لماذا لم تدقوا جدران الخزان !
لقد كانت صرختي الأولى : لماذا لم تدقوا جدران الخزان !
نشر في 21 أكتوبر 2016 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
يذكر أني نقمت كل النقمة على أبطال رواية رجال في الشمس ، ولاحقتني عبارة لماذا لم تدقوا جدران الخزان كثيرا ، وعشت تفاصيل الحدث الأخير من الرواية وكأنه حدث حقيقي رسمت تفاصيله في مخيلتي مع أني لست من الأشخاص الذين ينسجون أحداثا وعبارات في خيالهم ، فأنا واقعية حد الوجع ، أغلقت الكتاب مودعة أبطال تلك الملحمة التراجيدية وأكرر أني لا زلت ناقمة عليهم لماذا لم يدقوا جدران الخزان ، فكنت أظن أن سبيل عودتهم للحياة هو المناجاة والاستنجاد بذاك الغبي ،
هذه كانت إحدى قناعاتي الساذجة التي غيرتها بعد واحد وعشرين عاما من التجارب التي أسعدتني وأوجعتني لكنها علمتني ، لكن لعل تلك التي أوجعتني هي التي نجحت فيها بتفوق ، فطالما أخبرتني جدتي أن هذه الحياة لا تعطي دروسا بالمجان ! نعم كبرت وكبرت وكبرت وأصبحت أنظر للحياة كأني سيدة أربعينية عاشت الحب واعتزلته ثم بكت بحرقة لموته ، أو كأني فقدت عزيزا أو حتى ألبوم صور تحت أنقاض بيت ، كبرت لأدرك أنهم لو دقوا جدران الخزان لكانت النتيجة واحدة ولكان سبيل الهلاك محتما عليهم.
كنت أرتشف قهوتي في الصباح وأقلب قنوات التلفاز باحثة عن شي يقتل الملل ، لفتتني لقطة من مسلسل درامي سوري يدعى مدرسة الحب ، قرأت أبطاله ورأيت الوجع في عيونهم ولعلي أدركت المفارقة العجيبة بين اسم المسلسل والوجع في عيون أبطاله لأتدارك سذاجتي مرة أخرى فلطالما تخيلت الحب جنة ، لأعود وأدرك بأن الحب ليس سوى وجع بحجم هذه السماء بل أكبر ، تابعت أحداث تلك الدراما التي إن صح القول أن أسميها تراجيديا وفقا لما تعلمته في مواد النقد الأدبي أثناء دراستي الجامعية ، طبقت عناصر التراجيديا على أبطالها لأجدها تناسب اسم تراجيديا أكثر من مسرحيات شكسبير ، فالبطل التراجيدي هنا لاجئ سوري نذر حياته لمن أحب ناسيا غدر هذه الحياة ، أو لعله متناسيا فأعمدة الأدب العربي يقولون من ركب قارب الحب لا يخشى الغرق ، رمته شواطئ الموت إلى تركيا فوطنه لم يعد يتسع له ،، لم يعد متسعا إلا للدمار والألم ،، ودع حبيبته على الحدود التركية البلغارية وكله أمل أن هذه الحياة ستعطيه فرصة البقاء وستمنحه جواز سفر لعالم الحب الذي طالما حلم به ، فلم تكن الوسيلة الوحيدة ليمرر محبوبته مع رفاق مثلها إلى بلغاريا إلا ثلاجة مواد غذائية ستتجاوز الحدود بلا نقاط تفتيش مقابل أموال طائلة خرجوا بها من سوريا ليشتروا الحياة في الغربة ، ودعها ولم يكن يعلم أنه الوداع الأخير ولعله لم يكن يعلم أن تلك الشاحنة ستكون مقبرة جماعية لأناس لفظتهم الحياة إلي عالم مجهول ، ولعل الثلاجة كانت بالنسبة إلي معنى مجازيا فهي ستنقلهم إلى عالم أفضل كما يظنون ولكنني كنت على يقين أنها ستحفظ لهم كرامة جثثهم حتى يجدهم ذلك العالم النائم المجرد من أبسط ملامح الإنسانية ، ولعل جدتي كانت دائما تخبرني ( الملطم وين ما راح ي ستي ملطم ) ولعل حكم جدتي هذه ليست من فراغ فهي عايشت حربا لم ترحم أحدا ولعلها شبيهة بهذه الحرب مع اختلاف المسميات ؛ لتنحدر الشاحنة بهم في منعطف جبلي ويموت سائق الشاحنة تحت تأثير تلك اللعنة التي لاحقتهم ، لتبدأ استغاثاتهم بدق جدران الشاحنة لكن لا مجيب ، بدأ البرد يتسلل إلى دمهم ، ازرقت وجوههم وأيديهم ليصبحوا أشبه بمخلوقات فضائية ، فمحبوبة البطل لم تعد كما عهدها ، جلست في زاوية من زوايا الشاحنة محاولة الاستغاثة ، فلقد كانت بجانبها رفيقة لها لعلها تمثلني جلست تنتظر الموت بصمت لعلها فضلت أن تموت بصمت على أن تصارع الحياة لعلها فقدت كل أحبائها في الحرب فأدركت أن الحياة لا خصم لها ، فقررت الاستسلام وتسليم روحها بسلام ، المشهد كان قاسيا لدرجة أن الكلمات لا تتسع لوصفه ولعل هذه المذكرة التي أسجل فيها ما عايشت غير كافية لتستوعب ذلك الألم ، ولعل الدراما نفسها رغم حجم التعاسة فيها لم تستطع أن تعطي المشهد حقه ، فهم كائنات صارعت الحياة طويلا ولم تيأس وظل قليل من الأمل لديها حملته في قلبها رغم الجسور والحدود والحواجز التي عبروها !
نعم فلقد بح صوتهم وهم يصرخون واهترأت أيديهم وهم يدقون جدران الشاحنة لكن لا مجيب !
لم أكن أعلم أن أبطال رواية رجال في الشمس كانوا سيواجهون نفس المصير لو دقوا جدران الخزان ، لما كنت لعنتهم ونقمت عليهم ، لعلي كنت على الأقل قدستهم وقدست ذكراهم ، ورفضت نهاية غسان كنفاني بأن يتم إلقاء جثثهم في مزبلة على طريق صحراوي لا يمر فيه إلا الضباع والذئاب ، لكنت رفضت أن يلقى بهم في مزبلة التاريخ ، أو لعلي رسمت نهاية أجمل في مخيلتي كما اعتدت بأن تدفن بقاياهم في حديقة وينبت منهم الزهر ، فهم من ضاعت زهور أعمارهم في محاربة هذه الدنيا وحدهم ، نعم بالرغم من أني قاسية القلب وجبارة إلا إني بكيت ، ولعلي بكيت بمرارة عندما وجدهم بطلي ، وفتح ثلاجة الشاحنة ليجدهم ليسوا سوى جثث ملت مصارعة الحياة فاختارت السلام الأبدي ، بكيت لهول المنظر ولكن بكائي واختناق صوتي الذي أذهل أختي كان عندما جاءت سيارات إسعاف الصليب الأحمر لتضع الجثث في أكياس وتلصق على الكيس رقم 775 ، أجل فبطلة الرواية أصبحت رقما مثلي تماما عندما أصبحت رقما فيما يدعى بطاقة المؤن في الأونروا.
لم أكن أدرك أني سأعايش رواية غسان كنفاني مرة أخرى ، لكن هذه المرة قرأتها مرة أخرى في وجوه أخرى وفي توقيت ومكان آخر وبقالب روائي جديد لتتغير الكثير من القناعات الرتيبة في عقلي ! أدركت أن مأساتي الفلسطينية في قانا ودير ياسين وصبرا وشاتيلا تتكرر وإن كانت بتفاصيل أخرى ، أدركت أن 3735 سوري لقوا حتفهم وجريمتهم الوحيدة هي محاولة البقاء !
انتهى المسلسل تاركا الكثير من الجروح والندبات في قلبي وعقلي أيضا ، وعادت المفارقة مرة أخرى بأن يضفي المخرج لمسة ويجعل القصة أشبه بالميلودراما وكانت اللمسة نشيد موطني ولعل كاتب السيناريو كان دقيقا في هذا الاختيار فالقصيدة لشاعر فلسطيني روى المأساة في قصيدة أصبحت نشيدا وطني فالمأساة واحدة والجرح واحد ، ولكن الوطن لم يعد يتسع لنا والجمال والبهاء قد مات !!
وكانت آخر مفارقة لكني لا أظنها مفارقة فلقد حكمتني سذاجتي ثانية فكانت شارة النهاية أغنية تناسب عنوان الدراما "مسلسل الحب" ليردد كاظم الساهر كلمات نزار قباني
يا رب قلبي لم يعد كافيا لأن من أحبها تعادل الدنيا
ضع بقلبي واحدا غيره يكون بمساحة الدنيا
لعل الكلمات تمثل البطل ولعل حبه كان أكبر من هذه الدنيا كلها لكن هذه الدنيا لم تتسع لحبيبته فسرقتها الحياة !
مسحت دموعي رافضة بأن أسمع باقي كلمات الأغنية التي لا لم تعد تناسب مفهموم الحب في عقلي أو حتى في قلبي فالحب بالنسبة لي لم يعد لا قرارا ولا حتى اختيارا ، ما الحب إلا وجع نختاره بأيدينا وما الحياة إلا معلم قاس يجلعنا ندرك أخطاءنا بعد أن ندفع الثمن غاليا !
أغلقت التلفاز وكانت قهوتي أصبحت باردة كمشاعري ، ونقمت على حظي التي ظننته تعيسا لهذا اليوم ليجعلني أصادف هذه الدراما بالذات لتغير الكثير من مسلماتي في هذه الحياة ، حملت فنجاني وتوجهت للمطبخ لأسخن قهوتي ، ولأكمل حياتي كعادتي بعد نوبات الألم وكلمات أمي ترن في أذني ( الحياة بتستمر والحسرة يما علي بيموت ) !!
-
فلسطينيةAs dreams are made on; and our little life Is rounded with a sleep.
التعليقات
أوتدري كنت أهرب من اسم غسان كنفاني لأجل هذه النهاية التي تعلمناها في المدرسة .
تحيتي لك ولقلمك سيدتي.