بائع الحليب
أيقنتُ مذْ قَرَّرتُ البقاءَ في الغوطةِ الشرقيةِ في ريف دمشقَ أنَّنِي ميتٌ لا محالة، لذا كنتُ أعملُ لآخرتي بكلِّ جد، عقب كلِّ فجرٍ جديد أقول في نفسي بأنني اليوم سأكون شهيداً، مرَّت عليَّ حياة طويلةٌ قبل انطلاق الثورة؛ لكنَّ كل تلكَ الأيامِ بصعوباتِهَا ومعانَاتِهَا لا تُعَادِلُ يوماً واحداً منْ أيَّامِي التي قَضيتُهَا في الغوطةِ الشرقيةِ حيثُ لا شيء إلا الموت.
عملتُ بائِعَاً للحَلِيْبِ ، أَقُوْمُ بِإيصالِ الحليبِ إلى مَنَازِلِ النَّاسِ عَلَى دَرَّاجَتِي، فأربح من ذلك مبلغاً بسيطاً أشتري به قوت يومي، يحاولُ الكثيرونَ إِقناعِي بأنَّنِي قَادِرٌ على الرِّبحِ بأضعافٍ مضاعفةٍ عن طريق الغِش ، إما بخلطِ الحَلِيْبِ بكميةٍ معينةٍ من الماء فيزيدُ وزنه أو بِرَفْعِ سِعْرِهِ وَوضْعِ أُجْرَةٍ عَاليةٍ عَلَى إِيْصَالِه، ولكنَّنِي كُنْتُ مُقْتَنِعَاً أَنَّ خِدْمَةَ النَّاسِ فِيْهَا أُجْرَةٌ مِنْهُمْ وَأَجرٌ من الله يجب عليَّ أن لا أضيعها.
جاء إلى الغوطة تصعيدٌ رهيبٌ لم أرى مثله من قبل على الإطلاق، غدَتْ أيَّامنا أكثرَ سواداً مما هي عليه، كنتُ أبصرُ للوضع الذي نمرُّ به فلا أرى حلَّاً سوى تدخلٌ إلهيٌ يغيِّر أركان المعادلة التي لا يستوعبها ذهنٌ ولا يفهمها عقلٌ لا في الغوطة ولا خارجها، هذا التجويعُ الذي يرتكبه الأسد بحقنا لم نسمع به حتى في أيَّامِ التَّتار، سمعتُ منْ أجدادِي عنْ حُرُوْبٍ مَرَّتْ على بلادِ الشَّامِ ولكِنَّهُمْ لُوْ كانوا بَيْنَنَا لَقَالُوْا عنْ حربِنَا هَذِهِ أنَّها الأَشْنَعُ والأَصْعَبُ والأَقْسَى.
هَذَا هُوَ أولُ يوم ليْ أرتاح به عن الخروج إلى عملي، طريقي غير سالكٍ ولا بأيِّ اتجاهٍ فحيثما وقعتْ عَيْنَايَ أجدُ الرُّكامَ، الطائراتُ الحَرْبِيَّةُ لَمْ تَرْتَحْ حَتَّى الآن، بَرْمِيْلٌ تَلِيْهِ قَذِيْفَةٌ يَلِيْهِ هاونٌ وَرَاجِمَةٌ لا تَعْرِفُ الفرقَ بينَ البَشَرِ أَوِ الحَجرِ.
في صباحِ اليومِ التالي لم يحملني عقلي أَنْ أَنْزِلَ نَحْوَ القبوِ لألبيَ طلبَ زَوْجَتِي وأولادي، ولكنني نزلتُ لا لأني خائفٌ، فلا خوف يصيبك بعد مرور سنواتٍ عليك وأنت في الغوطة الشَّرقية، لكن لكي لا يُقَالَ بِأنَّنِي متهاونٌ في سلامةِ جسدي !
