الحلقة 3
بعد جلوسهم بدقائق و تعارفهم على السيدة ادريسية و السيد عادل ، بدأ زملاء العمل في الوفود على مركز المعلومات ، فجاء السيد حسن عامر ثم السيد عادل الرئيس ، و كان السيد حسن عامر رجلا في الخامسة و الثلاثين من عمره إذا لم يخنه حدثه ، غزا الشيب بعضا من سواد شعره ، تشي هيئته و شاربه الرقيق على أصوله الأمازيغية ، و كان شخصا صموتا أو هكذا بدا له في البداية ، اما السيد الرئيس فكان إلى الطفولة أقرب ، لم يكن من السهل عليه تخمين سنه ، فقد كان يبدو شابا في الخامسة و العشرين من عمره ، كان بلحية سوداء و نظارات طبية ، و ابتسامة ودودة تدل على شخص طيب جدا !
كان الترقب هو الإحساس السائد في قلبه ، و الجو حتى و إن شابه بعض من الترقب و الحذر أحسه عائليا ، حيث كان السيد عمر مهران ، يحاول أن يخفف من وطأة اليوم الأول بتقديمهم إلى الزملاء الأخر ، و خلق جو من الدعابة جميل ..
كانت الأمر على العموم تشي بكل جميل ، على الرغم من أنه كان كفارسي في سوق العرب ، و لم يفهم و يفقه أبدا ما كان زملاؤه يفعلون ، و لا فحوى المكلمات التي يتلقونها من أجل حل مشاكل الشركة ، إلا أن الجو العام الذي كان يخيم على مركز المكالمات كان يشي بكل شيء جميل !
كان السيد ملاحي شخصا مميزا حقا ، أحس به شخصا يحب السيطرة ، من خلال تعامله الأول من المحيط الجديد ، حتى في طريقة تعارفه مع الآخرين ، كانت الأنا حاضرة بقوة .
بعد تعارف بسيط، و جلوس لدقائق في مركز المعلومات، أحضر السيد مهران أوراقا مطبوعة عبارة عن جدول عمل للأسبوعين الأولين من تاريخ دخولهم الفعلي للعمل في الشركة، و كان الجدول عبارة عن تداريب و مداخل من أجل تسهيل البداية الفعلية في التعامل مع مشاكل الشركة المعلوماتية !
دعا السيد مهران الثلاثة الجدد إلى قاعة للمحاضرات، توجد في الطابق الرابع .
في الطابق الرابع كان عليهم أن يقطعوا مسافة بسيطة للإلتحاق بقاعة المحاضرات ، و كانت هناك مساحة شاسعة مخصصة لمراكز الإتصال المتعددة التي تشتغل لفائدة الكثير من الزبناء في مجال الإتصال و التأمين ، و الأبناك ، رمقهم و انتابته حسرة في قلبه ،ربنما كان ذلك بسبب ما سمعه عما يقع في هذه المراكز من ضغط و توتر يؤدي بصاحبه إلى معاقرة الأدوية و عيادة أطباء الأعصاب ، ربما هكذا كان الأمر ..
في غرفة المحاضرات و التي شغلت مساحة صغيرة نسبيا ، كانت طاولة تتوسط القاعة ، بكراس شبه وثيرة على الجوانب و صبورة بيضاء مثبثة على الحائط المقابل و جهاز تلفاز .
استلقى يعقوب على كرسي ، قابله السيد ملاحي ، و السيد حجة بعد أن سلمهم السيد عمر كراسات فارغة من أجل التدوين ، و زجاجات ماء بلاستيكية .
و كان اليوم مخصصا أكثر للجانب النظري منه إلى الجانب التطبيقي ، و كان يعقوب يحاول أن يتابع ما يشرحه السيد عمر مهران قدر جهده ، و كان الأمر صعبا ، فشخص كان أدبي التوجه ، و كاتب ، كان من الصعب عليه جدا أن يفهم ما يقوله ، و كان يطرح السؤال تلو السؤال عن كل ما صعب عليه استيعابه ، بعكس زميليه الذين كان أحدهما قد درس المعلوميات فعلا في ألمانيا ، فكان يمتلك الكثير من المعلومات حول هذا المجال ، و كان الآخر بحكم مناصبه المتعددة التي شغلها في حياته على دراية لا بأس بها من الأشياء التي كان السيد مهران يشرحها ، و لكنه لم يكُ ليستسلم لإحساس الإحباط بسهولة هكذا ، فواعد نفسه ، بأخذ ما شرحه السيد عمر ، و الذهاب به إلى البيت ، و مراجعته و البحث في الأنترنت عما استشكل عليه !
انقضت الساعات الثلاث التي كانت مخصصة للجانب النظري ذلك اليوم ، و استأذنهم السيد عمر في الذهاب إلى الغذاء .. في طريقهم إلى المصعد ، شرح لهم السيد عمر عن قوانين العمل ، و أنهم يتمتعون يوميا بساعة من أجل الغذاء، و لكن الأمر سيختلف هذين الأسبوعين و من أجل ذلك سيكون في حوزتهم هم الثلاثة ساعة و نصف يلتقون بعدها في مركز المعلومات من أجل أن يقضوا الوقت المتبقي من اليوم في مشاهدة ما يفعله زملاؤهم في العمل .
