ماذا يفعل شابٌ في العشرين ! | كريم أبو الروس .
صرت أبحث عن نفسي ولا أجدني سوى ماضياً لا يصدر صوتاً .
نشر في 12 فبراير 2017 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
الساعةالسادسةصباحاً:
أستيقظ كل صباحٍ محادثاً كل هؤلاء الأطفال الذين يعيشون داخلي، يوماً بطفلٍ يركض إلى الأفق، وآخراً بطفل مشاغبٍ كما لو أنه فراشة شرسة، والكثير من الأيام هنالك طفلٌ مختبأٌ في زاوية مظلمة من قلبي، حزينٌ للغاية يبحث عن ضوء صغير في شوارع هذه المدينة، يرى كل هذه المشاهد بتكرارها وبسياقها التصويري كل يوم، كل دقيقة، ويراقب نفس الوجوه، يلامس نفس الأيادي، ينزعج بالطريقة ذاتها، ويبكي دون سبب، صارخاً بأعلى صوت، بنزهة وراء ستائر المدينة على لساني المعقود .
لاَ بُدَ أن تأخُذنا السماء فيِ نُزهةٍ، فالطريقةُ التي نعيش بها لا تطاقَ أبداً، صرتُ أحفظ الوجوه التي أراها كل يوم، وأردد مغ السائق المدمن حديثه عن أحوال الناسَ، وأراقب الأصدقاء في نظراتهم إلى نساء المدينةَ، صرتُ روتينياً إلى حد يجعلنيَ حالمٌ بالركض في الغابات الواسعة، وعلى الشواطئ التي لا يزورها أحدٌ سواي، صرتُ أحلم بأن ألتقط الصور أمام البنايات الشاهقة، التي أراها على التلفاز، والتي لربما لم يحالفني الحظ في رؤيتها فإنقطاع التيار الكهربائي يشتت برنامج المشاهدة، هنالكَ الكثيرُ من التقليدية في حياتناَ، حتى أن المقاهي باتت مستهلكةَ وقهوتها رديئة الجودة، لا رائحة للفرح في هذه الأماكن، كل الوجوه بائسة، وكل الأيادي خشنة حين تمد قلبكَ لتلقي التحية، غزةَ ليست مجرد مدينة في هذا العالم، هي فرشاة لا تحبُ إلا اللون الأسود، إنني ألجأ للكتابة أحياناً، لأكملَ ما تبقى من أحلامي خارج هذه المدينة، أخاف أن أصرحَ بما سأفعله حين أخرج من غزة أمام أهلها، فهم دائماً ما يخافون الخروج من الإطار، إطار للوحة سوداء قاتمة، كل من فيها يبحثٌ عن سريرٍ لينام إلى الأبد .
لا بد أن تأخذنا السماء في نزهةٍ، من غير المعقول أننا لم نجرب لمرة واحدة أن نغني في الشوارع، دون أن يسألنا رجال المخابرات عن ديننا وعن علاقاتنا، ولم نجرب لحظات الجنون تلك التي تجعلك تتحدث مع شخص غريب بلهجة غريبة، وتمازحه بالعربية التي لا يفهمها ثم تضحك كثيراً، لم نجرب أن نقفز بين الجمهور الكبير في حفل موسيقي صاخب، ولم نجرب دور السينما التي يملؤها حنين القلوب ونكهة السعادة، ولم نجرب أن نلتقط الصور في أماكن لا نعرف أسماءها ونمضي إلى البيت نفتش عن الذاكرة، لم نجرب أن نأكل طعاماً غريباً من باب الفضول، ولم نجرب أن نتراشق بكريات الثلج ثم نقع أرضاً ونضحك، لم نجرب كل تلك الأشياء التي تجعلك سعيداً، إننا نحلم حتى بأن تأخذنا السماء في نزهة، مشهد متكرر من البؤس، وأعتقد أن الحاكم يجلس على كرسيه مستمتعاً بكل ما يحدث .
الساعة السابعة مساءاً :
على طاولة المقهى أربعة وجوهٍ مألوفة، تصدر أصواتاً أحفظها جيداً، أعرف ما يدور في رؤوسهم، يتساءل كل منهم، عن النزهة التي نريد لله أن يأخذنا إليها، يعتقد كلٌ منهم أنني أدرك تماماً ماهية الحياة التي يريدونها، ولكنني في الحقيقة لم أرى شيئاً على الطاولة يهيأ لي أننا على أحقية بهذه النزهة، فنحن أشبه بفراغ يجلس على كرسي، تردد دوماً أحلام أسطورية، لا واقع لها، يخرج كل منا إمرأة تسكن خياله، يحدثن أنفسهن عما يدور في قلوبنا، سواد ينتهي بفراق طويل كما لو أن شيئاً لم يكن ولن يكون .
ماذا يفعل شاب في العشرين في مدينة عشرون حلمٌ يسكنها، ولا يتحقق فيها سوى الموت .
-
كريم أبو الروسكريم أبو الروس من قطاع غزة كاتب وناشط مجتمعي وحقوقي، طالب علوم سياسية في جامعة الأزهر .
التعليقات
وما أضيق العيش في هذا الوطن لولا فسحة الأمل ، وكل الأمل في وجه رب العالمين
مقال رائع ولغة راقية جدا ، أحسنت يا صديقي.