وفي صباح اليوم الثالثِ لم يستطع أَحَدٌ أَنْ يوقِفَنِي عَنِ الذَّهَابِ لإحْضَارِ الحليبِ وإيصالهِ إلى النَّاس ، خصوصاً بعد أنْ سَمِعْتُ أصواتَ الأطفالِ تدوي في الملاجِئِ جوعاً، قلتُ لا بدَّ لِي أَنْ أَخْرُجَ لِأُحضِرَ بَعْضَ الحَلِيْبِ وَأُعْطِيْهِ لِـهَؤُلاءِ الجَوْعَى، تَفَقَّدْتُ دَرَّاجَتِيْ فوجدت عطباً في الدُّولاب الخلفيِّ أشعرني بالحزن الشَّديد، فلا يوجد من يصلِحُها في هذا الوقتِ العصيب، كما أنها وسيلةُ النَّقْلِ التي لم تُفَارِقْنِي لمرةٍ واحدةٍ خِلالِ سِتِّ سنواتٍ مضتْ، قلتُ لَنْ يحبسني شيء عنْ إسكاتِ الجوعِ عِنْدَ الصِّغَار و إتمام ما خرجتُ لأجله.
خرجت ماشياً باتجاه مُوَزِّعِ الحَليبِ، و عنْدَمَا وَصَلْتُ إليهِ ابتهج لقدومي وقال : ما الذي أخرجك يا (أبو خالد) فأجبته بأنَّ النَّاس في أمسِّ الحاجةِ لأيِّ شيءٍ يسدُّ رمقهم، والله إن الملاجئ تكتظُّ بالأطفال و قد اعتراهم جوعٌ شديد .
أخذتُ على غير عادتي كميَّةً كبيرةً من الحليب ربما لأنني أيضاً كنت أشعر بجوعٍ كبيرٍ ما شعرتُ بمثلهِ آنفاً، عدتُ إلى الحارةِ فتهلَّلَت وجوه العباد، ركضوا نحوي كأنني مطرٌ في القحط، ناديت فيهم أن هلُموا لنقف في مكانٍ لا يستطيع طيران الاستطلاع أن يكشفه، كَانَ ذَلكَ اليومُ هُوَ أَكْثَرُ يَوْمٍ لِيْ أُوَزِّعُ بَهِ الحليبَ على النَّاس، كثيرٌ من أهل حارتي لم يكن يملكُ ثمنَ الحليب، والجميع بحاجة للغذاء فكلُّ الدَّكاكينِ قد أقْفَلَتْ أَبْوَابَهَا، و المُوَزِّعِون توقفوا عن توزيعِ المُوْنَةِ والطَّعَامِ في هذا القَصْفِ الجُنُوْنِيِّ، نفذ الحليبُ قَبْلَ وُصُوْلِيْ إلى بيتِي، و أهلي بحاجة للطعام فتدرَّجت إلى الموزعِ تارةً أُخْرَى وَأَخَذْتُ الحليب لأهل داري، السوق خاوٍ، الخبز مفقود، السُّكر منسي .
عُدتُ إلى البيت فوجدتُ الأهل قد نزلوا إلى الملجأِ خوفاً من البراميلِ المتفجِّرة التي تهبطُ كاصطدام النَّيازِكِ في الأرض، ما شَرَعْتُ أَنْ جَلَسْتُ بَيْنَهُم حتَّى نَزَلَ البَرْمِيْلُ وَسْطَ الأبنيةِ المهترئةِ فلمْ يبقَى في الحيِّ شيءٌ سوى الرَّدمِ، الأقبيةُ هي أكثرُ الأماكنِ التي نعتقد بأنها آمنةٌ ولا تَطَالُهَا طَائِرَاتُ الغَدْرِ، وما حدث معنا أنّ الحُطامَ قد طَوَّقَ كُلَّ معَابِرِ الهَوَاءِ الجَارِيَةِ نَحْوَنَا و غطى الغبارُ كل بقعةٍ داخل ملجئنا ثم بدأ يتكنُ شيئاً فشيئاً داخل مجارينا التنفسية .
كِبَرُ سِني و ضعفُ جسمي لم يساعداني على تحمُّل ضيقِ التنفس ذاك، عداك عن أنَّ رائحة الغازِ المُنْبَعِثِ منَ البَرْمِيلِ جعَلَنِي أَفْقِدُ الوعيَ وَلَمْ أَستَيقِظْ منْ بعد ذلك أَبَدَاً ، و هكذا انتهت قِصَّتِي .
أبو خالد بائعُ الحليبِ رحمه الله ، توفي في بلدة عين ترما في الغوطة الشرقية بتاريخ 24/2/2018
التعليقات
منتهى الإحباط