الموظّف السّاذج .. والمشعوذ الممسوس (1)
من الواقع
نشر في 30 ماي 2024 وآخر تعديل بتاريخ 30 ماي 2024 .
(هشام) أو ”الجادارمي“ كما يحلو له تسمية نفسه بذلك، نحيف البنية قصير القامّة بعض الشيء. لذلك، حين يرتدي البذلة الرسمية يبدو فيها كالفرخ في حضن أمّه؛ ويكأنّ من قام بتوظيفه يريد أن يسخر من سلك ”النّخبة“ هذا الذي يطمع في الالتحاق به معظم شباب الجزائر.
ينحدر (هشام) من أسرة فقيرة ومعدومة، يعاني والده من ”مسّ“ غيّبه عن الواقع بضع سنين، حسب رواية ابنه. وحتى لا ينعت ”الجادارمي“ أباه بالمجنون، فهو يصفه لي بــ”بوهالي موش جايب خبر لروحو“ بمعنى الدّرويش أو النّاسك التائه بين أزقّة المدينة، تقوده جنيّة وتتكلّم على لسانه. وتقع- المدينة التي ينحدر منها (هشام)- في الشرق الجزائري، و تعد من أهم المدن التي تكثر فيها الحركة التجارية.
يعاني (هشام) من فرط الحركة، فهو لا يهدأ أبدا ولا يطمئنّ له بال سيما حين يكون وهو مكتبي، ويشعر كثيرا بالقلق و تنتابه رعشة غريبة فنفر فرار اللصوص من مكتبي إلى أيّ وجهة تكون بعيدة عن الزّخم الذي يشوّش علينا بالبلدية.
في البداية، لم أكن كثير الاكتراث بما يقوله. لأنّ العلاقة التي جمعتني بهذا الشاب مبنية على اعتبارات إنسانية لا غير. لكن مع حضوره ووجوده باستمرار وكثرة كلامه عن الجنيّة… بدأتُ أميل لسماع حديثه المحفوف بالمخاطر والأسرار.
وحتى صار هذا ”المعتوه“ مثل ظلّي الذي لا يفارقني إلّـا أثناء النّوم؛ بل لعلّه لم يتخلّ عنّي حتى وأنا في غرفة النوم وما أدراني؟ فأنا في عالم محفوف بالمخاطر والأسرار، وقد سمعته ذات مرّة يتحدّث عن ”الحضرة“، وعن ”الخلوة“، و”الخطوة“.. وعن كيفية استحضار ملوك الجن أو الجان؟
وشيئا فشيئا، بدأ مفعول الكلام يسري في قلبي، ويسلبني عقلي. ولسبب من الأسباب، وربما هناك أشياء أخرى علمها عند ربّي، صرتُ أبحث عن أيّ سبب يمكّنني من ”الهروب“ من العمل نزولا عند رغبته، وكانت كل رغباته تكاد تنحصر في زيارة السحرة والمشعوذين.
ما انفكّ هذا ”الجدارمي“ الغريب يحاول إقناعي بأنّ الشيء الذي عنده ويعني بذلك ”الحكمة“ و ”القدرة الكامنة“ أو الجن الذي يخدمه... أقوى بكثير ممّا عند هؤلاء السحرة والمشعوذين الذين يتردّد عليهم ويصر ّ على زيارتهم في كل مرّة تتاح له فيها فرصة.
كما أنّه بالغ في تحذيري من بعض الزملاء، وكذلك الجيران الذين يزعم أنّهم ليسوا سوى أعداء ومنهم من قام بسحري. وبما أنّني ” مولى نيّة“ كما يقول لم أشك فيهم ولا في نواياهم أبدا. ويقصد بذلك أنّني طيب القلب، بل مغفّل وساذج.
واستطاع ”المجرم“ بكلامه هذا أن يدفعني إلى قطع علاقتي بأعزّ الأصدقاء وأقربهم إليّ و كذلك الجيران. واستطاع بطريقة ما أن يدخل الشك في قلبي، فبدأتُ أشكّ في كل شيء من حولي تقريبا.
لم أكن أتوقّع أن تتحوّل حياتي إلى ما آلت إليه و بتلك الكيفية؛ فقد تغيّرتُ كثيرا، وأستطاع ”الممسوس“ أن يسلب مني إرادتي وأمنحه ثقة عمياء جعلتني لا أتمنّى فراقه، ولا أتردّد في حمله معي أينما رحلتُ، وحللتُ وارتحلتُ.
يتبع..
رشيد مصباح(فوزي)
mosbahf933@gmail.com
213792123411+
الجزائر