ظاهرة الإلحاد في العالم العربي وفق منظور الباحث السوسيولوجي المغربي عبد الصمد الديالمي - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

ظاهرة الإلحاد في العالم العربي وفق منظور الباحث السوسيولوجي المغربي عبد الصمد الديالمي

  نشر في 26 يوليوز 2016 .

   في العالم العربي اليوم، يصعب إعداد ورقة علمية عن الإلحاد نظرا لانعدام دراسات أكاديمية في الموضوع، بل ولانعدام معطيات أولية دقيقة تتعلق بعدد الملحدين، بأصولهم الاجتماعية، بتنظيماتهم وبأنشطتهم النضالية. فالكتابة عن الإلحاد في العالم العربي إما 1) كتابة أجنبية قامت بها مراكز استطلاع رأي أجنبية لا تعلن عن منهجيتها، 2) وإما كتابة صحفية تحول الإلحاد إلى ظاهرة اجتماعية جديدة مضخمة، 3) وإما كتابة إسلاموية تهدف إلى شجب الإلحاد والعمل على مقاومته، بل وإلى تحريض "العامة" ضد الملحد وضد اللاديني وضد اللاأدري (agnostique)، فهؤلاء كلهم مرتدون عن الإسلام في نظر أغلبية معظم الفقهاء وكافة الإسلامويين (الدعويين منهم والجهاديين).

1- الإلحاد هو الردة بامتياز، وبإجماع : 

هناك أشكال متعددة من الردة في نظر الفقهاء. أولاها الردة العقائدية[1]، وهي الردة الفكرية-الإيمانية التي تتمثل في نفي وجود الله وفي نفي خلق الكون والإنسان وفي نفي الآخرة، ثم في نفي الرسالة المحمدية وأفضلية القرآن على الكتب "السماوية" الأخرى، وعلى جميع الكتب بشكل عام. ثانيها الردة بالقول وهي سب الله وشتم الرسول وقذف الإسلام بالخصوص. ثالثها الردة بالفعل والمقصود بها التخلي عن التشريع الإسلامي وعدم تطبيقه، فهي إذن رفض لتطبيق أمر إلهي أو أمر من الرسول، وأيضا خرق الموانع التي وضعت بنص قطعي (في نظر الفقهاء). والمقصود بالنص القطعي النص الذي لا يحمل (ولا يحتمل) إلا معنى واحدا، وهو المعنى الظاهر الحرفي. انطلاقا من هذا التمييز بين الأشكال الثلاثة (ردة العقيدة، ردة القول، ردة الفعل)، يتجلى أن تعريف مفهوم الردة يتأرجح بين تعريف متسامح وتعريف متشدد. يكمن التعريف المتسامح في الاقتصار على اختزال الردة في نفي وجود الله (الإلحاد) وفي رفض الإسلام (لا تدين أو اعتناق دين آخر). أما التعريف المتشدد، وهو السائد اليوم داخل "الكنيسة" الإسلامية غير المهيكلة، فيرى أن عدم تطبيق الشريعة كاف لتهمة الردة ولإثباتها. وبالتالي فالردة إما رفض للإيمان بالله أو رفض للشريعة، وكلاهما كفر في نظر أغلبية الفقهاء والإسلامويين. والردة تفضي إلى الحكم بالقتل على المرتد انطلاقا من الحديثين التاليين: ”لا يحلّ دمُ امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث: النّفس بالنّفس، والثيّب (المتزوج) الزّاني، والتّارك لدينه المفارق للجماعة”، ”من بدل دينه فاقتلوه“. بالنسبة للحديث الأول، فإنه يدقق أن حد القتل لا يطبق إلا على المرتد الذي يتحول إلى محارب ضد الإسلام وضد دولته، وهي بمثابة خيانة (سياسية) عظمى. أما الحديث الثاني فحديث آحاد، مشكوك في صحته، لا يصلح ليكون مصدر تشريع، وما ثبت أن الرسول أعدم إنسانا لمجرد تغيير عقيدته. رغم هذه التدقيقات، فإن البعض من المعاصرين يرون أن الردة تقع أيضا عند رفض المسلم للصحيحين وفي التجنسن بجنسية غربية (أمريكية، إنجليزية، فرنسية...) وفي تبني الشيوعية كمذهب فكري وسياسي. أخيرا، لا بد من التذكير أن القرآن لا يقول بقتل المرتد، بل لا يقول بأي عقاب دنيوي ضد المرتد.فالقرآن لا يأمر بالقتل إلا في حالتي القتل العمد (القصاص) والحرابة (محاربة الله والرسول والإفساد في الأرض). فهل يحق للحديث أن ينسخ القرآن مع العلم أن محمد رسول الله مشرع له ما عليه إلا البلاغ. إن تحويل الرسول إلى مشرع فعل فقهي بالأساس انطلاقا من قول الشافعي: "الرسول لا ينطق إلا عن وحي حتى عندما لا ينطق بالقرآن". وهو ما أكده أيضا الإمامان الأوزاعي والشاطبي من أن ”السنة جاءت قاضية على الكتاب ولم يجئ الكتاب قاضياً على السنة“. بسبب هذه الفرضية، يرى طرابيشي أن الأحاديث التي وُضعت على لسان الرسول بعد وفاته وضعت منزلة الوحي، وتوافق أهل الحديث والفقه على اعتبار السنّة كالقرآن، تشريعاً إلاهياً متعالياً، وككل ما هو إلهي ومتعالٍ وتحرّرت السنّة وأحكامها من شروط المكان والزمان[2].

2- ضعف الإلحاد، ضعف إحصائي فقط؟

بالإمكان رصد ضعف الإلحاد الإحصائي من خلال الرجوع إلى دراسة "وين-كالوب الدولي" المعنونة "التدين الشامل وفهرس الإلحاد"[3]. وهي دراسة تقيس علاقة الأفراد بالمعتقدات (أو بااللامعتقدات) انطلاقا من تمثلاهم الشخصية. تفيد تلك الدراسة أن العالم العربي يأتي في المرتبة الأخيرة باثنين في المائة فقط من الملحدين (وهي نفس المرتبة التي تحتلها إفريقيا). أما المناطق الأكثر إلحادا فهي على التوالي: آسيا الشمالية (42 في المائة)، أوروبا الغربية (14 في المائة)، أمريكا الشمالية (6 في المائة)، أوروبا الشرقية (6 في المائة)، آسيا الجنوبية (3 في المائة). وتفيد الدراسة أيضا أن المملكة العربية السعودية تأتي على رأس الدول العربية من حيث عدد الملحدين ب5 في المائة من سكانها (وليس مصر كما جاء في التقرير الآخر المذكور أعلاه). من هذه المعطيات، يتبين أن عدد الملحدين في العالم العربي يشكل ظاهريا نسبة ضئيلة لا دلالة إحصائية لها، الشيء الذي يمنع من اعتبار الإلحاد ظاهرة اجتماعية تأزم سير المجتمع واشتغال الدولة.

في المغرب، حدّد تقرير صادر عن "كتابة الدولة في الخارجية الأمريكية" عدد الملحدين المغاربة في حوالي 10 آلاف شخص سنة 2013، وهو ما يتجاوز عدد اليهود والمسيحيين المغاربة. لكن هذا التقرير الذي يصدر كل سنة عن خريطة التدين بالعالم لا يشير إلى كيفية تحديده لأعداد الملحدين في العالم، خصوصا في الدول التي لا تسمح بحرية العقيدة وبما يسمى الردة. وبالتالي يظل الشك قائما حول مصداقية الأعداد الواردة في التقرير، خصوصا وأن تقريرا آخرا لمركز "ريد سي"[4]، التابع لمعهد "كلوبال" الأمريكي قدر عدد المجاهرين بإلحادهم في المغرب بحوالي 325 فردا فقط. وهو رقم أقل بكثير من ذلك الذي حددته الخارجية الأمريكية، أي 10000 شخص. ورغم ضعف عدد المجاهرين بالإلحاد، أي 325، أفاد التقرير أن المغرب يضم ثاني أكبر عدد من المجاهرين بإلحادهم على صعيد الدول العربية، بعد مصر التي احتلت المرتبة الأولى.

كيف نفسر هذا التضارب في الأرقام؟ من العوامل المفسرة، فرضية التمييز بين الملحد المجاهر والملحد غير المجاهر، بمعنى أن عدد الملحدين غير المجاهرين يفترض أن يكون أعلى بكثير من عدد الملحدين المجاهرين. فالخوف من الآخر والكتمان تقية عامل يؤدي إلى "عدم الاعتراف" العلني بالإلحاد ومن ثمة إلى غياب إحصاءات وطنية رسمية عن عدد الملحدين الفعليين. أبعد من ذلك، يمكن الإقرار بعدم وجود إرادة سياسية لدى الحكومات العربية في التعرف على عدد الملحدين، وبعدم تشجيع سوسيولجيا الإسلام لأنه مبحث مزعج للدولة وللمجتمع. فالأساس الديني لشرعية الدول العربية يشكل عائقا إبستمولوجيا في ذاته لأنه يمنع من وجود رغبة سياسية رسمية في المعرفة، في معرفة عدد الملحدين العرب. وذلك عامل ثان يفسر ضعف الإلحاد في العالم العربي. لكن هنا يتوجب التمييز بين ضعف الإلحاد على مستوى الإحصائيات المتاحة وبين الوضع الحقيقي للإلحاد في المجتمعات العربية. إن الضعف الإحصائي لا يعني حتما وبالضرورة ضعف الإلحاد في الواقع العربي.

3- الأنترنيت، فضاء حرية الملحد: تحليل مضمون : 

أمام القوانين العربية غير المعترفة عامة بالحق في الإلحاد، أي بالحق في حرية العقيدة (بسبب تأويل محافظة للنصوص المرجعية)، وأمام خطر القتل أو على الأقل خطر الاضطهاد الاجتماعي في حالة المجاهرة بالإلحاد، ظل الإلحاد حبيس بعض الحلقات الضيقة من المثقفين العرب، ولم يعرف أبدا الانتشار الإعلامي الذي بلغه اليوم بفضل الأنترنيت. فالأنترنيت اليوم يشكل المتنفس الرئيسي الذي يستعمله الملحد العربي (غير المثقف) للتدليل على وجوده بحرية وللتعبير عن نفسه بحرية. ذلك لأنه يسمح له بالتحايل على الرقابة السياسية والفقهية والاجتماعية، فالأنترنيت حين يضمن المجهولية للفرد الملحد يمكنه من إنكار وجود الله ومن نقد الدين دون مخاطرة بسلامته. أبعد من ذلك، سمح الإنترنيت بتشكل مجموعات فايسبوكية ذات حجم لا يستهان به من الملحدين العرب. وفي إطارها، يتعرف الملحدون على بعضهم البعض من أجل تبادل الآراء في اللاتدين وفي اللاأدرية وفي الإلحاد، ومن أجل الخروج من العزلة الاجتماعية. هكذا، نجد في الفايسبوك صفحة لكل دولة عربية خاصة بالإلحاد.

من بين الصفحات الأكثر "شعبية" أو مقروئية، نجد "شبكة الملحدين السوريين الخاصة" التي تضم حوالي 23000 منخرط[5]. هدفها تأسيس نواة مجتمع مدني علماني ديمقراطي يضمن قيم المواطنة ويعترف بحقوق النساء وبحقوق المثليين. كما نجد صفحة "الأديان من صنع الإنسان"[6] وصفحة "المرتد الحر"[7] وصفخة "ملحدين توانسة"[8]. ولكل صفحة من هذه الصفحات أكثر من 10000 منخرط. هكذا أصبح الفايسبوك ملجأ المفكرين الأحرار[9] (libres-penseurs) في العالم العربي مثل محمد كريم العبيدي (من تونس) الذي يعرف نفسه كمسلم سابق ملحد. وقد نشر العبيدي عدة فيديوهات بوجه مكشوف ينتقد فيها الله ومحمد والإسلام تحت العناوين التالية: "هل هذا هو الله"؟[10]، "هل محمد حقيقة أم أسطورة؟"، "هل كان نبي الإسلام عقيما؟"، "نكاح ملكات اليمين"، "عيد الذبح"... وكل الفيديوهات تبدأ بالجملة التالية "السلام على من اتبع العقل ونبذ النقل وفكَر".

إن مضمون الصفحات الفايسبوكية المذكورة مضمون كتابي نقدي لاذع من جهة، يستعمل لغات ثلاثة (العربية، الفرنسية والإنكليزية)، ومضمون تصويري من جهة أخرى من خلال توظيفه لصور كاريكاتورية للدين من خلال رسم الله ومحمد في أوضاع ساخرة. وعند القيام بتحليل مضمون تلك الصفحات، نجد أن الإلحاد يعبر عن نفسه من خلال إنكار وجود الله ومن خلال نقد الإسلام.

ينطلق نفي وجود الله من كون وجوده سمي إيمانا، وهو إيمان لأنه ليس معرفة. فلا وجود لبرهان علمي يحتم الوقوف عند خالق أول لم يخلق. فسؤال الطفل أو المراهق "مَنْ خلق الله؟" سؤال يقمع ويحرم لأنه سؤال مزعج يميط اللثام عن لا عقلانية الإيمان الديني. يقول الله حسب مشارك في الصفحة: "سأخلق عرشا أستوي عليه تحمله 8 ملائكة رغم أني لا أحتاج لعرش ولمخلوقات تحمله، وسأجعلك تتعذب إلى الأبد إذا لم تصدق قرآني وادعيت أنه كلام بشري مخالف للعقل". ويوقع الله هذا التصريح بـ "الرحمان الرحيم". أين هي الرحمة في هذا التوعد بالانتقام؟ يتساءل هذا المشارك بتعجب إظهارا للتناقض. ويكتب مشارك آخر: "الله خلق كل شيء من العدم لكنه احتاج ضلعا من أضلع آدم ليخلق حواء والأنكى من ذلك انه احتاج حفنة طين ليخلق آدم": كيف يعقل ذلك من طرف إله قادر على كل شي"؟ ويذكر مشارك ثالث بأن "البيت الوثني "الكعبة" غرق سنة 1941 وسط مياه المجاري جراء فيضانات: مجرد حادثة طبيعية لا علاقة لها بخرافات العقاب والابتلاء أم أن الله لا يستطيع الحفاظ على بيته نظيفا"؟

علاوة على ذلك، يستغل المشاركون ظاهرة الشر المتعدد الأشكال (اللامساواة، الجوع، الفقر، الأمراض، الإعاقة، الكوارث الطبيعية، الحروب[11]...) في طرح سؤال عن هوية الله وعن طبيعته، ومن ثم السؤال عن وجوده. فبالنسبة إليهم، لا يعقل أن يكون الله مصدر الشر السائد والمتكرر. "أين هو الله؟"، سؤال تطرحه صفحة كتعليق على صورة أطفال أفارقة جياع. "إله الانتظار، هرمت أرواحنا". أكثر من ذلك، ينعت الله بكائن تافه: "التفاهات لا تنتهي في الأديان وأكبر تفاهة هي ما يقوم عليه الدين وما يجعله هدفا للحياة، أعني العبادة والتقديس والتعظيم والتسبيح لله والطقوس التي لا معنى لها ولا فائدة منها. ألم يكن أولى بالإله إن كان موجودا أن يطلب من الناس استخدام عقولهم وأوقاتهم في منفعة البشرية بدلا من إضاعة الأوقات في عبادات سخيفة، الإله الذي يهتم بتقييم الناس بناء على حركات صلاتهم وتتابع كلماتهم لا شك أنه إله من صناعة عقول البشر". وبالتالي توجه رسالة إلى القارئ قائلة بصراحة: "الإله ليس له وجود إلا في عقلك. حرر عقلك وفكر بالمنطق، "رب المخ قبل اللحية"، "حرر عقلك"... وهي رسائل تجعل من الله قيدا يكبل عقل الإنسان ويمنع حريته.

وفيما يخص نقد الدين، يركز الملحدون العرب على التناقضات التي تعشش في الدين وفي الكتب "السماوية"، والمتعلقة بخلق الكون وبخلق الإنسان، قائلين أن النظريات الدينية ما هي إلا خرافات متناقضة مثل خرافة آدم وحواء. إنها خرافات وأساطير لا تتلاءم مع النظريات العلمية ولا تواكب التجديد الذي نعيشه اليوم على كافة مستويات الحياة. ويرى الملحدون أن الأديان عملت ولا تزال تعمل على تقسيم الشعوب وعلى إذكاء الحروب التي لم ينتج عنها سوى الكراهية والحقد والعنصرية والكذب وغسل العقول والتعصب. فالمتدين لا يعمل عقله إلا في أديان الغير ولا يعمله مطلقا في دينه، وبالتالي فإن كل الأديان ما هي إلا أمراض تعاني منها البشرية لأنها تمنعها من البحث عن الحقيقة ومن التعايش السلمي. من الجمل الدالة على هذا الطرح: "1400 عام ماعاشو حتى لحظة سلم وقالك دين التسامح والسلام"، أو "حديث محمد "من بدل دينه فاقتلوه" هو أكبر اعتداء على حقوق الإنسان، هل هذا دين محبة وسلام"؟ في كلمة واحدة، تجمع الصفحات الفايسبوكية الإلحادية على أن الأديان ما هي إلا مضرة إلى الإنسان وإلى الإنسانية.

أيضا، يرفض الإسلام انطلاقا من الصورة التي ينتجها عن المرأة ("نساؤكم حرث لكم"، "كيدكن عظيم"، "ناقصة عقل ودين"...) وانطلاقا من الحقوق الدونية التي يمنحها للمرأة (البنت ترث نصف ما يرث الولد، لا حق للمسلمة في التزوج بغير المسلم، لا حق للمرأة في الجنس قبل الزواج أو خارجه خلافا للرجل وحقه في الجنس مع الجواري، إمكانية اتهام الزوجة بالزنا من طرف زوجها أما العكس فغير وارد، ضرب الزوجة عند النشوز...). وينتهي نقد وضع المرأة في الإسلام بنقد محمد نفسه: "لا يوجد من هو أجهل وأكثر تمييزا ضد المرأة وأكثر ذكورية من محمد"[12]. ويرفض الإسلام أيضا لأنه شرعن العبودية والرق: "أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ فَقَدْ كَفَرَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ" (حديث). وقوله "أبق" يعنى هرب وخرج عن الطاعة. خلاصة القول حسب الصفحة، "الإسلام يمنعنا من أن نكون أحرارا".

بالإضافة إلى الأنترنيت، تجدر الإشارة إلى أن الملحدين المصريين أتيحت لهم الفرصة للتعبير عن نفسهم في برنامج حواري تحت عنوان "الباب المفتوح"[13]، وهو برنامج حول الإلحاد في مصر، في حلقات، من تنشيط إيمان أبو طالب. وقد شارك فيه عدد من الملحدين الشباب، رجالا ونساء، بشكل فردي أو جماعي، بوجه مكشوف أو بوجه غير مكشوف. ومن الحلقات المتميزة تلك التي جمعت بين شاب ملحد حافظ للقرآن كان أستاذا لمادة التربية الإسلامية ثم ألحد وبين فقيه يمثل وزارة الشؤون الدينية في مصر. وقد تميزت هذه المبارزة ببرهنة الشاب الملحد على تناقضات القرآن وعلى حثه على القتل والعنف انطلاقا من آيات معينة، الشيء الذي دفع الفقيه مناداة الوكيل العام المصري لإلقاء القبض على الشاب الملحد، لا لكونه ملحدا وإنما لحمايته من غضب الشارع، وفي ذلك عجز عن الرد ونفاق كبير من طرف الفقيه. وأكد الشاب المصري أن الملحدين طبيعيون، وأن الملحد الحقيقي هو الذي لا يؤمن بالعلم، وأنه غير مسموح للفقهاء التحدث في النظريات العلمية نظرا لجهلهم العلمي بها. هناك أيضا قنوات مصرية أخرى عالجت الموضوع نفسه من خلال برامج مختلفة مثل برنامج "البط الأسود".

4- التحليل الترابطي : 

من المعلوم أن المقاربة السوسيولوجية لا تعمل بمفهوم السبب لأنه مفهوم يفرض الحتمية، بمعني أن "نفس الأسباب تؤدي دائما إلى نفس النتائج". ونظرا لأن الحتمية السببية متعذرة في مجال الظواهر الاجتماعية المعقدة والمتشابكة، استبدل مفهوم السبب بمفهوم الترابط (corrélation) الذي يقضي بوجود علاقة تزامن بنيوي بين ظاهرتين (وهو الترابط الإيجابي) أو يقضي بتناف بين ظاهرتين (الترابط السلبي). وبالتالي يجدر بنا أن نتساءل أولا عن العوامل الاجتماعية التي ترتبط بالإلحاد، سلبا أو إيجابا، بشكل عام والتي يمكن أن تنطبق على العالم العربي في حال وجود دراسات سوسيو-إحصائية متينة، وثانيا عن الترابطات الخاصة بالعالم العربي والتي يمكن اعتبارها فرضيات عمل.

4-1- الترابطات السوسيولوجية العامة : 

في هذا الإطار، تقر سوسولوجيا الدين بالترابطات التالية بين:

- السن والإلحاد: الكثير من المراهقين يفقدون الإيمان بالله خلال دراساتهم الثانوية، وهي الفترة التي تتميز بسيطرة الفكر الميتافيزيقي على نمط تفكير المراهق، أي كثرة التساؤلات الفلسفية عن معنى الحياة والوجود وعن الله... فالترابط هنا ترابط سلبي، بمعنى أنه كلما انخفض السن كلما ارتفعت حظوظ الإلحاد.

- الجندر والإلحاد: الإيمان بالله أكثر انتشارا في صفوف النساء (بالمقارنة مع الرجال)، لكنهن إلاهويات (déistes) أكثر مما هن متدينات (religieuses)، بمعنى أن المرأة تؤمن بالله دون أن يرتبط إيمانها بدين معين، وطبعا دون ممارسة طقوس وشعائر[14]. فالمرأة أميل إلى النزوع إلى الاتحاد بالذات الإلهية دون وساطة دينية، وهو ما يشكل حسب رايش حنينا (نوستالجيا) لاشعوريا إلى الذروة الجنسية (المفقودة)، أي إلى العجز عن الاتحاد الحميمي برجل. مبدئيا، الترابط إيجابي بين الرجولة والإلحاد، وسلبي بين الأنوثة والإلحاد انطلاقا من مقاربة تحليل نفسية.

- التعليم والإلحاد: أشارت دراسة نُشرت في مجلة الطبيعة (Nature)[15] أن الغالبية العظمى من العلماء والعباقرة ملحدون، وأن نسبة التدين انخفضت بين العلماء من 27% عام 1914 إلى 7% عام 1998 . فالملحد الحقيقي هو العالم الذي يعتمد على نظريات علمية معروفة مثل نظرية التطور (داروين) ونظرية "الانفجار الأعظم" (Big Bang)، وهما النظريتان اللتان تفندان أسطورة آدم وأسطورة الخلق (من عدم) الدينيتين. ففي سنة 1998، نجد أن 7 في المائة فقط من العلماء الأمريكيين المنتخبين في "الأكاديمية الوطنية للعلوم" كانوا مؤمنين، في حين أن 20 في المائة كانوا لا أدريين، أما 73 في المائة فهم ملحدون[16] . وبالتالي، يتجلى أن نسبة المؤمنين ضمن العلماء ضعيفة مقارنة مع نسبة المؤمنين في المجتمع الأمريكي والتي تصل إلى 76 في المائة. وفعلا لا تتجاوز نسبة الملحدين أو اللاأدريين في المجتمع الأمريكي نسبة 7 في المائة[17]. كما تبين نفس الدراسة وفي نفس الاتجاه أن نسبة الملحدين أو الأقل تدينا هي أعلى في صفوف الذين ولجوا الجامعة وأنهوا دراستهم فيها. نستخلص من هذه المعطيات الميدانية أن الترابط هنا إيجابي، فكلما ارتفع المستوى العلمي كلما ارتفعت حظوظ الإلحاد.

