أحلام اليقظة
ليس عيبا أن نمنح أنفسنا وقتا لنحلم , فكثيرا ما يكون الواقع أقسى من أن يمنحنا حياة تليق بما نأمل , وليس المقصود هنا أحلام المنام , فحتى هذه لم تبخل على بعض منا بالكثير من الكوابيس واللقطات المزعجة , والأغلب بالكثير من اللامعقول , أحلام اليقظة فن لا يتقنه إلا البؤساء , في أي مكان , وفي أي وقت , وفي أي موقف , تجد نفسك هاربا من واقعك لتصنع لحظات قد تأخذها من الماضي , وربما من الحاضر , وحتى من المستقبل , لحظات هي ليست إلا إعلان رفضك لكل ما يحيط حولك من أحداث وأقدار وواقع لم تساهم في صياغته , وربما تعتقد أنه لم يمنحك الفرصة لتشكله , قد تكون الحقيقة أنك عاجز عن المساهمة في تحقيق شيء منه , قد تعلم وقد لا تعلم , ولكن حدود مقدرتك وقناعاتك أقنعتك أنك مسلوب الإرادة في المساهمة بتشكيل ذلك الواقع , ليس مهما تبرير حقيقة ذلك , ولكن المهم أنك غارق في قناعاتك تلك , بعض النفوس البشرية تكون ضعيفة ورقيقة لدرجة أنها تفضل الاستسلام لأي واقع يحيط بها , وهي موقنة أنا ضحية لذلك الواقع , هي مؤمنة أنا لن تستطيع تغيير أي شيء حتى لو قادها نحو التعاسة والحزن , هي مؤمنة أن هذا قدرها الحتمي والذي لا انفكاك منه بأي حال من الأحوال , إنها النفوس التي تجد خلاصها في صنع حياة موازية تتخذ من رغباتها وأحلامها وتمنياتها مهربا مما يحدث فعلا حولها .
غالبا ما تحدث تلك الأحلام (أحلام اليقظة) في مرحلة يكون العمر قد وضع أسلحته جانبا , وفي لحظات تتباطأ فيها سرعة الحياة ويتسلل البرود لمفاصل الأحداث , ويبدأ فيها الإنسان برغبات قهرية للنظر نحو الخلف , نحو اللحظات التي شكلت وساهمت في وضع قطار حياته على تلك القضبان الجبرية , تلك اللحظات المفصلية التي كانت تتشكل فيها حيواته الموازية وكأنها تقول "هيت لك" اختر ما تشاء , ويتم الاختيار وينطلق قطار العمر أو قطار القدر أو قطار الحظ سمه كما شئت , نحو واقعك اليوم , ربما يعتقد البعض أن تلك اللحظات التي نشأت فيها خياراته كصندوق الحظ الذي سيفتحه ولا يدري ما بداخله , فربما كانت كعكة لذيذة , أو ربما مجرد قطعة قذارة , ولكن بعد فوات الأوان وانتهاء الاحتمالات والاختيارات , وبعد أن يضع الحظ أوزاره , تكتشف أن الطريق كان خاطئا , أو ربما تعتقد أنت بأنه خاطئ وليس كما تتمنى وتأمل .
ليس هناك شك أن الكثير منا يعتقد أن بعض تلك الخيارات التي سلكنها ذات يوم ساهمت بتشكيل واقعنا اليوم , وأصبحت تلك الخيارات أرضا خصبة لممارسة أحلام اليقظة , وغرسنا فيها بذور (لو) وتتبعنا أغصانها حيث نمت , ومن المؤكد أن الاحتمالات التي نمت نحوها تلك الأغصان هي جنة هروب للبعض من جذور نبتة الندم تلك , فكلما اعتصرت أفئدتنا تلك الجذور وتغلغلت بأشواك الواقع المرير (أو الذي يراه البعض مريرا) , اقتربنا من سور أحلام اليقظة وابتسمنا بأسى , ودخلنا تلك الجنة الوهمية وداعبنا أغصان الأحلام المستحيلة بشوق وتنقلنا بين جذور أحداث الحياة ومارسنا الهروب وكأن تلك الأغصان الوهمية هي أطواق النجاة التي تأخذنا بعيدا عن سقطاتنا وتعثراتنا التي نعتقد أننا اخترناها خطأ ذات زمن .
هناك حقيقة من الصعب نكرانها , فبعد مرور النصف الأجمل والأقوى من الحياة , تتساءل عن أهم سقطات العمر , وأسوأ تلك العثرات التي وشمت بها حياتك ولن تستطيع منها خلاصا , ستجدها بذرة وضعتها بيدك , (أو ربما وضعها القدر في طريقك رغما عنك ليس هناك فرق) , كانت تهمس لك ربما بصوت أشبه بنغم سماوي يتدفق بنور الرغبة والشوق واللهفة , يتدثر بألحان الحياة ويرسم الغد بألوان زاهية , تدس تلك البذرة وأنت تنتظر نموها لتستظل بأفيائها بكل حب وسعادة ولهفة , تسقيها الأحلام الرقراقة والأماني الواعدة , تدس وجهك في ترابها لتحميها من قسوة الواقع , وتستنشق رحيق الحياة وهي تتفتق بأسرار السعادة المختزنة لجلالتك الحالم , تتلوى معها وتتراقص مع لحن لم تشعر به من قبل , لتفاجأ ذات زمن أن طلعها كأنه رؤوس الشياطين .
الكثير منا سيجد نفسه يقول (ماذا لو) ذات وقت عبر حياته , خاصة لو تجرع مرارة الخيبة والندم عبر طرقه المتشعبة في الحياة , (ماذا لو) هذه هي مفتاح لحديقة (أحلام اليقظة) , وأحيانا يتساءل البعض ( هل من العدل أن تمر بي خيارات في دقائق معدودة وتكون نتيجة اختياري الخاطئ سنوات من القهر والعذاب واليأس والندم ؟) , تماما كمن مر بلحظة غضب وقتل إنسانا أخر خلال ثواني وكانت النتيجة أن يدفع حياته كلها ثمنا لتلك اللحظة الغاضبة ؟ .
هل يحق لنا أن نتساءل (يا ربي كنت تعلم بنتيجة هذا الاختيار بكل ما فيه من ضياع ربما لأجمل سنوات العمر , وربما دفع ثمنه غيري ممن يحيطون بي ولا ذنب لهم , ربما كانت سنوات مليئة بالقهر والدموع والندم ومحاولة الهروب من كل شيء , كل ذلك مقابل دقائق من سوء الاختيار , يا ربي بالتأكيد كانت هناك خيارات أسلم وأفضل , كانت تستبدل نتيجة الاختيار الخاطئ الذي ذهب العمر في طياته بكل ما هو سيئ ومؤلم وبائس , بعكس ذلك من رضا وهدوء وأمان وراحة بال والبعد عن ملء الصفحات بالخطايا ومحاولة الهروب والتعويض والإصلاح والتي حصدت في طريقها المزيد من سوء .
هل يستحق البعض هذا الكم من الخراب والسوء والآثام عبر حياته ربما لعقود من أجل لحظة اختيار خاطئة مرت في دقائق قليلة ؟؟؟
هل تستحق تلك الدقائق من الاختيار الخاطئ أن نقول عنها ( يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ؟؟؟
-
Adelsaleh _123_123مواطن