هل الخيال هو الحل؟ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

هل الخيال هو الحل؟

  نشر في 04 ماي 2023  وآخر تعديل بتاريخ 10 ماي 2023 .

في عُمر الطفولة، لم أحيد عن قوانين البراءة قط، نظراتي تتصيد كل الأشياء، في حركة مستمرة، أنزع ستار الغموض عن كل ما يحيط بي، وأتمايل بخفة الريشة مُمسكة بألعابي في يد، وبالفضول في يد أخرى..

لا يفلت مخلوق من قبضة تساؤلاتي، البسيطة في ظاهرها المُعقدة في باطنها، فيض من التساؤلات والإجابات ضائعة! ليتجنبني الكثير من فرط إزعاجي ووجودي الصاخب بالمعرفة..

بدأ الفهم معي مُبكرًا، حتى أنني كنت محل الدهشة والحيرة! أكتشف ما لم يُكتشف بعد، أتسرب لزوايا خفية في منزلنا المتواضع وأخرج منها بإدراك يخطو خطواته الأولى، ومن ثم أعود لأسرتي الصغيرة بإنجازاتي العظيمة، لدرجة أنهم وصفوني بالفطنة والفصاحة وأنا أقرب لعُقلة الأصبع! وذلك لشدة إدراكي في بدايات رحلتي مع الحياة..

وفي نهاية يوم طويل يعج بالأعمال الشاقة، أعود لغرفتي الدافئة، عاجزة عن النوم! لم أكن أقوى على إطباق جفوني وترك ذلك العالم المُنتفض بالتفاصيل والاكتشافات وقليل من اللهو الذي تفرضه الفطرة، فلا أجد سوى أمي أستعين بها لأغفو بسلام..

أتذكر سلاحها الفتاك في مقاومة أرقي ونشاطي الزائد عن الحد، لم يكن سلاح الرهبة والإجبار، أو التعنيف للتخلص من تلك الجلبة العارمة والضوضاء الطفولية والصرخات والضحكات التي كادت تشق الجدار، ولكنه سلاح "الخيال" .. وحده القادر على إتمام المهمة بنجاح دون خسائر، وما أدراك ما الخيال!

أخذت أمي تنسج كل ليلة قصة "حدوتة" مختلفة، اليوم قصة "الذئب العجوز"، وتعقبها أمسية بقصة "الأميرة وبلاد العجائب"، وهكذا قصص لا تمت للواقع بأي صلة، وهو بالتأكيد سر تفوقها عن الأساليب الأخرى، وما أن تشدو بها، أقع في أحضان النُعاس فورًا ودون تردد، فلا تضطر لإكمالها وتُلملم حبال خيالها في صمت عميق لتخرج وتغلق الباب وتشكر الله أن الليلة انتهت على خير.. وأما عني، أنعم بأحلام وردية، لا اتصال لي بدنيانا الفانية..

ليلة بعد ليلة، الأمر يتكرر، والقصص في تطور ملحوظ، والخيال يفرد أجنحته ليأخذني معه في عالمه الفسيح، أترك خلفي حياتي البدائية التي لا زلت في سبيل فهمها، وما أسعد تلك اللحظة التي تدق فيها عقارب الساعة وتُنبهني أن اليوم على وشك الرحيل، وحان وقت الأحلام فحسب..

حالة مُذهلة! تشغلني حتى يومنا هذا، بعد أن تركت غرفتي البريئة وانتقلت إلى مرحلة أخرى أسميتها مرحلة المواجهة، لا قصص خيالية فيها، لا رفاهية يمكن أن تنتشلني من صرامة واقعي، وحين يشتد بي العذاب وتعبث الأفكار ببقايا توازني، أُهرول إلى صاحبة الفكرة مطالبة بقصة ربما تكون المُنقذ لي من هياج عقلي واضطراب نفسي.. وأكثر ما يؤرقني وقتها هو قولها الحاسم: هل تمزحي؟ لقد كبر عُمرك!

هُنا أنتفض غضبًا، كيف للخيال أن يُقيد بالطفولة؟! كيف لهذا العالم المُتسع أن يلفظني خارجه؟! لمجرد أن عُمرى لا يليق به، ولكنه يليق بنا في كل زمان ومكان..

في مقابل لحظة خيال قد أدفع كل ما أملك، لا أكترث بالمقابل بقدر السلام الملموس خلاله، أن أنشق عن واقعي الضيق لأتنسم الحياة بحرية، لا شروط أو حدود بيني وبينه، أنا من له القرار في رسم شخصياته، في تشكيل تضاريسه كما أريد، السماء والأرض فيه بالألوان الطبيعية، أتذوقه بشغف، دون مُحسنات نكهة و "فوتوشوب"..

عالم الخيال أبدي، خُلق ليقتلعك من جذور فُرضت عليك، وبحور غرقت بها دون الإلمام بفنون السباحة، ومعه تلتقط أنفاسك وتهدأ بعد دهور من المُعاناة!

أعترف أنني أحتمي به كثيرًا، هو اللجوء الآمن بالنسبة لي، دون تأشيرات ومُعوقات السفر والترحال، هجرة شرعية مئة بالمئة، لا يهتم بلون أو هيئة، لا يلتفت لهويتك، يفتح ذراعيه بالترحاب وقتما استدعيته، الإنسان فيه هو صاحب الكلمة، الآمر الناهي، وهو من أجل إرضاء رغباتك يُقاتل بشجاعة وإقدام..

عالمنا البشري مؤلم، فيه من الهزلية ما يكفي لبعثرة ثباتك، يزداد في همجيته مع كل إشراقة للشمس، والإنسان فيه يتوحش وتتفاقم حدة ثورته دون رادع لها!

الإنسانية على كوكبنا تتآكل كجسد ينهشه المرض! لن تتمكن من إعلان استسلامك لبعض الوقت، وضعفك هو خنجر نهايتك!

الحياة لن تتوقف عن عملها المُكلفة به منذ الأزل، وأنت وقعت في دوامة لا خلاص منها.. إلا بالخيال!!

فماذا لو كان الخيال هو الحقيقة التي نأملها للحياة؟

الأحزان هُنا.. الحنين هُنا.. الفراق هُنا.. بينما السعادة والاطمئنان واللقاء هُناك..

فلا تلتفت لمن يطلقون عليك لقب "الحالم المسكين"! الحق أنهم يستحقون الشفقة لحالهم الرث، الهاربون من الخيال هم أكثر من يستحق العطف، فقد سُلب منهم الزمن والقوة والمعنى، وأنت وحدك تملك النجاة..

ليست دعوة للتحايل على الحقائق، عش بكامل وعيك وكن رفيقًا للمنطق إن شئت، ولكن لا مانع أن تبتعد قليًلا، بين الحين والآخر، ببعض الخيال الصحي، أن تسكن أوجاعك للحظات، أن تشعر بإنسانيتك الصادقة، أن تكون أنت.. فقط..

عذرًا أمي.. فالخيال داخلي ينبض بفيض وسخاء.


  • 1

   نشر في 04 ماي 2023  وآخر تعديل بتاريخ 10 ماي 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا