لم تكمل الخامسة بعد ، لكن كانت تحمل وجهة نظر مختلفة وخاصة في كل ليلةٍ يبدأ نقاشاً حاد بينها وجدتها، أو على جادة الرصيف حيث يكمن على اليسار ذلك المقهى القديم، يخرج منه أولئك الرجال كل منهما غاضباً حنقاً مما حدث ، ذات يوم خرج أحدهم طويل القامة عريض المنكبين ، يرتدي سترةً عريضة ، ثم سألها ما بإمكانها تهدئة الوضع المتأزم داخل المقهى بإقناعهم أن الطائفة الغالبة هي من تتوافق وجهة نظرها وحديث تلك الطفلة !
بالرغم من كونها تعيش طفولتها كبقية الأطفال في عمرها إلا أن الجميع كان يشعر بذلك الوتر الحساس وهو أن تلك الطفلة ليست مجرد طفلة بل إنها باكورة نضجٌ مختلف ، ظل ذلك الاسم يرافقها رغم تهربها منه .. كانت تغضب كل مرة يطلق عليها ذات اللقب ، و يحترمها الكبار ، كانت ترى بين نظراتهم تلك شرارة شئ تكرهه ، إنه الشفقة ، لكن شفقةً على ماذا ؟ لماذا الشفقة على طفلة ترتدي كأطفالهم ، وتلعب بذات الألعاب ؟ لماذا الشفقة وهي تغني معهم و تركض فرحاً كل مرة يهدى إليها علبة شوكولا محببة إلى قلبها ؟ وألعاب جميلة في عيد ميلادها؟ تساءلت ببراءةٍ ممزوجةٍ بالألم " عن أي باكورةٍ يتحدثون ؟ وما هو ذا النضج كي يكون قدري التحاف رداءه مبكراً؟ " ..
ذات مساء كانت بالقرب من ذلك الكرسي الهزاز الذي تقعد عليه جدتها المسنة وهي تحيك أطراف خيوط الصوف بحبٍ لها ، فشتاء هذا العام بدأ وكأنه سيأتي على شاكلة شتاءً ممزوجاً بالخريف ! ، البرد قارص لكن أوراق الأشجار تتساقط على غير عادتها بشدة ، حينما اقتربت تلك الصغيرة من زجاج النافذة كانت الأوراق تتساقط وكأنها غاضبة من البقاء معلقة على أغصان الأشجار فترة أطول ، الأمر يبدو بأن عاصفة شريرة ستعصف بالقرية تلك ،حتى الأوراق الهاربة لا تتسمر في مكان واحد ، بل تأخذها الرياح بعيداً حيث لا تعلم ، كانت تنظر من زجاج النافذة دون وضوح شئ ، لا صوت عدا دوي العاصفة ، ولا رؤيا سوى أوراقاً جافة ترتطم بزجاج النافذة ثم تدفعها الرياح مجدداً..
نظرت الجدة بصمتٍ إلى صغيرتها ، اقتربت منها لتلبسها رداءها الصوفي الذي أتمت حياكته بعد عناء أسبوعٍ كامل ، كان غريباً ، لقد أحاكت عليه صور أوراق أشجار ، بدأ المعطف الصوفي رائعا وجذاباً وكئيباً في الوقت ذاته ... قالت الطفلة « شكراً جدتي ، لكن أريد أن أصل إلى بيت الأحلام لطالما أخبرتك أنني أحلمه كل ليلة ، أريد أن أراه ربما تلك الأوراق الميتة أيضا تذهب هناك لتتحول إلى تربة نقية ، صالحة للزراعة هناك ، لكن أنا إنسانا يا جدتي ، لا أريد أن اتحلل كالأوراق إلى تربة ، بل أريد أن أكون الزارع لنبتاتٍ جميلة هناك ، ربما سأجد بذور الحلم فازرعها ، فيجد كل شخص في هذا العالم حلمه!»
ابتسمت الجدة كعادتها وهي تستمع بصمت لحفيدتها وقالت « كوني الزارع ،،كوني ما شئتي ، لكن يا بنيتي فلتذهبي سيرا على الاقدام رويدا رويدا ، باحثةً عن بيت الأحلام ، إياك إياك أن تدعي رياح العاصفة من يسيرك .. ! »...
بطفولةٍ بريئة هرعت الطفلة إلى غرفتها ، جمعت ما يمكنها حمله في حقيبةٍ صغيرة ثم عادت ، وعلامات الاستغراب تملئ وجهة الجدة ، وتغيراً بدأ مخيفا على سحنتها ، سألتها بتعلثمٍ وارتباك " ماذا هناك يا صغيرتي؟"
أجابت وهي تجلس تحت قدمي الجدة واضعةً رأسها على فخذيها ، مغمضة العينين ، سابحةً في اللاحدود " سننتظر سوياً انتهاء الشتاء ، ثم نحمل معاً أمتعةً بسيطة معنا يا جدتي ، منطلقين رويدا رويدا إلى أقصى العالم ، هناك حيث يكمن بيت الأحلام ذاك ، ليس مجرد حلماً يا جدتي ، سأجعله حقيقة ، حينها سنزرع سوياً أول حلم لي و.."
قاطعتها الجدة بريبة .. " بنيتي لكن .."
لم تصغي الطفلة وأكملت حديثها ، سابحةً في خيالها " وحينها ستكون أول بذرة حلم يا جدتي، « أن يصبح الإنسان إنساناً» .. ولن يصبح الإنسان كذلك إلا حينما يسعى جرياً خلف حلمه !"
عادت الجدة مجدداً للمقاطعة " لكن يا صغيرتي.."
صمتت لأن لا شخصاً يصغي ، وعادت لتستمع إلى صغيرتها ..
" لكن يا جدتي لن يجدوا أحلامهم إلا بالبحث عن بيت الأحلام ، الذي أسكنه أنا حينها .. سيجتمع الجميع هناك في ساحةٍ كبيرة بل ضخمة وهائلة الحجم.. سيبذر كل شخصٍ منهم بذرة حلمه ثم يبذل عناءً حتى تتفتق وروداً رائعة.. بعدها سيتحقق لكل شخصٍ منهم حلمه ، مقابل أن يمتلئ العالم بالورود!"
الجدة :"ولمَ العالم؟"
الطفلة :" لأن بيت الأحلام يكمن في كل مكان ياجدتي ، لا مكاناً معيّن بإمكانه تحقيق الحلم ، ولا وجود للإستحالة تلك، حتى في جوف الصحراء بإمكان الأحلام أن تصبح حقيقة ، بيت الأحلام يصنعه أولئك الذين لا يزالون على قيد الحياة .."
-
يسرى الصبيحيياريتَّا.
التعليقات
"سيبذر كل شخصٍ منهم بذرة حلمه ثم يبذل عناءً حتى تتفتق وروداً رائعة.. بعدها سيتحقق لكل شخصٍ منهم حلمه ، مقابل أن يمتلئ العالم بالورود!"
"بيت الأحلام"
الاستظلال بأحلامنا يحقق الاستقرار لها فينا،
كيف فينا؟
نعلم بأن أحلامنا لا نهاية لها، وأن تكون دون سقف سيكون مصيرها مع الرياح لذى نحن بحاجة بأن نسكنها لتسكننا.
أنتِ رائعة
بيت الأحلام ..
لأن بيت الأحلام يكمن في كل مكان ياجدتي ، لا مكاناً معيّن بإمكانه تحقيق الحلم ، ولا وجود للإستحالة تلك، حتى في جوف الصحراء بإمكان الأحلام أن تصبح حقيقة ، بيت الأحلام يصنعه أولئك الذين لا يزالون على قيد الحياة .."
أبدعت حقا ..