- المستوى الاقتصادي والإلحاد: ينخفض التدين كلما ارتفع الرفاه المادي للأفراد، ذلك أنه كلما كان الإنسان غنيا، كلما عرف نفسه كإنسان غير متدين [18]. ويدعم هذا الترابط ما قاله ماركس عن الدين في أنه أفيون الشعب الذي يساعد الفقراء على تحمل الحرمان وعلى انتظار الآخرة للتلذد بالمتع الحسية المادية.

4-2- الترابطات الخاصة : 

لا شك أن عوامل السن والجندر والتعليم والمستوى الاقتصادي تلعب دورا في تحديد مستوى انتشار الإلحاد في العالم العربي، وهي فرضية مقبولة إلى حد بعيد، كما يتبدى ذلك في حالة الترابط بين العلم والإلحاد.

4-2-1- الترابط الأول: المستوى العلمي/التعليمي والإلحاد : 

إن ضعف عدد العلماء العرب وضعف المستوى التعليمي يقلل من حظوظ انتشار الإلحاد في العالم العربي. فالسياسات التعليمية المتبعة لم تمكن لا من القضاء على الأمية ولا من إنتاج فكر يومي متحرر لمواطن متحرر من قيود التراث الديني ومن واجب الامتثال إليه. ويقدر عدد الأميين في العالم العربي اليوم بحوالي 70 إلى 100 مليون نسمة، أي ما يُمثل نسبة 27% من سكان المنطقة. وتبلغ نسبة النساء من الأميين حوالي 60 إلى 80%. أما حسب "المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة" “إيسيسكو”، فإن العالم الإسلامي فشل في محو الأمية، إذ تبلغ نسبة الأمية في دولهِ حوالي 40% في صفوف الرجال و65 في المائة في صفوف النساء (سنة 2014). ناهيك عن عدد أنصاف الأميين الذين لفظتهم المدرسة عند متم التعليم الابتدائي. ويعني ذلك انحسار سيرورة التفرد والوعي، فكلما انخفض المستوى التعليمي للفرد إلا وانخفضت قدرته على التميز والاستقلال عن الجماعة. وهنا يجب التنصيص على أن الإلحاد ضرب من الاستقلال عن الجماعة وعن الفكر الجمعي. إضافة إلى ذلك، نجد أن المدرسة العمومية في العالم العربي تخدم الإسلام وتعمل على إنتاج المسلم الطيع المتيقن من تفوق الإسلام ومن أفضلية المسلم لمجرد أنه مسلم. وبالتالي، يؤدي عدم حياد المدرسة الديني إلى إهمال صنع المواطن الحر وإلى ضعف انتشار الفكر النقدي الحر الذي يشكل القاعدة الفكرية للإلحاد. فالإلحاد العربي مرتبط بنخبة مثقفة لا تمثيلية (ظاهرة) لها من أمثال طه حسين، زكي محمود نجيب وصادق جلال العظم (الذين جاهروا بإلحادهم بكل شجاعة)[19]. وجدير بالملاحظة أن هذه الأسماء ترتبط بالأدب والفلسفة. فالفلسفة اعتبرت ولا تزال البوابة الرئيسية للإلحاد سواء في المنظور الشعبي أو في المنظور الدولتي الرسمي العربي. في هذا السياق، نجد أن معظم الطلبة في كليات العلوم الدقيقة لهم توجه إسلاموي لأنهم بالضبط يفتقدون ثقافة أدبية وفلسفية تحميهم من الوقوع السهل في أحضان التيارات الإسلاموية. أما البحث العلمي في العلوم الحقة الدقيقة (أسترو-فيزياء، كيمياء، بيولوجيا...)، فهو شبه منعدم في العالم العربي ولم ينتج أبدا علماء لهم حضور على المستوى الوطنى أو الجهوي أو الدولي. أدهى من ذلك، تطلق صفة "العالم" على المتخصص المفتي في العلوم الإسلامية، بل وتمأسس هذا الفعل من خلال خلق "المجلس العلمي الأعلى" في المغرب مثلا الذي لا يضم عالما واحدا من خارج التخصص في العلوم الإسلامية.

4-2-2- الترابط الثاني: الإرهاب والإلحاد : 

مع بداية موجة التطرف في الجزائر في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، ومع الكم المفزع من الجرائم التي ارتكبتها الجماعات الإسلاموية المسلحة ضد الأطفال والنساء والشيوخ، أصبح الإلحاد واللادينية أسلوبا ينتهجه بعض الأفراد للتعبير عن رفض الإرهاب. وبدأ رجل الشارع البسيط يعبر عن ازدراءه للدين[20]، بل ويشكك ويهاجم أو ينكر وجود الله نفسه. فالعديد من الملحدين في العالم العربي ألحدوا لأسباب اجتماعية وسياسية وإنسانية تتمثل في رفض قتل الآخر باسم الدين وفي رفض تشريع إسلامي يمأسس و"يخلد" حدودا عقابية وحشية (بتر الأعضاء، ضرب الأعناق، الرجم، الجلد، التصليب...). كل ذلك يعني أن ممارسات الجماعات الإسلاموية التكفيرية نفرت البعض، وخصوصا الشباب، من الدين الإسلامي ومن الإيمان بالله. فالإسلام السائد اليوم، إعلاميا، إسلام دعوي وجهادي ينطلق من قراءة سطحية حرفية للنصوص المقدسة، وهو ما لا يقاوم حدا أدنى من العقل والمنطق. في كلمة واحدة، أصبح الإسلام محرك الإرهاب (داخل العالم العربي-الإسلامي وخارجه) ومحرك الحروب الطائفية بين المسلمين، وهو ما أدى به إلى فقدان سحريته (désenchantement). ونتج عن ذلك رفض الشعار القائل "الإسلام هو الحل".

4-2-3- الترابط الثالث: النسائية والإلحاد : 

في صفوف النساء النسائيات (féministes) المقتنعات بمبدأ المساواة في الحقوق بين المرأة والرجل، تتم إعادة النظر في الدين من جراء رفض الوضع المخصص للمرأة في النص الديني أو في الأسرة العربية الأبيسية. وكلاهما يعزز الآخر. فالأسرة تفرض قيودا صارمة على الفتاة وعلى المرأة انطلاقا من تراث أبيسي يعززه التطبيق الحرفي للنص الديني، بدءا من فرض الحجاب وانتهاء بمنع كل علاقة جنسية قبل-زواجية مرورا بطاعة الزوج. في هذا السياق، تقول إحدى الفتيات المغربيات المستجوبات في إطار مقابلة صحفية: "كنت أحس بالعجز، لا يمكنني أن أمثل في مسرحيات لأنني أنثى، لا يمكنني أن أخرج وحدي، لا يمكنني أن أسافر وحدي، لا يمكنني أن ألبس ما أريد ولا أن أقول ما أريد... فقط لأنني أنثى. وكثيرا ما كنت أتساءل عن سبب كل هذا، وكلما بحثت وجدت أن السبب يكمن في الدين.[21]" وحسب مستجوبة أخرى، "فإن الديانات كلها ابتداء باليهودية وانتهاء بالإسلام، كلها تشيؤ المرأة، فالمرأة في نظرها ليست إلا وعاء لا دور له إلا إشباع شهوات الرجل في المتعة والإنجاب". وتشدد نفس الفتاة على أن سيرة "النبي محمد" خير دليل على ذلك، فهي "مليئة بقصص الاغتصاب والنساء والجواري والنكاح"... "كيف لامرأة سليمة العقل أن تؤمن بدين يقبرها ويقتل إنسانيتها ويجعلها عبدا للرجل"؟ وخلصت الصحفية إلى النتيجة التالية "(كل الفتيات) أكدن على استحالة تدينهن بديانة "تظلم" المرأة وتحرمها من حريتها بل حتى من أبسط حقوقها، ما جعلهن يجدن في ابتعادهن عن الدين راحتهن وتوازنهن النفسي، بل وحتى العقلي". لا شك أن موقف الفتيات المتمردات موقف نسائي (féministe) يطالب بحقوق النساء كحقوق إنسان وبالمساواة بين الجنسين (في الحقوق). وهو ما عبرت عنه فتاة أخرى، تقول أنها عربية، لا مسلمة[22]، حين طلبت من رجل أن يضع حجابا عند الصلاة (من أجل المساواة). وتقول الفتاة أن شكها الديني انطلق لديها منذ الصغر في شكل نسائية غير إرادية ومبكرة، وأنها اكتشفت أن "الله غير عادل" عند تمييزه بين الرجال والنساء في الحقوق.

وفي صفوف المشاهير من النساء، جاهرت الصحفية والكاتبة اللبنانية جمانة حداد بإلحادها في الوسائط السمعية-البصرية، مما عرضها لحملة إعلامية شرسة منعتها من إلقاء محاضرات في البحرين مثلا. ومنذ تلك الحملة، ربطت حداد، حسب قولها[23]، علاقات مع الكثير من الملحدين واللأدريين في البحرين وفي السعودية.

4-2-4- الترابط الرابع: الإلحاد والمثلية الجنسية : 

حسب إسحاق إبراهيم، تعتبر السلطات المصرية الإلحاد انحرافا أو مرضا عقليا يجعل صاحبه إنسانا غير قادر على اتخاذ القرارات الصائبة، وفي حاجة إلى علاج بأقراص الهلوسة والصرع[24]. وتنزع تلك السلطات إلى الخلط المتعمد بين الملحدين والمثليين فتقمع المجموعتين معا لتلميع صورتها كمدافعة عن النظام الأخلاقي والديني، ولمنافسة التيار الإسلاموي في هذا المجال. إن جريمتى المثلية والإلحاد مرتبطتان بالنظر إلى كون اللواط اعتبر ممارسة شاذة مضادة للطبيعة، ومن ثم شكل قذفا في حق الذات الإلهية. فهي، أي المثلية، مثلها مثل الإلحاد، رفض للنظام الإلهي. وقد أثبت بحث الدكتور عبد الصمد الديالمي سنة 2000 عن الرجولة في المغرب هذا الترابط بين المثلية والإلحاد حيث عبر الكثير من المبحوثين المغاربة عن كون المثلي ينكر وجود الله من خلال سلوكه اللوطي اللامتدين فيصير مثل الحيوان الذي لا يعرف لا الله ولا الدين[25].

من جهة أخرى، واضح أن الإسلام (كباقي الديانات التوحيدية) يدعو إلى محاربة المثلية الجنسية، بل وإلى قتل المثليين (الحديث)[26]. إنه إذن دين هوموفوبي يخاف المثلية (دون سبب معقولhomophobe)، وهو ما ينفر المثليين منه، ومن إلهه الذكر بامتياز، ومن رسوله الذي يرفض الاتجاه الجنسمثلي (orientation homosexuelle) كاتجاه طبيعي لاإرادي، ومن فقهاء متعصبين لسجن النشاط الجنسي في الزواج الغيري (mariage hétérosexuel).

4-2-5- الترابط الخامس: غياب الحرية الدينية والإلحاد : 

إن الإنسان العربي ليس حرا في الحديث عن علاقته بالدين لأنه ليس حرا في علاقته بالدين. فالأنظمة العربية ليست ديمقراطية ولا هي علمانية بشكل عام، وتجعل من الإسلام أساسا لشرعيتها فتجعل منه دين الدولة وتعتبره أحد مصادر التشريع (إن لم يكن الأوحد). ومن ثم فإنها تفرض الدين على الفرد وتعتبره مؤشرا دالا على انتمائه للوطن. وقد أنتج الاستبداد السياسي نفورا من الدين ومن التدين، فخضوع الدين لسلطة سياسية مستبدة يدفع الإنسان إلى اتخاذ موقف سلبيا ونقديا من الدين ومن التدين ومن الله. وبما أن اللاتدين والإلحاد يعرضان أصحابهم إلى الوصم وإلى التهميش وإلى الاضطهاد، فإن الخوف يدفع إلى الإخفاء وإلى التقية. ذلك أن اللاتدين والإلحاد يعتبران من أهم أشكال الردة عن الإسلام، أي خروجا عن الجماعة ورفضا (سياسيا) للحاكم (بالأساس).

ما الذي يجعل المجتمع العربي متشبثا بالدين وبتقييم الفرد استنادا إلى درجة تدينه (المعلن الظاهر)؟ إن ضعف التنمية وهشاشة الديمقراطية (حين توجد) في المجتمع العربي يقف ضد بزوغ الفرد، أي ضد الكائن المستقل عن الجماعة والحر في قناعاته وفي اختياراته القيمية والسلوكية. فالمجتمع العربي مجتمع جمعي تلعب داخله نظرة الآخر دورا أساسيا ومؤسسا، فهي نظرة تقضي بالموت الاجتماعي (والجسدي أحيانا) ضد الإنسان الذي يخرج عن الإجماع، أي عن العقد الاجتماعي المؤسس للجماعة وللانتماء إليها[27]، والمتمثل في الإسلام أساسا. لذلك، لا قدرة للإنسان العربي على إعلان إلحاده كقرار فردي مسؤول وكاختيار حر له الحق في الوجود وفي التعبير. خير مثال على ذلك، دون أن يصل الأمر إلى الإلحاد، ما وقع لمحمد بنعبد الجليل الذي تمسح سنة 1928 بباريس وأصبح راهبا، فما كان من أسرته بفاس إلا أن أخرجت تابوتا فارغا من منزلها معلنة عن وفاة ابنها المرتد، بمعنى أنها تقطع كل صلة مع ابن قطع صلته بالإسلام. فالإسلام هنا يتحول إلى عامل مؤسس محدد للأسرة، متجاوزا بل ونافيا لدور القرابة الدموية في تحديد مؤسسة الأسرة.

من ثم نخلص إلى الإقرار بوجود ترابط إيجابي بين غياب الحرية الدينية (على مستويات الدولة والمجتمع والأسرة) وبين تدني نسبة الإلحاد، أو على الأقل نسبة المجاهرة به، فالمجاهرة به مخاطرة وجود.

خاتمة : 

من النتائج الهامة التي سجلها بحثنا هذا، ضعف انتشار الإلحاد في المجتمع العربي. لكن هذه النتيجة إشكالية في ذاتها لأن عالم الاجتماع العربي غير متأكد من مصداقيتها. فقلة عدد الملحدين العرب يمكن أن يرجع أساسا إلى الحرص على عدم المجاهرة بالإلحاد بالنظر إلى ما ينتج عن الإلحاد من انعكاسات اجتماعية وسياسية سلبية على حياة "المواطن" العربي. وهو الشيء الذي يبين أن سوسيولوجيا الدين لا تستقيم في مفهومها العلمي الكامل إلا في جو من الحرية الدينية الضامن لحرية العقيدة. وربما يعود الضعف الإحصائي للإلحاد للمناهج البحثية المتبعة التي لم تتكيف مع الواقع العربي ومع تخلفه في الحقل الديني، والتي لم تستطع بالتالي التحايل على الرقابة الذاتية المفروضة من طرف أنظمة اجتماعية وسياسية قاهرة. وبالتالي لا بد من التنويه بدور الأنترنيت في فك الحصار المضروب على القول الإلحادي، فالفضاء الافتراضي يشكل اليوم آلة مهمة للمجموعات الملحدة العربية تمكنها من الإعلان عن وجودها وعن حقها في الوجود والتعبير.

من جهة أخرى، يفيد الدرس السوسيولوجي 1) في تشخيص التعبيرات العربية للإلحاد من خلال تحليل مضمون المواقع والصفحات الإلحادية الإلكترونية، 2) في تفسير الإلحاد العربي من خلال ربطه بمتغيرات خاصة مثل تدني المستوى العلمي وارتفاع وتيرة الإرهاب الديني وغياب الحرية الدينية وتصاعد الحركات النسائية والمثلية، 3) في فهم الإلحاد العربي من خلال تحويله إلى "ظاهرة"، أي إلى شيء شاذ غير سوي من طرف قوى اجتماعية متزمتة ومن طرف قوى سياسية استبدادية تستعمل الدين لإنتاج رعايا طيعين. في هذا الإطار، اتضح أن النسائية تحول النساء والرجال المقتنعين بالمساواة إلى ملحدين، على الأقل بالمعنى الفقهي الإسلاموي المتشدد الذي يعتبر رفض الشريعة (في بعدها الحرفي) كفرا، أي إلحادا. ومن ثم فإن النسائية كحركة اجتماعية تقوم بتحييد مفعول الجندر الذي يجعل من المرأة كائنا أميل إلى الإيمان بالله، وذلك من خلال دفعها بالمرأة إلى إعادة النظر في الدين وفي وجود إله تمييزي غير عادل.

من توصيات هذا البحث، السهر على دفع المجتمعات والسلطات السياسية العربية إلى الانتهاء من اعتبار الإلحاد (وكل أشكال الردة) مرضا أو جريمة أو خيانة وطنية أو لا أخلاقية أو لا روحانية. فالملحد إنسان سوي في نظر الطب العقلي (مثله مثل المؤمن)، إنسان لا يرتكب جريمة عند إنكاره لوجود الله (في منظور ميثاق حقوق الإنسان)، إنسان لا يحارب الوطن إذا جادل مواطنيه من المؤمنين في وجود الله وفي أفضلية الإسلام. كما أن الملحد يعيش وفق أخلاق مدنية غير ترهيبية (النار، العقاب) تجعله يفعل الخير من أجل الخير (وليس طمعا في جنة)، وفي تلك الأخلاق المدنية سمو وتعال نحو قيم روحية لا تحتاج إلى غيب وإلى تغييب العقل . آن الأوان للانتهاء من الترادف الآلي بين العربي والمسلم، بين العربي والمؤمن، بين العربي والمتدين. آن الأوان لاعتبار الدين مكونا اختياريا في تركيب هوية الفرد إذا أردنا أن يكون الفرد العربي مواطنا حقا. "فالهوية القانونية للفرد في الدولة العصرية تتأسس على دفتر الحالة المدنية وعلى بطاقة التعريف الوطنية، وهما وثيقتان لا تشيران إلى الانتماء الديني. ويعني هذا أن العامل الديني لا يؤخذ بعين الاعتبار في التعريف الرسمي بهوية الفرد"[28]. إن الحق في الإلحاد (وفي الإيمان) مقترن بمشروع التحرر الاجتماعي والفردي الذي يمر اليوم بفترة انتقالية حاسمة في صيرورة المجتمع العربي.

من جانب آخر، تعتبر آية "لا إكراه في الدين" أساسا لحرية العقيدة بالنسبة لقراءة حداثية للقرآن. لا بد من العمل بالآية "لا إكراه في الدين" في عمومية لفظها قصد تطهير الإسلام من كل من لا يؤمن حقا ومن كل من تأسلم من جراء تنشئة غير اختيارية لم يعد يتبناها عند الرشد. من أجل تخليص الإسلام الحديث من المسلم الصوري، لا يمكن العمل بحكم الردة... فكما نفرح عند اعتناق الراشد للإسلام، ينبغي أن نفرح عند ترك الراشد للإسلام إن كان غير مقتنع به حتى نطهر الإسلام من كل "مسلم" مكره. إن العلمانية اعتراف للفرد بالحق في اختيار تدينه أو لا تدينه حتى يعاش التدين كمسؤولية. فالعلمانية إذن ليست دعوة إلى الإلحاد وليست إلحادا، إنها إقرار بالمساواة بين كل الأديان، إنها احترام لكل عقيدة ولكل لا عقيدة). "العلمانية لا إكراه في الدين"[29]. إنها الحل من أجل التسوية بين كل المواطنين والمواطنات، ومن أجل الخروج من منطقي الذمية والتكفير.

المراجع : 

[1] Abdessamad Dialmy:

- "La liberté religieuse ou l'enjeu absent des droits de l'homme au Maroc", XXVIème conférence de la SISR "Les interprétations actuelles de la religion. La pluralité des processus et des paradigmes", Ixtapan de la Sal, Mexique, 20-24 août 2001

- «Conversions et pluralisation religieuse au Maroc», XXXI ème Conférence de la Société Internationale de Sociologie des Religions (SISR), Les défis du pluralisme religieux, Saint Jacques de Compostelle (Espagne), 27-31 juillet 2009

[2] ج. طرابيشي: "من إسلام القرآن إلى إسلام السنة"، دار الساقي، 2010

[3] The Global Religiosity and Atheism Index 11

[4] http://majles.alukah.net/t139995/

[5] “Private Syrian Atheists Network” شبكة الملحدين السوريين الخاصة

[6] “Les religions sont un produit de l’homme” (الأديان من صنع الإنسان)

[7] “Les Apostats libres” (المرتد الح)

[8] “Athées tunisiens”

[9] http://www.courrierinternational.com/article/2014/03/13/facebook-refuge-des-libres-penseurs

[10] https://www.youtube.com/watch?v=0F79G0dkf80

[11] "عندما شاهدت عدوان إسرائيل على غزة، استنتجت أن الله غير موجود، وإلا لدافع عن الضعفاء"، شهادة طالب، 23 سنة، في عبد الصمد الديالمي، "Conversions et pluralisation religieuse au Maroc", op.cit.

[12] "Plus ignare, plus sexiste et macho que Mahomet il n’en existe pas".

[13] https://www.youtube.com/watch?v=QIVHoR_1C2g&index=2&list=PL3UWYjowlv43z5WD4JilP0Gta5I_9fHje

[14] Enquête du Pew Research Center 2014 http://www.pewforum.org/religious-landscape-study/

[15] https://ar.wikipedia.org/wiki/1998

[16] Ibid.

[17] Enquête du Pew Research Center 2014 http://www.pewforum.org/religious-landscape-study/

[18] Global Index, op.cit, p. 5

[19] وهم إلى حد ما امتداد للراوندي، الرازي، المعري، ابن المقفع، الذي قال: "الدين تسليم بالإيمان، والرأي تسليم بالاختلاف، فمن جعل الدين رأيا عرضه للاختلاف، ومن جعل الرأي دينا قدسه".

[20] https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A5%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%AF#cite_note-24

[21] كريمة أحداد: "الإلحاد أو حكايات مغربيات رفضن قيود المجتمع والدين"، هيسبريس، 18 يونيو 2013،

http://www.hespress.com/societe/82021.html

[22] «Arabe, pas musulmane», http://www.slate.fr/tribune/45165/arabe-athee

[23] Invitée à Manama en avril pour le Printemps de la culture, Joumana Haddad, athée, féministe et pro-LGBT, vient de se voir refuser l'accès au royaume.

http://www.liberation.fr/culture/2015/03/20/une-poetesse-libanaise-interdite-de-conference-a-bahrein_1224935

[24] http://orientxxi.info/magazine/haro-sur-les-homosexuels-et-les,0803

[25] Abdessamad Dialmy:

- Vers une masculinité nouvelle au Maroc, Dakar, CODESRIA, 2009,

- «Masculinity in Morocco», in What about Masculinity, Al-Raida, Lebanese American University, Vol XXI, N° 104-105, Winter/Spring 2004, pp. 88-98,

- «Sexualités et masculinités au Maroc», Etudes et Travaux de l’Ecole Doctorale, Des hommes et du masculin, Université Toulouse le Mirail, N° 9, 2006, pp. 19-26.

[26] "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" (حديث)

[27] A. Dialmy: «Belonging and Institution in Islam», Social Compass, Sage, London, 54 (1), 2007, pp. 63-75.

[28] عبد الصمد الديالمي: "الهوية والدين"، آفاق (مجلة اتحاد كتاب المغرب)، عدد 74، يونيو 2007، ص ص 79-92

[29] عبد الصمد الديالمي: "نحو إسلام علماني"، الأحداث المغربية"، ديسمبر 1998. وهو نفس المقال الذي أعيد نشره في كتابي "المدينة الإسلامية، الأصولية والإرهاب"، دار الساقي، 2009



   نشر في 26 يوليوز 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا