معين" و يمكن البرهنة على وجوده بكل بَدهية، غير أن المطلق اللاهوتي غير قابل وجوده أو عدم وجوده للبرهنة و الإستدلال، هكذا فمعنى "المُطلق" وفق هذا التمييز مختلف عن معناه المستعمل من طرف المسيري، و بذلك فإذا كان ضروري تأسيس الأخلاق على مطلق، فإن هذا المطلق هو "واقعي عيني" و ليس "لاهوتي غيبي" كما وضح ذلك كانط ، بل إن الأخلاق عند هذا الفيلسوف لا تستقيم مع وجود مطلق لاهوتي ، لأن "نداء الواجب الذي ينبع من ضمير الفرد" هو الذي يجب أن يكون الباعث على الفعل الأخلاقي ، و هذا عكس المطلق اللاهوتي الذي يعد الإنسان بـ الحسنات و دخول الجنة و الحوريات و الغلمان مقابل التصرف الأخلاقي ، أي يربط الأخلاق بـ"المصلحة" ، و هو عين الفساد و الفسولة و اللاأخلاقية عند كانط ، حيث يعتقد بأن كل تصرف لا يعتبر غاية في ذاته بل يحقق غاية أخرى بواسطة هذا الفعل ، كأن لا تسرق لأن السرقة في حد ذاتها شيء لاأخلاقي و إنما يتأدى هذا التصرف بصاحبه إلى غاية متجاوزة لفعل الإمتناع عن السرقة و هو دخول الجنة ، و هذا ليس من الأخلاقية بمكان مادام مرتبط بالمصلحة و ليس بالواجب (انظر تلخيص فلسفة الأخلاق عند كانط في: محمد مهران، "تطور الفكر الأخلاقي في الفلسفة الغربية" ، ص152-174).
-ثالثا: عند الأستاذ المسيري الواقع إذا انعدم الإعتراف بوجود المطلق فيه (اللاهوتي خصوصا) ، يتحول رأسا إلى مادة فقط دون قيمة أو غاية ، غير أن أبعد من اختزالية هذه الرؤية لا توجد ، إن من لا يؤمن بالمطلقات لا يعني أن الواقع في وعيه و تصرفاته منفية عنه القيمة و الغاية ، و الدليل على هذا تبشير كبار الكفار بالمطلقات اللالاهوتية و بالقيم الأخلاقية و الغايات الإنسانية، كـ"برتنارد راسل" و "يورغن هابرماس" و "أدونيس" ، بل إن شعوبا كلها اشتهرت بنزور بل شبه انعدام الإيمان بالمطلقات اللاهوتية و هي من أكثر شعوب كوكب الأرض أخلاقية و سلمية كالشعب الياباني و الصيني و السكاندينافيين ، و بالتالي فعدم الإعتراف بالمطلق الميتافزيقي لا ينفي جمع الواقع للمادة و القيمة و الغاية في وعي الإنسان كيف ما كان خصوصا الإنسان الغربي الذي يعتبره المسيري مادي محض.
هكذا تسقط أهم الإعتبارات التي يبني عليها عبد الوهاب المسيري موقفه الديماغوجي للأخلاق ، فأولا ليست "كل" القيم مطلقة بل نسبية و مشروطة بالزمان و المكان و الثقافة ، كما أنه إذا اعُتبر أساس الأخلاق لا مادي بالضروري ، فإن اللامادية ليس بالضرورة تجد جذرها في "مطلق لاهوتي" ، بل يمكن و يستحسن أن تأسس على "مطلق واقعي" ، ثالثا انعدام الإعتراف بالمطلق اللاهوتي لا يقصي عن الواقع مُركبَّه القيمي ، كما لا ينفي عن صاحبه إمكانية الفعل الأخلاقي ، و بذلك يكون الغرب ليس أخلاقي بالمطلق و في نفس الوقت ليس لاأخلاقي بالجملة ، كما هو الحال مع أي شعب في التاريخ .