حرب الذكريات الحمراء - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

حرب الذكريات الحمراء

  نشر في 22 يناير 2019  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

(هجموا)

كانت تقولها أمي بحماس متوتر في كل مرة تسمع فيها صوت محرك طيارة مشيرة إلى الهجوم الإسرائيلي المتوقع في نظرها في كل لحظة وساعة. كانت أمي تسكن مع أسرة جدي وجدتي في الجولان السوري بعد أن اضطر آباؤهم للهجرة إلى سوريا منذ سنين خلت وكانت تبلغ الخامسة من عمرها عند اندلاع حرب تشرين "التحريرية" كما تسميها كتب القومية السورية. وككل من كان يسكن في الجولان اضطرت أمي أن تنزح مع أسرتها إلى دمشق بعد تلك الحرب الغبية. فصارت أصوات الطيارات بالنسبة لها ليست سوى دليل على هجوم الإسرائيليين دون أن يخطر ببالها أن يكون الهجوم على سوريا يوماً ما عربياً سورياً!

عندما كنا في المدرسة كنا نتبادل كفتيات في مقتبل العمر أحلامنا التافهة منها والكبيرة ضاحكات: كأن تحلم إحدانا ببيت زوجية كبير وجميل وعريس وسيم غني أو ان تحلم أكثرنا طموحاً بالسفر خارجاً والعمل والقيام بالكثير من المغامرات إلا أن أحداً منا لم تتوقع المصير الذي سنؤول إليه بعيد سنوات معدودة من أيام دراستنا.

توالت علي الذكريات واحدة تلو الأخرى وأنا أنظر إلى الجثث ملقاة أمامي ورائحة الدم تملئ رئتيّ وغصة تسيطر على أحشائي الراكدة بهدوء ووداعة في مطرحها على عكس كل الأحشاء التي أراها تتسرب من داخل الاجساد الممزقة أمامي مخترقة كل قوانين الحياة. لسبب ما، تستطيع أن تتعرف على الأجساد التي لم تمت بعد من لونها. وأحياناً قد يكون السبب أكثر وضوحاً من ذلك كأن يتأوه أحدهم أو ينتفض كمن تنتزع روحه من جسده.

كانت نظرات المسعفين حولي أكثر موتاً وجفافاً وقد تحول أشدهم مرحاً إلى روبوت يقوم بعمله بترتيب الاولويات التي تعلمناها في دورات الإسعاف ويحاول جاهداً رمي مشاعره إلى جانب الأحشاء المرمية حوله ليحول نفسه إلى آلة تقوم بواجبها كما يتوجب على الآلات أن تقوم به.

كانت العمارة القريبة من النقطة الإسعافية تلك قد انهارت على أصحابها بفعل صاروخ غاضب حقود وهرع أهالي الحي إلى تلك العمارة لانتشال أهلها وإحضارهم إلينا فجاء الجميع بملابس البيت وقد غطت بعض النسوة المصابات أو المتوفيات رؤوسهن حفاظاً على سترتهن المنتهكة في كل مكان آخر دون الرأس المستور.

كنت في نقطة إسعافية أخرى حينما جاءنا اتصال يطلب منا الحضور للدعم نظراً لقلة عدد المسعفين في تلك النقطة. ولكي تزداد الأمور داخلي سوءاً كانت أختي من ضمن المسعفين المتواجودين في تلك النقطة وقد انتفضت وركدت هنالك لدافع أكثر انانية بكثير من دوافع زملائي.. ألا وهو أختي. فقد كان كل تفكيري محصور بالعثور عليها.

كم تعلمنا في الدورات أهمية ضبط النفس وهدوء الاعصاب وألا ندع عواطفنا تسيطر علينا أثناء الاستجابة إلا أنني نسيت أو تناسيت كل شيء في تلك اللحظة وتركت أملي بأن أجدها سليمة يسيطر عليّ. وحينما وقعت عيناي عليها تمنيت أن أحملها وأهرب بها إلى منزلنا ونختبئ هناك من الموت أو نستيقظ من ذلك الكابوس ذي الرائحة العفنة. ولكن عينيها في تلك اللحظات كانتا تقولان أبعد بكثير من كل أفكاري الأنانية ومن خوفي الأعمى. كانت نظرة بيضاء (لم أستطع أن أجد وصفاً آخر يصفها) تخرج منهما وهي تنظر إلي وكأنها لا ترى سوى الموت وغرابة الحياة وشناعة الموقف. لم يكن قلبها الرقيق أصلاً يحتمل كل ذلك الدم والآهات والروائح الكريهة وحينما وقعت عيناها علي أخبرتني بثوان كل ما يجول في عقلها وقلبها بنظرة لن أنساها

ثوان كانت بالنسبة لي كعمر وأنا أنظر إليها أحاول أن أخبرها بسعادتي بانها سليمة وأخبرها كم أنا خائفة عليها وعلينا وكم أود أن نعود طفلتين مستلقيتين إلى جانب بعضنا في السرير نتهامس ونتضاحك قليلاً ونتقاتل كثيراً في دوامة حياة عادية أكثر حياتنا هذه قليلاً.

لا أذكر أية واحدة مننا بادرت بالتحرك أولاً ولكننا قررنا أخيراً أن نلقي بالقلب الخائف ونعود مسعفتين تقومان بواجبهما وننقذ من نستطيع إنقاذه بصمت دون أن نسمح لتلك النظرات الضعيفة أن تسيطر علينا مرة أخرى.

أنا نفس التي كنت قبلاً أغمض عينيّ عند كل مشهد دموي في فيلم سينمائيّ كنت هنالك أخيط الجروح بيدي وأساعد الطبيب على بتر الأعضاء التي يتوجب بترها كي يتمكن المصاب أن يعيش حتى لو كان ذلك سيحرمه من قدم او يد.

كنت أحاول جاهدة أن أرى الجرحى والموتى أمامي كمشهد سينمائي ولكن عبثاً حاولت. فمعظمهم كان قد أحضر مع أحد من أسرته أو كلها والجميع يبكي ويصرخ وهم يرددون أسماء المصابين من أسرهم وكأننا نستطيع أن نعيد الحياة لأحبابنا عندما نناديهم.

لم أكن أتصور حينما كنت في المدرسة أن أختار بملئ إرادتي مصيراً كالذي اخترته حينما قررت أن أصبح مسعفة. لم أكن أتصور نفسي أن أعتاد على رائحة الدم وحمل الجثث بين يدي أو حمل أجزاء منها كما صرت أفعل.

كم ظننا أنفسنا صغاراً قبلها. كم ظننت نفسي أنثى تستحق الدلال ولم أكن أدري أن هنالك قوة تعادل ألف رجل داخلي ستظهر بمجردا أن تشاء أختى الانضمام لسلك الإسعاف لأشاء في نفس اللحظة أن أنضم أنا كذلك لا لهدف إنساني أكثر من أن أحمي أختي.

رغم أنها خرجت من الإسعاف سليمة الجسد عدا ظهرها الذي استحال نقطة ضعف فيها إلى الأبد إلا أنها لم تخرج سليمة الروح ولم أستطع بكل الحب الذي أحمله داخلي أن أحمي قلبها من ذلك الحزن الأسود العميق.

حينما تركنا مقاعد الدراسة لم نكن نعلم أن ألف شبح كان يحلق فوق رؤوسنا منتظراً أن يسمع أحلامنا ليضحك عليها ويعيدها إلينا مدماة أو محروقة ككثير من الجثث التي رأيناها ولكننا حلمنا وضحكنا..

لكم اشتقت إلى توتر أمي عندما كانت تقول كلمة (هجمواً) غير متصورة أن من سيقوم حقيقة بالهجوم ومن سيقوم حقيقة بتفريقنا هو أقرب إلينا من إسرائيل لو كانت تدري..


  • 2

   نشر في 22 يناير 2019  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا