الضفة التي يستحيلُ العبور إليها /٣/
نشر في 17 يناير 2022 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
أدار مسجلته، ثم عدل من وضع الكرسي الذي كان يجلسُ عليه، ثم أخذ دفتره الصغير، شذب لحيته بيديه، ثم عاد وعدل من وضع الكرسي مرة أخرى. ثم نظر إلي من خلف زجاج نظارته السميك.
- خرجتُ أنا و"ريتا" للقاء في المقهى الذي اعتدنا أن نلتقي به. كانت سعيدةً جداً، متألقة كعادتها، بشعرها الأسود المجنون حولها، ورائحة عطرها التي غطت المكان، كانت ترتدي فستاناً أسود ومعطفاً أسود .. كل شيء أسود إلا شفتاها فقد غطتهما باللون الأحمر .. تبادلنا العناق، قبلتها بغتةَ من رقبتها فاحمرت خجلاً .. كان من المفترض أن ننسق سوياً لمعرضها الأول الذي سيقام في مركز المدينة الجامعية، كانت سعيدة جداً، كانت تشعر بالفخر بأنها بعد أربع سنوات من التخطيط والعمل استطاعت أخيراً أن تقيم معرضاً مستقلاً باسمها الذي بدأ ينتشر مؤخراً بين أوساط الرساميين والنحاتين، لكنها .. اختفت قبل أن يتحقق حلمها حتى.
- اختفت؟ كيف؟ - سألني مقطباً حاجبيه باستغراب.
- لقد خذلتها، لم أكن أشعر بالغيرة من نجاحها على العكس تماماً فلطالما كانت عرابة نجاحاتي بكل شيء، لكنني حصلتُ على دعوة لحضور مؤتمر مهم جداً يخدم مهنتي، كنتُ سأنسحب رغم ذلك، لكنني شعرتُ فجأة بأنني مكبل في هذا الجحيم الذي يدعى "بريستيج الحب" أنه يجب علي أن أكون في معرض فني لا أفقه عنه شيء، أضيع أحد فرص حياتي التي ربما لن تتكرر، فقط حتى تشعر بأنني أدعمها وبجانبها، كنتُ سأكون منافقاً بمشاعري اتجاه هذا الدعم، أعترف أنني كنتُ أفكر بأنانية لكن "ريتا" أحبت "جمال" الأناني، وربما أحبت "جمال" لأنه أناني، لأنه لم يعترف يوماً بالهزيمة عندما يتعلق الأمر بمصلحته، لكنني أقسم لك بأنني لم أكن أقصد أن أخذلها ..
- حسناً .. دعنا نهدأ قليلاً. خذ نفساً عميقاً .. - قال لي وهو يحاول أن يأخذ نفساً عميقاً بدوره.-
كان صوت المطر في الخارج يقرع على النوافذ بشدة، أغمضتُ عيناي فعدتُ قلباً وقالباً إلى تلك الليلة ..
كنا نجلسُ على طاولة مستديرة في منتصف المقهى، كانت تحدقُ بالنافذة الأقرب، حاولتُ أن أمسك يدها لكنها سحبتها بغضب .. ثم نظرت إلي بعينان تملؤهما الدموع ..
- العمل العمل العمل .. كم مرة علي أن أسمع هذا الحديث الممل عن عملك، لقد انتظرتُ هذا اليوم بفارغ الصبر يا "جمال"، ألا تحسُ يا هذا بكم ضحيتُ من أجل هذه العلاقة، وماذا عنك .. العمل ثم العمل ثم .. - قالت وهي ترتجف-
- أنا آسف يا "ريتا" لكن صدقيني أنا أفعلُ كل هذا من أجلنا، أعلمُ أنك صبرتِ كثيراً علي لكنها المرة الأخيرة أعدكُ. - قلتُ لها وأنا أضعُ يدي على يدها-.
- أنا آسفة يا "جمال" لكنني لا أعتقد بأننا سننجح سويةً في الاستمرار بهذه العلاقة التي تديرها حسب مزاجك ومصالحك.
- سأنسحب إن كان هذا ما ترينه تضحية من أجل البقاء معك يا "ريتا" فأنتِ أولاً وأخيراً.
- لقد كان سيعني هذا الكثير لو أنك لم تطلبه، لكن الآن حتى لو انسحبت سيكون الأمر سيان عندي، سأبقى أتذكر أنك خذلتني في أحد أهم أيام حياتي.
لقد تمنيتُ في قلبي في تلك اللحظة لو يحدث إعصار يقلب المعرض رأساً على عقب. لم يكن عندي شيء أهم من "ريتا" لكن كان صعب جداً علي أن أواجه كل ذلك الكم من التحديات في مناسبة واحدة، وأن يتعلق كل شيء بحبي وعلاقتي بها.
- تباً .. "ريتا" أرجوكِ لا تبكي، أنا آسف ..
- فليذهب المعرض للجحيم يا "جمال" أنا أحبك، عليك أن تفهم أن ما يعنيني في كل هذا وذاك هو أنت. لكنني بدأت أخاف من أنانيتك، المواقف السيئة تتكرر، وربما يكون أحدها الشعرة التي ستقصم ظهر البعير.
سقطت دمعة شفافة من عينها، مسحتها بطرف يدها، ثم حاولت أن تختلق ابتسامةً رغم الحزن الذي يعصفُ داخلها. ثم نظرت إلى ساعتها ..
- علينا أن نغادر، اليوم عيد ميلاد "خالد" علينا ألا نتأخر في الحضور!
- أجل أعلم، سأدخلُ إلى الحمام وأوافيكِ فوراً.
غادرنا المقهى، صعدنا إلى السيارة وقدتُ إلى حيثُ كان الجميعُ بانتظارنا حيثُ يقام حفل عيد ميلاد "خالد" ..
كنا ثلاثة شبان أنا، "خالد"، "مروان"، وشابتين "لطيفة" حبيبة "مروان"و "ريتا" حبيبتي، أما "خالد" فكان الشاب الأعزب بيننا إن صح التعبير، فقد كان يخرجُ كل فترة مع فتاة ثم يهجرها بحجة الظروف غير الملائمة للارتباط.
على أي حال بقينا صامتين، لم يكن أحدنا يملك ما يقوله للآخر، رغم أن في داخل كل منا كان يدور حديث لا بداية له ولا نهاية.
توقفنا عند المكان المنشود حيثُ ركنتُ السيارة، دخلنا وكان الجميعُ هناك بانتظارنا، كانت الطاولة مفروشة بالطعام والشراب.
صوت الموسيقى كان مرتفعاً جداً، تبادلنا التحيات بالعناق ولغة الإشارة ثم قدمنا الهدايا ل"خالد" الذي كان مخموراً سلفاً وكان يرقصُ حول نفسه كالمعتوه.
"ريتا" التي كانت من المفترض أن تشعل الحفل برقصاتها وروحها المجنونة ، بقيت جالسةً في مكانها، ملامح الحزن باديةً عليها رغم محاولاتها اليائسة في الضحك والابتسام. كنتُ في تلك اللحظة مشوشاً من تأثير الأحداث الأخيرة، وكانت "ريتا" مزاجية إلى الحد الذي لا تدركُ فيه متى يكون عليك الاقترابُ منها ومتى يكون عليك الابتعاد. فكرتُ كثيراً في إنني افعلُ الصواب في إعطائها مساحة لنفسها، كي ترتاح، لكنني تمنيتُ لو أنني لم أفعل. لم أكن أدري أنها في تلك اللحظات ربما كانت تحتاج شيئاً واحداً فقط، عناق من الطراز الخالي من الاغواء، عناق شديد، أن أمسك بعدها يدها وأخرجها من زخم الإعصار الذي كان يعصفُ داخلها، أن أضمها في في حضني حتى تهدأ، لكنني أخطأت ..
بعد عدة دقائق مضت لاحظتُ أن "ريتا" اختفت، بحثتُ عنها فوجدتها تجلسُ على طاولة أحد الشبان وقد تصبغ وجهها بالأحمر بعد أن احتست بعض الكؤوس. اعتراني الغضب، الغيرة، شيء ما في داخلي. توجهتُ نحوها وسحبتها من يدها نحو الخلف، كانت بالكاد تستطيعُ الوقوف متوازنة، ف"ريتا" كانت نادراً ما تتناول الكحول ولم تكن تدخن، كانت شخصاً رياضياً بامتياز.
- هيا يا "ريتا" علينا أن نرحل .. - قلتُ لها وأن أجرها من يدها-
أفلتتني بقوة ثم سحبت يدها، كانت قد اختفت ملامح وجهها تحت تأثير الكحول والدموع، وأصبحت بحال مزرية. كان الجميعُ على الطاولة منشغلون بنا، أحضر "مروان" بعض القهوة المرة ل"ريتا" التي كانت تهذي وقد تقيأت على نفسها عدة مرات.
اقتربت مني وبعينين ملأهما الدمع والانكسار همست لي "سوف أحبك للأبد". عانقتها بشدة، عندما عادت للبكاء.
- هيا يا "ريتا" علينا أن نغادر!
نظرتُ إلى الشبان حولي كان يبدو وأن كل منهم كان يحلق وحيداً في عالمه.
- علينا أن نطلب سيارة أجرة لتقلنا، لا أحد منا يستطيعُ القيادة في هذه الحال الرثة - قال "مروان" وهو يوضب أمتعة "ريتا" في حقيبتها، بينما كانت "لطيفة" تمسحُ على وجهها الشاحب برفق.
- دعني آخذها قليلاً نحو الخارج بينما توضبون الأشياء وتحاولون السيطرة على وضع "خالد" - همست "لطيفة" بأذني وهي تشيرُ إلى "خالد" الذي اعتلى إحدا الطاولات وراح يقفزُ كالمجنون منتشياً.
- فكرة جيدة، شكراً لطيفة. - قلتُ لها-.
خرجت الفتاتان معاً، كانت المرة الأخيرة التي رأى أحدنا فيها "ريتا"، عندما عادت "لطيفة" لختبرنا بأن سيارة الأجرة وصلت.
- أين "ريتا"؟
- إنها في الخارج تدخن عقب سجائر، لقد عادت تقريباً إلى وضعها الطبيعي، لكنها ما تزالُ غاضبة منك، لقد كانت تقول بأنها ستهجرك أن لم تتغير .. - قالت "لطيفة" وهي تمسكُ ذراعي بقوة كأنها تأمرني بأن أفعل شيئاً-.
- "ريتا" تدخن؟! يا لهذه الليلة المشؤومة - قلتُ للطيفة وأنا أضعُ معطفي علي- .
عندما فتحتُ عيناي كان الطبيب مايزالُ على نفس وضعية الجلوس يحدقُ بي مصغياً بالكامل.
- ثم ماذا حصل؟-سألني متلهفاً- .
- عندما خرجنا لم تكن "ريتا" هناك، سألنا سائق سيارة الأجرة عنها فقال بأنه كان يمسحُ نظارته ولم ينتبه لوجود أحد أو اختفائه.
- ثم ؟
- ثم تفرقنا كل منا في شارع للبحث عنها، لكننا لم نجد لها أثر. عندما مرت ساعات على اختفائها ذهبتُ إلى قسم الشرطة لتقديم بلاغ عن اختفائها، لكن الشرطة لم تتحرك إلى بعد مضي ٢٤ ساعة على اختفائها.
- حسناً؟ - سألني-
- أغلقت القضية بعد حوالي السنة ونصف السنة عندما لم يتم العثور عليها. بعد التحقيقات سجلت القضية ضد مجهول لعدم وجود أدلة كافية على الفاعل أو على سبب الجريمة.
- تقول بأنك خلال السنوات التي مضت ما تزال في كل يوم تذهب لنفس المكان لترى إن عادت؟
- هذا جزء بسيط من الحكاية، فأنا في الحقيقة أعيشُ مع "ريتا"؟
- تعيشُ معها؟
- "ريتا" لم تغادرني يوماً، فقط عندما تكون غاضبة مني فإنها تختفي وهذا أكثر جزء يجعلني أتعذب، فأنا لا أستطيعُ العيش بدونها، وحتى تكون الصورة واضحة تماماً بالنسبة لك، أنا هنا لأتعالج من الاكتئاب، أريدُ أن أعيش مع روح "ريتا" بسلام.
- هل تشعرُ بالذنب بسبب ما حصل لها؟
- بل أشعر بأنني أناني لأنني أمضي حياتي بينما هي قد تكون ماتت. لقد حاولتُ الانتحار عدة مرات وفي كل مرة كنتُ أنجو .. - قلتُ لهُ وأنا انظر من خلال النافذة المبللة-.
عدل من وضعية جلوسه للمرة الثانية على التوالي، حك جبينه بالقلم الذي كان يمسكهُ. ثم طلب مني أن أغمض عيوني وأن أتكلم عن شعوري في هذه اللحظة.
- أشتاقُ إليها كثيراً، في كل مرة تمرُ في الذاكرة.. لقد كانت تطلبُ مني دوماً أن أخفف من العمل وأن أتفرغ للكتابة، وهذا ما أمضيتُ الثلاث سنوات التي مضت أفعلهُ، طبعتُ روايتين حازت كلاهما على إعجاب القراء والنقاد .. لكنني في النهاية اسم مستعار، لأنني لم اتجرأ يوماً على طرح شي باسمي، لأنني أشعرُ بأنها خيانة ل"ريتا"..
- ماذا تقصد بالخيانة؟
- لأنها كانت من يفترض أن أشكرهُ في بداية كل عمل، وفي كل مرة أدعى فيها للتكريم، لأنها من اكتشفت موهبتي ومن شجعتني على الحفر داخل مخيلتي لأخرج هذا الكنز الذي أتمتعُ به اليوم .. لكنني تزوجت ..بعد سنة تقريباً، امرأة عادية لا تشبهُ "ريتا"، حتى ابنتي اسميتها "سارة" لأنني كنتُ أخشى أن يكون لها نفس المصير.
- تزوجت كي تنسى "ريتا"؟
- كنتُ أعلمُ يقيناً أنني لن أنساها، لقد كان مجرد رد فعل، لقد كنتُ انتقمُ منها لأنها اختفت، أنتقم من العالم الذي كان يلاحقني، أصدقائي الذين كانوا يضغطون علي بشدة حتى أخفف عن نفسي، حتى أرحم روحي من العذاب. لم يكن أحد منهم يعلم ما الذي عانيته طوال حياتي من اللحظة التي ولدتُ فيها فاقداً لمن كان من المفترض أن يكونوا مصدر أماني وسندي ودعمي وكل شيء. ولدتُ لأرمى كأي قطعة أثاث بالية أمام حاوية للمهملات، مع القمامة والقذارات. لقد جاهدتُ طوال عمري لأحافظ على الصورة للانسان الذي وددتُ أن أكونه، ثم عدتُ وفقدتُ "ريتا" الإنسانة الوحيدة التي كانت تراني كما كنتُ أحبُ أن أرى نفسي، وليس كما أنا عليه في الحقيقة.
كادت عيناي تتفجران بالدمع في تلك اللحظات التي كنتُ أسردُ له فيها مافي جعبتي، أسراري التي بيني وبين نفسي لم اتجرأ يوماً على مشاركتها. كان يقولُ لي شيئاً لم اسمعه، كنتُ فقط أريدُ أن أمضي قدماً في روايتي، أريدُ أن أبرر له السبب الذي جعلني أتخلى عن ابنتي..
- انتهت علاقتنا منذ بدايتها، لقد كانت المرة الوحيدة التي ضعفتُ فيها أمام رغباتي، فأقمتُ معها علاقة وكان نتاجها ابنتنا "سارة".. ثم رَحلتْ. كرهتني جداً لما فعلتها بها، كنتُ في وقتها ضائعاً، لقد كان أغبى فعل قمتُ به في حياتي. والمرأة المسكينة أحبتني لدرجة الكره، أحبتني لدرجة أنها كانت تدعني أناديها باسم"ريتا"، لدرجة أنها كانت تستيقظ في الليالي على صراخي وبكائي وتمسحُ على رأسي. لكنها في النهاية إنسانة طبيعية.. وكان من الطبيعي أن ترحل. وصفتني بالشخص الأناني ،عديم المسؤولية، بالمريض .. لكنني في داخلي كنتُ أتوسلُ لها كل يوم بأن ترحل، لأن "ريتا" لم تكن لتقبل أن تشاطرها امرأة أخرى حياتنا. وهذا كان الكابوس الحقيقي الذي كنتُ أعيشهُ طوال فترة تواجدي معها.
- هل تتواصل مع ابنتك اليوم؟
- أجل بالطبع، لكنها تكادُ لا تتعرف علي، إنني أراها في المناسبات فقط، إن والدتها تخشى عليها كذلك مني ..إنها تقول بأنني شخص مخيف، أنني أرى أشباحاً - اضحكُ-
- أشباح؟
- لقد رأيتُ "ريتا" مرات كثيرة في الشارع، في المقاهي، على مقاعد الحدائق، في باصات النقل والقطارات .. في رحلتي إلى إفريقيا .. "ريتا" بالنسبة لي في عالمي الخاص حيثُ أقضي معظم وقتي ما تزالُ حية، لأنني في كل رواية اكتبها أمنحها حياةً جديدة. لا بل إنها ماتزال حية بالنسبة إلي .
إنها ما تزال تنتظري عند النافذة عندما اتأخر في المساء، تدعني أنفردُ مع موسيقاي وكتاباتي عندما أكون موجوعاً، ألمح ظلها يتفقدني من بعيد حتى اهدأ. "ريتا" التي لم تعد تختفي حيناً وتعودُ، إنها هناك تنتظرني إلى الأبد.
------------------------------------------------------------------------------------------------------
- يتبع-