حين نزولهم إلى الطابق الأرضي كان السيد عمر و بدون مقدمات ، يشرح لهم كل السبل التي يمكن أن تؤدي بهم إلى محلات الأكل في المنطقة ، فشرح لهم أن المطاعم هناك تختلف بحسب اختلاف جودة الأكل و طعمه ، و أوصاهم بزيارة محلين ، الأول متخصص في طويجنات القريدس ، و الثاني متخصص في المأكولات الجاهزة بصفة عامة ، شكروه على النصائح ، و استأذن هو إلى حال سبيله ، حيث سيعرف فيما بعد أن يقطن قريبا من مقر العمل ، و أن لديه الوقت الكافي لتناول الطعام في المنزل و أخذ قسط كاف من الراحة قبل العودة مجددا ..
استأذن السيد ملاحي ، حيث آثر أن يذهب إلى أحد المحلبات القريبة من أجل أكل شيئ بسيط ، و اقترح يعقوب على السيد عز الدين أن يذهبا إلى أحد المطاعم القريبة من أجل تناول وجبة الغذاء ..
وافق السيد عز الدين بسرور ، و ذهبا معا ، يجرهما بطنيهما إلى ناحية أكل تمنيا أن يكون لذيذا..
في الجهة المقابلة من الشارع ، و في زقاق متفرع ، سارا لمسافة قريبة ، فرمقا محلا لبيع المأكولات المطبوخة كما لو أنها طبخت في البيت ، و كان المحل عبارة عن مقر تجاري أبعد ما يكون عن الترتيب الذي سيغري الزبناء بالوفود عليه ، و لكنه لاحظ أن الكثير من العاملين في مراكز الإتصال القريبة يرتادونه .. لم يكُ في الحقيقة من هواة الأكل في الشارع ، كان يحضر غذاءه معه ، و لكنه من وقت لآخر يجرب أكل الشارع .. في الجانب القريب
داخل المحل ، وقفت سيدة هي إلى منتصف الأربعين أقرب ، سواد بشرتها أقرب إلى بياضه ، لفت شعرها بمنديل ، مكتنزة ، ذكرته أول ما ذكرته بالسيدة التي تظهر من حين لآخر في سلسلة توم و جيري ، و في الحقيقة لم تكن هذه المقارنة عنصرية ، على الأقل داخل قلبه ، لم ينو أن يسخر منها أو من لون بشرتها ، و لكن تلك المرأة كانت بحق تبين عن قدرة في التسيير ، أمامها اصطفت أوان مليئة بمأكولات دلت رائحتها على طعمها و لذتها من بعيد ، اشتملت قائمة ذلك اليوم على لحم مطبوخ و خضر ، و دجاج مطبوخ بمرق و بطاطس مقلية ، و كريات لحم السردين المفروم ..
ما رأيك ؟ ماذا نختار ، قال يعقوب مخاطبا السيد عز الدين الذي بدا شاردا في ما أمامه من أكل
ـ في الحقيقة يا صديقي ، أنا أخاف جدا من تناول الأكل خارج المنزل ، معدتي واهنة ، و أقل شيئ يمكن أن يؤذيها ، و لكن إذا كان و لا بد ، فأنا أفضل كريات السردين !
ـ حسن جميل جدا ، أما أنا فلا يروق لي ما طلبت ، أعتقد أنني سأتناول طبقا من لحم الدجاج مع البطاطس المقلية !
ـ هل هذا كل ما تريدانه ؟ قالت السيدة ..
ـ نعم سيدتي .. شكرا لك !
ـ ألا تريدان شرب شيء ما ؟
ـ كلا .. أجابا معا في آن واحد ..
ـ حسن اختارا مكانا للجلوس ..
كان المكان غاصا بالزبناء .. فالمحل احتل موقعا استراتيجيا قريبا من مراكز الإتصال و الأبناك ، و هؤلاء جلهم كانوا يسرحون موظفيهم في نفس الساعة من أجل استراحة الغذاء ..
ـ أين تفضل أن نجلس ، قال يعقوب
ـ فلنلس خارجا ..
ـ فكرة جيدة ..
على الرصيف القريب من المحل ، اصطفت أربع طاولات بلاستيكية بكراس يظلهم قماش بلاستيكي مدلى ، و كانا محظوظين بوجود واحدة فارغة وكان شهر أغسطس حارا . الطعام كانت تقوم على تقديمه للزبائن فتاتان ، يظهر من الشبه الكبير في الملامح و اللون أنهما على قرابة عائلية مع صاحبة المحل ..
أتت فتاة بطلبيهما ، كان الأكل فعلا لذيذا ، و انقطع الحوار أثناءه ، ذلك الذي كان يدور بين يعقوب و عز الدين قبل وصوله ، مزيدا في تعارفهما ..
بعد الإنتهاء من الأكل و غسل أيديهما في مغسل صغير داخل المحل .. ارتأيا أن يتمشيا قليلا في تلك المنطقة ، خاصة و أن كان بحوزتهما وقت ليس بالقصير قبل أن يعودا إلى مقر العمل ، دفعا سومة الأكل التي لم تك غالية ، و كانت تشجع على زيارة هذا المقر مرة أخرى .
سارا بين الأزقة و الدروب ، حتى اقتربا من مقر الشركة ، كانت أشعة الظهيرة بالإضافة إلى الطعام اللذيذ الذي تناوله ، تفعل فعلها في عيني يعقوب الذي اعتاد على نصف ساعة قيلولة يوميا ، و لكنه الآن سيضطر للإستغناء تدريجيا عن هذه العادة اللذيذة ، من أجل أنه ما من مكان لممارستها أولا ، و لأنه جديد في العمل ثانيا فيجب عليه الإنضباط ..
في مدخل الشركة ، التقيا السيد ملاحي الذي أتى للتو من المحلبة القريبة ، و صعدوا إلى الطابق الخامس ، و لأنهم كانوا يتوفرون على بعض وقت من الوقت المعطى لهم ، ذهبوا إلى الفناء الخارجي للطابق و الذي يوجد في الناحية الغربية من المبنى ، و الذي تعرفوا فيه أول مرة على قاعة الإستراحة .. قاعة لا بأس بمساحتها ، حوت طاولات و كراس من أجل تناول الأكل ، و موزع مأكولات أوتوماتيكي ، و تلفاز كبير مثبث في الحائط ، جلسوا على كراس اصطفت في الفناء الخارجي ، و كان هذا الأخير الملاذ الوحيد في المبنى بالنسبة للمدخنين من الجنسين ، فكان أن آذته رائحة التبغ المحترق ، أما السيد عز الدين ، فكان مدخنا ، و استغل الفرصة لتدخين سيجارة أو سيجارتين ..
بعد انتهاء فترة استراحتهم ، التحق الثلاثة ، بمركز المعلومات في الشركة ، و الذي ينفصل عن المساحات المخصصة لمراكز الإتصال ، فكان أن احتل مكانا بين المكاتب الإدارية.. حين الدخول ، رمق يعقوب وجها جديدا ، هو السيد يونس عجوز .. كان السيد يونس شابا في مثل عمرهم هو و عز الدين ، أدهم البشرة ، توحي قسمات وجهه أنه من أصول جنوب المغرب .. سلموا عليه ، و علم فيما بعد أنه يشتغل بمنصب قائد المجموعة ، مباشرة أسفل إمرة السيد مهران ..
إلى جانب السيد يونس ، كان السيد سعد الازمي و السيد بدر الدين شاكر ، وجهان جديدان لم يتعرف عليهم صباحا ، كان السيد سعد ، كالطفل الصغير .. يدل مظهره على صغر سنه ، و لم يخطئ يعقوب التقدير ، فقد كان من مواليد التسعينات ، شخص بشوش ، ذو ضحكة جميلة ، و لحية تميل إلى الطول يشبه إلى حد بعيد أهل المشرق .. و السيد بدر الدين ، دلت بنيته الجسمانية على شخص رياضي ، بلحية قصيرة ، و عضلات شبه مفتولة ، كان شخصا لطيفا ، على الأقل خلال تعامله الأول معهم . و على العموم كان أعضاء مركز المعلومات ، في غاية اللطف بشكل عام ، أحس بينهم أول الأمر بألفة ، تمنى أن تطول ..
خلال الساعات القليلة التي تبقت من اليوم ، كان عليهم أن يجلسوا بقرب أحد زملائهم من أجل أن يروا كيف يتم العمل تطبيقا ، اختاروا في ذلك اليوم أن يجلسوا بقرب السيد عادل الرئيس ، الذي رحب بهم ، ووضح لهم في البداية أشياء ، دونها في كراسته ، حتى أنه علم فيما بينه و بين نفسه ، أن التطبيق أيسر مقارنة بالجانب النظري ، و أن الأمر و إن صعب في أول الأمر ، سيكون يسيرا ، إذا أراد إتقانه ..
انتهى اليوم الأول من تجربته في عمله الجديد .. خرج من المبنى بعد أن ودع زملاءه في العمل ، و اختار أن يترجل ماشيا قاصدا بيت والديه ، فقد كان الزقت يميل إلى الغروب ، مع شمس ناعسة و نسيم منعش ، اتصلت به زوجته ، مستفسرة عن أول أيام عمله ، فطمأنها خيرا ، و قص عليها بعضا مما حواه يومه ، و ذهب يقصد بيت والده ، يجره الأمل ، و كثير من أحلام ، سيسعى بيما بينه و بين نفسه إلى تحقيقها ، و التشبث بها حد العناد .. و كانت الطريق إلى بيت والديه حبيبة لديه ، و إنه ليكاد يجزم أنها تحفظه و تحفظ خطواته و لعبه و لهوه عن ظهر قلب .. كان يحس بها تفرح لقدومه ، و مروره على ظهرها .. لم يكُ له أن يستطيع .. أن ينهي علاقته الودية مع محيط شارع بوركون و شارع المعاريف الذان شهدا طفولته و شبابه ، و تمدرسه عبر مرور السنين
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة