التقرير الثاني - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

التقرير الثاني

الهدوء بعد العاصفة .. وعودة المياه إلى مساقيها.

  نشر في 18 يناير 2020  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

لا تستمع للنصائح فهي كثيرة، وكل نصيحة تبدأ بـ"لا".. وكذلك هذه النصيحة.!


     مُبتهجاً أتى المقهى الذي يحبه؛ السيد (برو) في مقهى كرو، مُشرقاً وكأن الشمس في ساعتها الأولى تُشكّل وجهه. روحه قد عمّت المكان فابتسامته التي لا تسقط من ثغره قد عادت. هناك شعور أن روح الحياة قد عادت له. سأشتاق لذلك الأسبوع الكئيب الذي مر به، فهو عدو اليأس إلا أنه يلجؤ له ليعيد تشكيل حياته. صادف يأسه بداية العام المنتظر 2020م والتوقيت كان مناسباً تماماً؛ نفض الغبار عن مذكراته واستعاد ذكرياته التي أحب ولم يحب، يُعيد التأمل في تطور/تدهور شخصياته الكثيرة التي شكّلها وشكّلتها الحياة من بدأ التوثيق غرّة العقد الماضي الهجري (1430)، بدأ وقتها مرحلة جديدة من حياته. بسيطة الآن ولكنها مصيرية تلك الساعة؛ فهل يدخل المسار العلمي أو الأدبي -الشرعي- في المرحلة الثانوية ؟

     كانت ملامحه قد تغيّرت قليلاً، يبدو أن وزنه زاد. بمرور أسبوع فقط ! لا أظن. ربما يأسه الماضي قد غيّب عنّي حتى الملاحظة في جسمه، كان كل تركيزي تجاه السيد برو في ابتسامته الغائبة. التي عادت الآن. هل أشكر الله على عودتها ؟ أو أن هنالك أمواج لم يراها برو أقوى من قلعته التي بناها على جزيرته النائية ؟ ربما كانت تلك الجزيرة مؤقته بناها لهذه المرحلة فلكل مرحلة أمواجها الخاصة.. فلا تسونامي بعد ذلك الأسبوع .

     رحّب بي كعادته وانعزل كعادته فهو الاجتماعي الذي لا يُفضّل أن يُجري حوار أطول من طلبه من صانع القهوة؛

- السلام عليكم.. كيف أصبحت؟

- الحمد لله، قهوة اليوم علي، وبالمناسبة لا أحد يقول لي "كيف أصبحت؟" إلا أنت!

- لم أتعود أن أطلب من صانع القهوة عن اسمه، يكفيني أن يصنع يومي بهذا المشروب الذي لا يمر يوم إلا وأشربه..

- وش دعوى، معك (مار) سيد (برو)

- تشرفنا سيد مار.. لكن ما معنى اسمك ؟

- سأخبرك إن أخبرتني بمعنى اسمك !

- إذن تشرفنا مرة أخرى سيد (مار)

ابتسم السيد (برو) ابتسامته الرقيقة كما بادله السيد (مار) ابتسامته المنتصرة، فبعد سنة من حوارهم القصير جداً – وكان هذا أطور حوار- قد سألني السيد (برو) عن اسمي. فـ للسيد (برو) حضور واضح حتى لو حاول إخفائه تواضعاً وهرباً من علاقات جديدة.

     استطردت كعادتي؟! سأعيد الجملة التي بدأتها قبل حصول ذلك الحديث الذي كان من الضروري توثيقة:

"رحّب بي كعادته وانعزل كعادته فهو الاجتماعي الذي لا يُفضّل أن يُجري حوار أطول من طلبه من صانع القهوة أن يصنع قهوته لليوم. فهو لا يلتقي بالأصدقاء هنا، بل يحاول ألّا يخبرهم به ولا أن يوثق لحظاته هنا.. أظنه يعتبر هذا المكان ملجأ! وكم يحتاج الإنسان إلى ملجأ يجد نفسه فيه. أخبرني برو في لقاءات سابقة أن أحد ملاجئه الأخرى هي المكتبات؛ التجوّل بين أزقّة الصفوف والرفوف المليئة بالكتب نعيماً مقدم من جنة الخلد. بالنسبة له وبالنسبة لي، حتى لو لم أخرج بكتاب واحد من المكتبة، يكفي أن تُقرّ عيني بقراءة العناوين والفهارس والمقدمات وربما نتطاول ونقرأ أجزاء لا بأس بها من الكتب. العودة مرة أخرى إلى السيد (برو) وملجأه مقهى كرو؛ فهو لا يلتقي بأحد كما أخبرتكم إلا بـ(رام) وكانت الاستثناء بالنسبة له . رأيتهم عدّت مرات ولم أجرؤ أن أسأله عنها فعلاقتي به لم تتعمّق بعد. رغم كل ما أعرفه عنه فهو الكتاب المفتوح لـ السيدة (رام) فقط، وللبقية فهو يُظهر ما يريد أن يروه ويظن الرائي أنه ذلك الكتاب الذي باستطاعة الجميع قراءته. أستاذ في التنكّر.


     يُخبرني السيد (برو) عن السيدة (مَد) وعن حبها للكتب وقراءة السير الذاتية والمذكرات الشخصية بالتحديد، فهي تقرأ الآن (الأيام) لطه حسين، وعن انجذابه لشخصيتها العميقة البسيطة. فلها من اسمها نصيب.

     كانت الآنسة (مَد) قد تخرجت للتو من أحد مدارس الحياة فقد ذاقت قبل أسابيع موت والدها الذي كان لا يرى إلّاها في حياته، وبالفعل كانت وحيدته بعد موت والدتها وهي صغيرة. قرر أن يكون لها الأم والأب والأخ والأخت، وعدّت مرات يكون ذلك الجد الحكيم والجدة النصوح. كان عدّة أُناس في رجل واحد. (مَد) انكسرت بعد أن كانت كالغصن المثمر. هي هذه تحاول الالتئام والنمو مرة أخرى، وتحتاج إلى وقت. فكل شيء مؤقت كما تقول إلزابيث جيلبرت وهذا الوقت سوف يمضي. ولكن لا أحد يخبرنا أن الوقت -وإن مضى- فآثار الحريق ستُبْصَمُ على جلودنا.!

     على مقعدها المعتاد المُطل على الناس. فهي والتأمل كيان واحد. قال لي (برو) مرة إذا أردت أن ترى التأمل على هيئة إنسان فتلك (مَد). لم تطلب القهوة. اكتفت بالماء. فليست من عشّاق القهوة والتصوير والتفاخر بما تشرب وتأكل وتقرأ. كانت تشارك الخمسة عشر من متابعينها صور لاقتباسات أوقفتها فقط.. لا شيء آخر سوى الاقتباسات.


     أمامها الأيام وبجانبها طفلة تبيع ورد. تطفّلت الطفلة على هذا المكان الغريب بالنسبة لها؛ موسيقى شبه صاخبة ومُختلف الأجناس، وأنواع المأكل والمشرب، وطبقات مختلفة كلها شبيهة بالطبقة البرجوازية وتلك الطبقة المسكينة التي تحاول اللحاق والتشبه بهم وتحترق في مسعآها ولا تصل. تتوجه إلى (مَد) هذه الفتاة وكأنها تعلم أنها أرحمهم بها فهي التي ترى نفسها في المساكين ذو النفوس القوية. ابتسمت (مَد)، وأخيراً. فهي الابتسامة الأولى بعد موت والدها.. هل رأت نفسها في عين الطفلة؟ تلك الطفلة التي كانت لا تقلق إلا من تقبل زميلاتها في المدرسة من عدمه ! كادت أن تسقط دمعتها لولا أنها نادت نفسها وقالت ؛ مَد بلا دراماً.. أجلستها بجانبها. كل الأنظار حول (مَد)، هل هي أمها ؟ لكن ملامحها أصغر من أن تكون أم! طفلة على هيئة امرأة. هكذا كان يصفها (برو).

أخذت الطفلة قلمها الملّون وأقرأتها (مَد) جزء من كتاب الأيام، وقد اختارت تلك الفقرة بعناية. فهي لها أولاً وللطفلة أخيراً؛

هل ستتذكرين هذا الموقف يا فتاتي ؟ ثم استدركت مد وسألت الطفلة عن اسمها وأجابت:

- لا أحد ( no one )!

هل رأت صراع العروش ! تعجبت مد وقالت بجدية ؛ ما اسمك حبيبتي ؟

- لا أحد.. قالوا لي ما عندي اسم.

- اسمك وردة يا حبيبتي.. اسمك وردة. لا لأنك تبيعين الورد الذي سأشتريه بالكامل الآن، بل لأنك وردة. نقية. مُزهرة. بشوشة.

- اسمي وردة !

- اسمك وردة.

- بس لا تشترين كل الورود، إذا شريتيها كيف بسعد اللي مثلك ؟

تفاجأت من قولها (مَد).. واكتفت بأن طلبت لها مخبوز لا أذكر ما كان المحشو به، ولكنها أطعمتها وانصرفت. وبقيت (مَد) لوحدها.. متأملة. وتقرأ.


     أخبرني السيد (برو) بعد أن قضى ما يكفي من الوقت لوحده أنه بدأ يستعيد حياته. لا أحب السؤال وإلا سألته عن سبب اليأس الذي اغتاله الأسبوع الماضي ثم ما سبب العودة إلى الحياة ولكنني أخجل أن اسأل السؤال الخطأ. اكتفى بأنه أخبرني أن يوم 15 يناير 2020م كان سيلتقي بـ السيدة (رام) ولكن حالت بينهم الظروف وأنه عاد لقريته واستعاد طاقته من جديد وها هو الآن أمامي يبتسم ابتسامته المشهودة ويستعد لخوض الأسبوع الثالث من هذه السنة.


     السيد (برو) يُخبِر أصدقائه أنه مشغول ويأتون أصدقائه في نفس المقهى الذي يجلس فيه كثيراً ويرونه يقرأ لا أحداً معه ويغضبون ! وبرو حقًّا مشغول بوجهة نظره؛ فالقراءة لها وقتها، لذلك عندما يقرأ فهو مرتبط بالكتاب والكاتب، للورق الثمين وقته المقدّس، ولحياته الكبيرة وقتها الخاص.

مؤخراً زاد وعي أصدقاؤه وبدأوا يتقبلون رأيه الذي لم يعجبهم .


     كان يسألني بعد عزلته وتغيبه عن الواقع؛ هل انتهى العالم.. أم للتو بدأ ؟

اكتفيت أن أظهرت له هذه التغريدة .. وكفى بها جواباً. ما زلنا في البداية.




- كُتِبَ يوم السبت 18 يناير 2020م في مقهى كرو.


#تقارير_السيد_برو


  • 1

  • محمد الشثري
    خرّيج إدارة .. وأرى التأمل أسلوب حياة .. والقراءة فرضُ عين! .. والكتابة سعي للبقاء .. وأحاول أن أعيش أكبر قدر ممكن من التجارب ..✨
   نشر في 18 يناير 2020  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

((وبرو حقًّا مشغول بوجهة نظره؛ فالقراءة لها وقتها، لذلك عندما يقرأ فهو مرتبط بالكتاب والكاتب، )) اتمنى ان يفهم الجميع عُمق هذه العلاقه ، وكم سيكون جميلاً لو أُصدر قرار يمنع مقاطعة من يقرأ كتاب .
أنا اتفهم عاطفة (مد) تماماً فالاب رجل لن يتكرر في حياة الفتاة ولايَحِل محله أي أحد لا أخ ولازوج ولاولد ومهما بلغ بها العمر فهو امانها (رحم الله كل ابٍ متوفي وحفظ وعافى من هو على قيد الحياه) .
اما حبُ المكتبات واعتبارها نعيماً من الجنه فأنا اتفق معك وبقوه بهذا ، وغالباً القارئ النهم يُحب العزله مع كتبه (يبدو الامر وكأن الكتاب يعدنا بالكثير من المتعه مُقابل ان ننشغل به ومعه فقط )
مع تحياتي لكُل قلبٍ استعمرته حبُ الكتب ومشاركتها.
0
محمد الشثري
شكراً لمرورك مُهاجره

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا